الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    أخبار الساحة    الدار البيضاء.. توقيف المتورط في ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة        تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    المغرب-الاتحاد الأوروبي.. مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية        بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    تولي إيلون ماسك لمنصب سياسي يُثير شُبهة تضارب المصالح بالولايات المتحدة الأمريكية    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فعل تغيير السياسة


إلى الاخ عبد المقصود الراشدي، احتفاء
باللحظات التاريخية
«لا يكفي أن نقول بالتغيير دون أن نطمئن لذلك»
طه الخليل
القصد من فعل تغيير السياسة، لا يعني في هذا السياق، التغيير الذي يشمل الحكومة عن طريق لعبة التداول، التي تشد إليها قاعدة من المشاهدين المسالمين، المتحررين من الوهم، الذين يتتبعون اللعبة، كمسلسل دون أن يحدث هناك بالفعل تغيير. فالتغيير الحقيقي في السياسة هو عملية قلب وتحول في المعنى، الدفع باتجاه معين لحركة تنطلق من القاعدة نحو الهرم، [...]، بمعنى الإصرار على إعادة إعطاء هذه الحركة معنى و دلالة يتقاسمها الجميع. يتعلق الأمر في هذا الإطار، بإعادة تسوية حالة ديمقراطية، افتقدت بعضا من أسسها وسبل تسييرها العادي، حتى تتمكن من تصحيح اعوجاجاتها, منزلقاتها، مما سيفضي جوهريا إلى بناء مجتمع مدني، بصيغة الفاعل السياسي المتكامل، وذلك بمنحه أولا تمثيلية كما هو الشأن بالنسبة للجمعيات ذات المنفعة العامة، وثانيا فضاءا للتعبير العمومي يكون بمثابة الحد المشترك، بينه وبين الطبقة السياسية.
غرفة المجتمع المدني
إن لهذا الفضاء وجودا من خلال المجلس الإقتصادي والاجتماعي «CES» ، مؤسسة ينظر إليها أساسا على أنها الغرفة الثالثة بعد الجمعية الوطنية Assemblée National و مجلس الشيوخ Le Sénat، إلا أن دوره اليوم أضحى نسبيا، ودون فعالية واضحة مقارنة بالمؤسسات الأخرى، فوظائفه محدودة منحصرة، جد ضيقة وتأثيره السياسي منعدم البتة، إذ ينظر إليه، بل يؤخذ على أنه غرفة للمهنيين و الحرفيين بناءا على تركيبتها التي تجمع بين جل المهن والحرف الإجتماعية، أو ما يصطلح عليه بالممارسات السوسيومهنية، النقابات، رجال الأعمال، المستخدمين، الغرف القنصلية، المهن الحرة والمستقلة، وكذا شخصيات يتم تعيينها بوازع وتقدير من الحكومة، نظرا لخدماتهم، عطاءاتهم ومبادراتهم، في حين لم يخصص لممثلي الجمعيات سوى مقاعد احتياطية أو ثانوية الأهمية.
عرف المجلس الإقتصادي والإجتماعي نشأته مع المجتمع الصناعي، مما يفسر طابع حفاظه على فكر وأسلوب العلاقات بمنظورها العام. فالتحولات الاقتصادية، التوسع، انتشار وتعدد مشاكل المجتمع و أسئلته، ظهور فاعلين جدد للمجتمع المدني، جميعها تفضي لطلبات المشاركة و المساهمة، أمور بدون شك من المفروض شرعيا أن تعطيه أهمية أكبر، كما شعر بذلك في مرحلة سابقة الجنرال «دوغول»De Gaulle، والذي كان يتمنى أن يجعل منه آلية قومية و قوية للمشاركة الاقتصادية والاجتماعية، آلية للحوار الديمقراطي. إن إعادة النظر