كنت عازما على إصدار كتاب في خريف السنة الحالية، يناقش سؤال السياسة بالمغرب الراهن. وبالفعل كنت قد تمكّنت من وضع اللمسات الأخيرة لأغلب فصول الكتاب، وهي في الأصل إعادة قراءة وصياغة لعدد من المساهمات في بعض الملتقيات، غير أنّ هناك فصلا واحدا، أبى و استكبر وقال أنا من الممتنعين. كل الفصول التي خصّصتها للمغرب باعتباره موضوعا سياسيا، وللملك كسلطة مركزية، ولوضع المحكومين بين تقليد الإرعاء والحلم بالمواطنة، وللعلاقة بين الدين والسياسة، ولسؤال الذاكرة السياسية، ولعوائق الانتقال من دولة السلطان إلى سلطان الدولة...كلّها فصول انتهت بشكل أو بآخر، ليس لأنّها بسيطة، ولكن لأنّه كان بالإمكان تحليل معطياتها ومساءلة قضاياها، وترك الباب مفتوحا أمام من يريد المزيد من التعمّق في موضوعها. كان الفصل الذي أبى واستكبر عن أي تحليل سياسي موضوعي، يتعلّق بسؤال «الأحزاب السياسية»، و أساسا فهم سلوكها السياسي، ومعقولية تحالفاتها داخل المشهد السياسي. كيف تعتّر البحث في هذا الفصل الخاص بالأحزاب السياسية، وأساسا في تحالفاتها؟ طبعا، من أسهل الأشياء أن نؤرّخ للحركة الحزبية، وهي في أغلبها حديثة النّشأة. ومن البساطة أن نكتب جملا قصيرة أو طويلة من قبيل: ظهر هذا الحزب أو ذاك في...و كان وراء تأسيسه فلان أو فلتان...وينصّ في مقرّراته على كذا و كذا...و شارك، أو لم يشارك، في هذا الاستحقاق أو ذاك... وحصل على كذا أصوات ومقاعد...تمّ انشقّ عنه أخيرا زيد أو عمرو...الخ. هذه كلّها معطيات يمكن لأي حزب أن يسلّمها لأيّ كان ليعيد نسخها وينشرها، فيصبح بين عشية وضُحاها خبيرا في الشؤون الحزبية وباحثا في العلوم السياسية ! والحال هذه، يُفترض في الباحث تجاوز سطح هذه المعطيات الوضعية، والمواقف المعلنة للوصول الى المحرّك الأساس لسلوك الأحزاب، وسبر الأسباب الكامنة وراء ظهورها، وملابسات مواقفها المعلنة والمسكوت عنها، وعلاقة قولها بفعلها، وسرّ تحالفاتها...وهنا لبّ المشكل. من المفروض أنّ الحزب السياسي آلية حديثة تخضع لمنطق سياسي يحكمها، ولعقل سياسي يضبط سلوكها. أمّا وأن يكون تحت رحمة يد سحرية، أو مزاج شخص خفي نافذ يستطيع في لمح البصر أن يغيّر وجهة الحزب ب180 درجة، فهذا ما يعجز عن فهمه، ليس المواطن فقط، بل قد يحار أمامه الباحث الذي يسعى لاستيعاب معقولية السلوك السياسي الحزبي. و في جميع الأحوال، قد لا يحتاج الباحث إلى أدوات ومفاهيم العلوم السياسية، بقدر ما يحتاج لعلوم سحرية» قادرة على استكشاف ما يدور في رأس هذا الزعيم الحزبي أو ذاك ! ومع ذلك، ربّما علينا أن لا نبالغ في قوّة صنّاع الأحزاب وعقد تحالفاتها. فخريطة الأحزاب المغربية واضحة. هناك أحزاب ارتبط وجودها بحصول المغرب على استقلاله، وهي معروفة بما لها وما عليها. وهناك أحزاب ارتبط تاريخها بتاريخ القمع السياسي الذي تسلّط على المغرب لعقود، بل وارتبط وجودها أيضا بما يعيشه المغرب اليوم من نفحات الانفتاح السياسي. وهناك أحزاب لاحقة، خُلقت خلْقا لمعاكسة السّابقة، إذ ارتبط وجودها أصلا بمناسبات انتخابية، يُحسم في نتائجها قبل أن يتوجّه الناخبون إلى مكاتب التصويت. وهناك أحزاب- دكاكين، تظهر وتختفي، كأي ثعلب انتخابي، يبحث عن غنيمة في حظيرة البرلمان. كما هناك قوى أخرى، استفادت من ظروف الانفتاح السياسي، ومن شروط ثقافية، ومن أوضاع إقليمية وجهوية، ومن فشل أغلب الاختيارات السياسية، فكانت بمثابة ردّة فعل فرضت نفسها كقوّة في المعادلة السياسية. كثيرة هي القضايا التي يطرحها موضوع الأحزاب السياسية بالمغرب، ولكن أكتفي هنا بالإشارة إلى قضيتين أثارتا كثيرا من الأسئلة. تتعلّق الأولى بالتعدّدية الحزبية التي رأى البعض أنّها تجاوزت الحدود فنعتوها بالبلقنة، و تتعلّق الثانية بتحالفات حزبية تُعقد في الصباح لتُحلّ في المساء، فرأى فيها البعض مشاهد سوريالية يعجز الإنسان عن فهمها. لا يتّسع مجال هذا الركن لمساءلة هاتين القضيتين، ومن المستحسن إرجاؤهما للحلقة المقبلة.