لازال موضوع الوجود العربي/الإسلامي ببلاد الأندلس يثير اهتمام نخب الباحثين الإسبان المعاصرين، ولازالت قضايا التأثيرات الإسلامية على مرجعيات الهوية الثقافية الإسبانية الراهنة مثارا للجدال وللبحث وللتنقيب وللقراءة المتجددة من قبل قطاعات عريضة من باحثي إسبانيا المعاصرة وباحثيها ومثقفيها ومجموع مكونات الرأي العام الإسباني. ورغم أن الوجود الإسلامي ببلاد الأندلس قد استغرق فترة زمنية طويلة تجاوزت ثمانية قرون، فإن الإسبان قد استطاعوا مجابهة الحضور المباشر للقوة الإسلامية فوق أرض الأندلس، عبر جهود متواصلة لحصر التأثيرات العربية الإسلامية في المجالات الثقافية والرمزية فوق الأرض الإسبانية. وبما أن هذا المشروع قد شكل حلقات ممتدة في الزمن، فقد أصبحت مجالاته موضوعا متجددا باستمرار، استقطب باهتمام فئات عريضة من الباحثين الإسبان الذين تخصصوا فيما أصبح يعرف ب « الاستعراب الإسباني «، بتفرعاته المتشعبة وبتخصصاته المتكاملة. إنه موضوع يحظى بكل شروط التحيين العلمي، مادامت شظاياه أضحت تصيب مكونات مركزية في تركيبة الهوية الثقافية والحضارية لإسبانيا الأمس واليوم. ونكاد نجزم أنه لا يوجد موضوع أثار كل هذا السجال بين أوساط الباحثين والأكاديميين الإسبان خلال القرون الخمسة الطويلة الماضية، وترددت أصداؤه إلى يومنا هذا، مثلما هو الحال مع مجالات الاستعراب الإسباني التي أصبحت فيها الثقافة العربية، والمغربية تحديدا، عنصرا لاحما للكثير من المكونات النسقية للتعبيرات الثقافية الإسبانية المتوارثة. وفي الضفة الأخرى، أصبح الباحثون العرب أكثر اهتماما بفهم الخصائص التفكيكية لخطابات الاستعراب الإسباني، من خلال ربطها ببعديها المتنافرين، البعد الوظيفي المتحامل على القيمة الحضارية الإنسانية للحضور الثقافي الإسلامي ببلاد الأندلس، والبعد العلمي / الأكاديمي الهادف إلى استيعاب أسرار خصوبة العطاء الثقافي الإسباني الراهن، بتعدد جذوره وباغتناء مكوناته وعناصره الداخلية والخارجية على امتداد التاريخ الطويل لمنطقة شبه الجزيرة الإيبيرية. في هذا الإطار يندرج تخصيص دورية « المجلة العربية « الصادرة بالمملكة العربية السعودية، لمضامين عددها رقم 419 لشهر نوفمبر 2011، لإعادة مقاربة موضوع « الاستعراب الإسباني « من زاوية تتوخى رصد أبعاد جهود تجاوز عقدة التعصب والانتقال التاريخي لتوفير شروط تحقيق التصالح مع الحضارة الأندلسية، وفق قراءات تركيبية تسائل المنجز وتستشرف آفاق البحث في هذا المجال داخل إسبانيا الراهنة. ولتوضيح الإطار العام الذي انتظمت فيه مجموع مواد الملف، يقول الباحث عبد الباقي أحمد خلف : « ظهر مصطلح الاستعراب في الاستشراق الإسباني لما تميز به من أصول تاريخية عربية إسلامية، فالثقافة والعلوم الإسبانية تغذيهما روافد عديدة من أهمها الخلفية التاريخية التي تستقي علومها من الفتح الإسلامي الذي أضاء من إسبانيا / الأندلس على سائر أوربا بعلومه وثقافته وذلك ما يفسر رفض كثير من المفكرين الإسبان تسميتهم بالمستشرقين ويفضلون بدلها كلمة الاستعراب، نظرا لأنهم نذورا حياتهم لدراسة اللغة العربية وآدابها وحضارة المسلمين وعلومهم في شبه جزيرة إيبيريا بصفة خاصة « ( ص. 9 ). ويفصل الباحث عبد الله ثقفان بشكل دقيق سياقات هذه الحيثيات قائلا : « إن هذه المدرسة قد ركزت اهتمامها في البداية على ترجمة الكتب العلمية من فلك وطب وكيمياء ونبات .. كما ركزت الاهتمام على ترجمة الفكر اليوناني الذي قام بشرحه وتفسيره الفلاسفة المسلمون، وذلك في محاولة لاحقة لمسح هوية الفكر الإسلامي، ودور المسلمون في العلوم بشكل عام والدعوى أن الفكر ليس لهم، وإنما هو لمن تعلموا منه ... وبعد فترة من الزمن تحركت النزعة الدينية المتطرفة من جديد، وهي التي ساهمت في نشأة حركة الاستعراب الإسباني ... فعندما قويت شوكة المسيحية بشبه الجزيرة الإيبيرية، اعتبرت التراث الإسلامي شيئا دخيلا على إسبانيا. وهنا حل التطهير