في تشكيلة هذا المجلس ستسمح لا محالة بتمثيلية أحسن و أقوم للمجتمع المدني، بمكانة متميزة للجمعيات، إلا أن الأمر سيظل عالقا من جهة وظيفته السياسية، مما يستدعي المراجعة و إعادة التقييم. فمن خلال التقرير الأخير للمجلس الإقتصادي والإجتماعي، يتبين أن مقاربة النصوص الدستورية للمجلس تصادف كل مرة مراحل مهمة جد دقيقة وحرجة من التاريخ الوطني، إذ تطرح باستمرار الأسئلة الكبرى، كتلكم المرتبطة بالديمقراطية التمثيلية. إنها بكل جلاء الحالة الراهنة اليوم. ففي هذا الإطار لا يمكن للمجلس الإقتصادي الاجتماعي، أن يظل مؤسسة استشارية، تقتصر على دور الإعلام، الخبرة، وإنتاج التقارير. فباعتبار كونه فضاءا للتعبير، الحوار، التداول العمومي وكذلك بصفته تمثيل مؤسساتي لمجتمع مدني بمختلف فئاته، فإنه قد أصبح من الواجب أن يمثل قوة اقتراحية لا مناص منها، بالنسبة للجهاز التنفيذي بتباين مشاربه. إن المصلحة الكبرى للمجلس تتمثل في أن يعكس ويرصد بدءا من القاعدة، المشاكل المعاشة، تعددية وجهات النظر، ثم العمل على إدماجها وتجميعها قصد الحصول في أقوم الحالات على توافق، يتضمن اقتراحات إصلاحية، بالرغم من أنها لا تنزل منزلة القرارات. من هنا إذن نقطة الإلتقاء بالدائرة و الحقل السياسي بمعناه الحقيقي. فلضمان هذا الفعل أي الإلتقاء بين المجتمع المدني والتمثيلية السياسية، بات من الضروري إضافة حصة لجدول أعمال الجمعية الوطنية بخاصة في إطار لجنة النصوص التشريعية، ذلك أن هذه الأخيرة من مسؤوليتها، الإنكباب على الإقتراحات المنبثقة والصادرة عن هيأة المجلس الإقتصادي والإجتماعي. إن السيادة والكلمة الفصل بلا ريب تبقى رهن الجمعية الوطنية، إلا أنه من اللازم التنبيه و الإعلام بنتائج النقاشات و المناظرات التي يعرفها ويشهدها المجتمع المدني، الأمر الذي يعطي لا ريب في ذلك قاعدة و قوة للنصوص التي تابعت و رافقت هذا المسار من النضج، بتقريب البون و تضييق الهوة بشكل مباشر بين أطروحات المجتمع المدني و بين القرار السياسي. صحيح أن البرلمان بإمكانه نظريا المعارضة، وبصورة تنظيمية لاقتراحات المجلس الاقتصادي والاجتماعي، إلا أنه ليس في ذلك أي مصلحة ما دامت ليست هناك معيقات، تحول دون تدبيره و ممارسته السلطة بصورة مستمرة ضدا في آراء تحفيزية سبق أن نوقشت، و تقاسمتها أوساط المجتمع المدني. ففي هذا السياق نفسه يمكن القول بأن المجلس لا يتموقع في زاوية لا تسمح له بمتابعة مراحل تطبيق القوانين بغية الوقوف على النتائج والمواقف. إنها بحق صورة للحكامة الديمقراطية التي ينبغي نقلها لمستوى أرقى كالإتحاد الأوروبي، بحكم توفره على أجهزة مماثلة، كاللجنة الاقتصادية و الاجتماعية و لما لا على الصعيد الكوني، في إطار هيأة الأمم المتحدة.
الهيأة السياسية
من شأن فعل تغيير المسار الديمقراطي، أن يعطي للمجتمع المدني و لممثليته دورا سياسيا حاسما، فهذا التغيير في حد ذاته تقريب أو ربط بالنموذج الأصلي أو الأصولي للمجتمع المدني كمجتمع سياسي، بل إنه حتما يقره ويؤكده، حيث أن الذين يقترحونه، يتحاورون بشأنه و يتداولون قضاياه ليسوا بالذين لهم مسؤولية صياغة و وضع القوانين، وكذا التكفل بتطبيقاتها.
