منذ انطلاق ثورات ربيعنا العربي، ونحن نرى ونسمع ما لم نعتد على سماعه أو رؤيته. أليس اسمها : ثورة؟ إنها تصون الحياة وتخرج من أعماق الفرد الفعال، الذي غالبا ما يكون خائفا، مهارات وشجاعات تنفجر فجأة لتواجه كل أشكال الحكم الأبوية والفاشية. وأول درس تعلمناه من هذا الربيع هو أن رؤساء الدول الثائرة حمقى وجهلة ومختلون. لكن عندما استقرت الثورة في سوريا، بدأنا نتذوق طعم الثورة المختلف. دخل المثقفون والفنانون إلى المشهد المثير. بزغ اسم المعارض السوري البارز ميشيل كيلو، ظهرت معارضة متحدة من مختلف بلدان العالم، إلى أن ظهر متزعمها المفكر والأكاديمي والذروة الثقافية الصافية، السوري المقيم في باريس برهان غليون، صاحب «بيان من أجل الديموقراطية» و «اغتيال العقل». والصورة المتخيلة التي بدأت تترسخ في العقل هي: مثقف في مواجهة طاغية. بدأ برهان يلقي الخطابات من المنابر. ولأن ثوار الساحات السورية يكنون له العرفان والاحترام، كانت خطاباته، إضافة إلى ظهوره المنتظم على شاشات التلفاز، تزرع في نفوسهم بذور الأمل والشجاعة والاستمرار. لكن لماذا صدق السوريون برهان غليون؟ لماذا نصبوه رئيسا لمعارضتهم فورا وبدون تبادل تهم أو محاكمة نوايا؟ بكل بساطة لأن برهان لم يدخل لعبة الوعود، لم يلق خطابات كاذبة ومزيفة تفوح منها رائحة الانتهازية الانتخابية التي بات الكل يعرفها ويحتاط منها. وليس فقط لم يدخل تلك اللعبة، بل هو لا يعرفها أصلا، لأنه قضى عمره بين الجامعات وقاعات الندوات ودور النشر وأماكن التفكير. وحين حانت اللحظة، ونضجت الوسيلة، ظهر في مواجهة أسد الغابة. ظهر حين أصبحت ممارسات النظام حقيقة ساطعة ولغزا محيرا. برهان غليون هو معارض بالمعنى الفكري والسياسي للكلمة، ومنتم لكيمياء المعارضة التي ظلت تعري النظام طبقة طبقة كالبصلة. وكلما أزيلت طبقة سقطت دمعة. بقيت الكرة تتدحرج حتى وصلت إسطنبول، حيث كان آخر ظهور لبرهان غليون. بدا أقصر قامة مما كنا نتصور. كان إلى حد ما يشبه المفكر السوري الأبرز طيب التيزيني. يلقي برهان بيان المعارضة السورية ويده ترتجف كأنها قصبة تحركها الريح. لكن يده في الحقيقة لم تكن ترتجف من الانفعال أو سخونة المعركة، بل لأن الأفكار تخرج من الأصابع، لقد كان يتكلم وكأنه يكتب. ظهر المفكر في مدينة كثيرة السفن: إسطنبول التي تعيش وتحيى في حضن البوسفور، محققة بذلك انسجاما ناجحا جدا. كتب غوتييه بأن صور سفن البوسفور معلقة على جدار كل حلاق إسطنبولي. وعلينا ألا ننسى أن إسطنبول هي مدينة الروائي أورهان باموق، الذي منح تركيا جائزة نوبل للآداب. لإسطنبول سجل زاخر بزيارات الشخصيات الفكرية والادبية العالمية. لقد زارها الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير سنة 1850 ناقلا معه داء الزهري الذي أصابه في بيروت. وقد أكد في إحدى رسائله أن على المرء لكي يعرف حقا إسطنبول أن يبقى فيها ستة أشهر. وقبل فلوبير زارها الشاعر جيرار دي نيرفال. إلا أن فلوبير كان سريع السأم من المدينة، ربما بسبب سأمه من مشاهد مدن الشرق الغريبة والمخيفة والخرافية، فقد جاء إلى إسطنبول مباشرة بعد القاهرة والقدس وبيروت. هذا هو سبب عدم اهتمامه بها. لقد كان فلوبير يفضل شرق البدو، والصحارى، و أعماق إفريقيا، والجمال، والزرافات. وليس شرق الأتراك، والخناجر، والألبسة الأرناؤوطية. ومن هنا أيضا نفسر قسوة أندري جيد على إسطنبول الذي اعتبر لباس سكانها أردأ لباس في الكون. كما كره أطعمتها ونمط حياتها. في حين أنه كان مستمتعا بالشرق في تونس والجزائر. فشرق الاتراك يختلف عن شرق إفريقيا. ترى ما الذي سيحكيه برهان غليون عن إسطنبول التي استضافته في أصعب وقت؟