العرقي ضد المسلمين ليكون موازيا للتطهير الثقافي والفكري. وقد وصل هذا الأمر أوجه على يد محاكم التفتيش ... تلك التي وأدت الفكر الإسلامي بل قضت على كل شيء يمت له بصلة معينة ... إن إسبانيا خاصة بعد انتصارها على المسلمين، عبر حروب الاسترداد، قد استنفذت كل طاقاتها في الحروب سواء أكانت عسكرية أم عقدية، الأمر الذي جعلها تختلف عن الركب الأوربي بعد أن سيطرت عليها فئة اجتماعية طفيلية تتشكل من رجال الكنيسة والجيش، وهي فئة معروفة بازدرائها لكل ما له علاقة بالنشاط الفكري والمهني، فسعت لإخماد كل ريح آتية من الشرق، كما سعت لاستئصال كل ما لا يمت بصلة للثقافة اللاهوتية النصرانية. استمر هذا الوضع فترة طويلة من الزمن، ورقدت حركة الاستعراب الإسباني، بل غطت في نوم عميق، ولم تستيقظ من ضربة الكنيسة ورجالاتها إلا مع بداية القرن التاسع عشر ... «. ويتابع الدكتور ثقفان توضيح سياقات تبلور التيارات المركزية لحركة الاستعراب الإسباني قائلا : « إن المستعربين الإسبان في هذه الحقبة قد اكتفوا بما بقي من آثار للمسلمين، وهو كاف، واتجهوا لتوسيع دائرة اهتمامهم، ولكن ليس للشرق كما كان الأوربيون يفعلون، بل ليكون مكان استشراقهم غير الشرق، إذ اهتموا بالشمال الإفريقي، وبدؤوا في الاتجاه إليه، خاصة بعد حرب تطوان عام 1860 م. وهذا أدى إلى ظهور ما يسمى بالدراسات الأفريقانية الإسبانية ... « ( ص ص. 6 - 7 ). تتوزع مضامين ملف الاستعراب الإسباني بدورية « المجلة العربية «، بين مجموعة من الدراسات التقييمية والأعمال التحليلية الراصدة لآخر الاجتهادات ذات الصلة بالموضوع. في هذا الإطار، نجد دراسة لعبد الله ثقفان حول جذور الاستعراب الإسباني وتاريخه، وأخرى لعبد الباقي أحمد خلف حول آفاق التمازج الحضاري والحوار الثقافي الذي ورثته الأندلس عن قرون الوجود الإسلامي بشبه الجزيرة الإيبيرية. ومن جهته، تتبع حامد يوسف أبو أحمد مسيرة الاستشراق في إسبانيا، وتوقف محمد عبد الرحمن القاضي عند تجربة خوان بيريط باعتباره آخر المستعربين الكبار، وأثار محمد محمود البشتاوي ضرورات قراءة التاريخ الأندلسي بعيون عربية من خلال تفكيك خطابات الاستعراب الإسباني بما حمله من قيم الحنين للتعايش وللبناء المشترك. وتوقف إبراهيم حاج عبيدي لتفصيل الحديث عن خصوصية الاستعراب من خلال قراءته التركيبية لحصيلة المنجز الإسباني الراهن بهذا الخصوص. وفي دراسة تشريحية عميقة، ساهم عيسى الدودي في تحليل قصيدة « ابن عمار .. ابن عمار « باعتبارها إحدى روائع الرومانثيرو في الأدب الإسباني، وهي القصيدة التي كان قد نظمها مسلم غرناطي يتقن القشتالية. أما جميل حمداوي، فقد رصد - في دراسته - إسهامات الاستعراب الإسباني في خدمة الأدب الأندلسي. واهتم نجيب محمد الجباري بالنبش في سيرة ألفونسو العاشر ( الحكيم ) باعتباره أول المستعربين الإسبان. وتناول عبد الكريم أحمد أطخايش - في مساهمته- السياق اللغوي والتاريخي للاستعراب. وفي دراسة تركيبية، قدمت المجلة التصنيفات العامة لتيارات الاستشراق الإسباني المعاصر، وأزماته البنيوية التي اختزلها عنوان معبر جاء فيه : « أزمة الاستشراق والتعرض لنور العقل «. وبهذه المواد المتنوعة، استطاعت دورية « المجلة العربية « إعادة فتح ملف « الاستعراب الإسباني «، وفق رؤى تجديدية تساهم في التأصيل للمنطلقات العلمية في التعاطي مع الموضوع. فبعيدا عن « لعنة « الأحكام الجاهزة وعن « بؤس « القراءات المتآمرة، استطاعت مجمل المداخلات إعادة تنظيم النقاش حول التمثلات الإسبانية الراهنة لرصيد التراث الحضاري الذي خلفه المسلمون ببلاد الأندلس. كما استطاعت المجلة وضع المنطلقات الارتكازية لإعادة قراءة شتات المكونات المتداخلة والناظمة للهوية الثقافية الإسبانية المعاصرة، مسيحية وإسلامية ويهودية، بغزارة عطائها الخصب والمتعدد والتي لازالت ترخي بظلالها على مجالات جغرافية واسعة بضفتي البحر الأبيض المتوسط الشمالية والجنوبية.