إن إعادة الاعتبار، و تقييم الدور السياسي لمجتمع مدني بات في كامل رشده، تم تأويله و فهمه على أنه آلية حرب ضد الطبقة السياسية، تهديدا في وجه سمو وسيادة الاقتراع العام. لذا من حق منتخبي الأمة العمل على الحفاظ بالكلمة الفصل، كما أنه من واجبهم كذلك دعم العمل التشريعي، انطلاقا من تطوير وخلق مشاريع إصلاحية تصدر عن الفاعلين الاجتماعيين وممثليهم؛ مما يعني أن ما سيفقدونه من جهة الاستقلالية سينالونه كمصداقية من جهة السلطة وثقة الناخبين. يرتبط الأمر في العمق إذن بمسألة تركيز وتمركز الطبقة السياسية في وظائف تحكيمية، بليغة الشأن كانت أو سامية. لذا فالوضع من جديد هو بمثابة العودة إلى الأسس الديمقراطية، للمفاهيم الأصولية للوظيفة السياسية، والتي تتحدد مسؤولياتها اليوم بتأسيس مشروعية تكون محط قبول و احترام من طرف الجميع. إن ممارسة سلطة عليا تقتضي بأن يكون الفاعلون عوض الذين يقومون بصياغة الإقتراحات، بحيث أن التفويض ينبني على مضامين محددة، لا على انتداب تقديري - بحسب مقتضى الحال - أو اعتباطي طيلة فترة تشريعية كاملة.
يتمحور هذا التحول التدريجي للوظيفة السياسية في جوهره حول القانون والحاكمية، أكثر منه حول التوجهات الحزبية، مما يعني حاجته لحيز من الزمن، ما عدا إذا كانت هناك رغبة في إنهاك وظائف رجل السياسة، بتركيزه فقط على مهام:» كالشرطة، العدل، الوساطة» عوض الانتقال بالسؤال و النقاش السياسي صوب المجتمع المدني، لضرورة خلق سجالات اجتماعية. فبمقتضى الأسباب السالفة الذكر، أضحى من اللازم تحديد الآفاق، إذ المسألة لا تتعلق برفع الحيازة، أو نزع السلطة عن الفاعل السياسي، بل العكس يجب منحه دورا حقيقيا، الدور الذي سلب منه أو تم تجريده منه، لفائدة السوق ومن يتحكم فيه و يوجهه بحسب نزواته. إنه بإعادة منح السلطة للمجتمع المدني عن سبيل ميكانيزمات جديدة للتمثيلية، ستجد السياسة مكانتها، شرعيتها و الاعتراف الذي انتزع منها. إن هذا لا يعني البتة تبديلا أو تعويضا لسلطة بأخرى، وإنما الأمر هو بصيغة الدعم فيما بين السلط.
ليس هناك إذن خيار، بحيث إما أن تستمر الطبقة السياسية في التشنج حول بعض السلطات، التي مازالت بحوزتها، و بالخصوص تلكم المرتبطة بمصالح الشرطة (بالمعنى العام ). وذلك بوسم المجتمع المدني ظلما وتضليلا بالانحطاط، بالميوعة، بالضبابية وبالعنف الفطري الغير المتحكم فيه، وبنفوذ الأنظمة السلطوية أو الشمولية، التي مازالت تشكل تهديدا والتي لم تتوقف عن احتلال المزيد من المجالات و إما أن تفهم الطبقة السياسية، وأن تقبل بتجاوز الرؤية الانتخابية الضيقة، النظرة الحرفية للعمل السياسي، بالسماح بإعادة التكوين و الإشباع السياسي للمجتمع المدني، بإعطاء الحقوق الأساسية لممثليه الطبيعيين، كجمعيات المنفعة العامة و النقابات، وذلك بالبحث عن آليات حداتية للمشاركة: التعبير والتمثيلية الذاتية لهذا المجتمع المدني. إن تبني استفتاء المبادرة الشعبية ‹›Initiative populaire›› ، يمكنه بهذا المعنى أن يكون ضروريا، بهدف تكملة هذه الترسانة، فيكون هذا التبني في نهاية المطاف، بمثابة الاستمرار الطبيعي للتداول فيما بين الجمعيات وكذا منحها وزن و ثقل الإرادة الشعبية دون الخوف من السقوط في الديماغوجية والتضليل أو الشعبوية.
نظام من صنف آخر
إن هذا التغيير - الانقلاب - الذي يعرفه المسار الديمقراطي، يحمل بالتأكيد في طياته نتائج مؤسساتية متعددة، كما أنه يفتح الباب كما هو معتاد تاريخيا، أمام إمكانية دستور سياسي جديد، والذي بدأت معالمه تبرز بحدة في النقاش العمومي والفضاء العام، إلا أن سياق البحث لا يسمح إلا برصد بعض المؤشرات المختزلة و الوجيزة.
يعتبر المجلس الإقتصادي والإجتماعي أحد لبنات التغيير باعتباره محور وقطب التجديد الديمقراطي المنشود. لذا فعليه وبكل وضوح الظهور على أنه الغرفة الثانية في هرمية السلطة، تحل محل مجلس الشيوخ، الغير التاريخي، بمعنى أنه مجلس منطو على مغالطة تاريخية لم يتجرأ أحد على اقتراح تصحيحها بتنحيته وإزالته ببساطة، أو إحداث إصلاح جذري وعميق لتحويله لنوع من «الغرف الترابية أو المجالية» ذات انتداب وسلطات، يتم إعادة بلورتها و تحديدها. إن هذا المشروع، ليس بجديد، بل إن الفضل فيه يعود إلى «سان سيمون» SAINT-SIMON ، كما تبناه فيما بعد الأسقف «لومير» L?ABBE LE MIRE سنة 1894 والذي اقترح تعويض مجلس الشيوخ بغرفة سوسيومهنية. صحيح أن «دوغول De Gaulle» نفسه قد فشل في دعوته و محاولته، أما الاشتراكيون فلم يجرؤوا على المخاطرة وركوب المغامرة، علما بأن هذا الإصلاح المشروع وارد باستمرار ضمن برامجهم السياسية. هذا بالتأكيد يسمح بالقول، أن مسألة رفع المجلس الإقتصادي والإجتماعي إلى مصاف التجمعات النيابية، تظل ممكنة واقعيا ورمزيا لتحديد الدور السياسي للمجتمع المدني. ففي نفس المنظور والاتجاه الفكري، النظام الدستوري الجديد ملزم و بكل وضوح، التفكير في وضع نمط نيابي، على عكس البنية الرئاسية التي لا تتجرأ على قول كلمتها، لكونها و طيلة عقد من الزمن منشغلة بإقرار نظام الخمس سنوات الشيء الذي تم إرساؤه فالأمر لم يكن ليعني مجرد تفادي إمكانية تعايش سياسي COHABITATION كما حدث في السابق أو تفادي السلطة برأسين، و لكن الأمر مرة أخرى يتعلق بفعل تغيير الترسانة السياسية الذي قد يمنح أولوية جد مبالغ فيها للجهاز التنفيذي على حساب الجهاز التشريعي،و قد يتضح ذلك بالخصوص بالتحكم في جدول الإنشغالات البرلمانية، في سلطة حل البرلمان وكذا في البند 3-49 الذي يسمح بالمصادقة على قانون ما، دون تصويت النواب،مما يتنافى بلا شك والديمقراطية الحداثية المبنية على المناظرة والتداول البرلماني، ضدا في انزلاقات و انحرافات سلطة مطلقة، استبدادية تتوج باستمرار بالإفلات من القصاص والعقاب القانوني. ليس من المعقول إذن أن مجتمعا من الأفراد يحتفي بشعور التساوي والإنصاف، فيكون بصدد البحث على أنماط جديدة لدمقرطة لا تعكسها المؤسسات التي تسير دواليب الحكم، فتتخلى وتستسلم هذه الأنماط على نحو شعائري و بصورة تقديسية، ساخرة، ملائمة وجديرة بالنظام القديم. فمن باب التناقض، أن تكون الإقتضاءات الديمقراطية وبسط السلط قد اتخذت من التطور مسارا لها، في حين السلطة السياسية تحاول مزيدا من الإحتكار، و تسعى إلى التشدد والتضييق حول المركز المحوري لمؤسسة رئاسية قادرة على كل شيء. إن تبني نظام يعتمد الوزارة الأولى، كما هو الشأن في البلدان الأخرى للإتحاد الأوروبي، مؤسس على برلمان موسع يشمل المجتمع المدني، لا يؤ دي بالضرورة باختفاء و انعدام وجود رئيس الجمهورية، وإنما وضع نهاية لانتخابه بالإقتراع العام. فالإحتراس والإرتياب من السلطة الشخصية، لا يقصي ولا ينفي الحاجة إلى شخصنة السلطة والإنفراد بها، بل حتى تجسيدها رمزيا. فالرئيس كضامن لاحترام الدستور، ممثلا للأمة بجميع شرائحها، تاركا جانبا الإستيهامات، الإلتباسات الحزبية و التورط في الإختيارات الحكومية، يستطيع وبإمكانه أن ينتخب من لدن جميع الغرف التمثيلية، وأن يجسد توافق الأمة من جهة، واستمرارية الدولة من جهة أخرى. إن نموذج الرئيس، لا كفاعل سياسي، وإنما شخصية أخلاقية، حريصة على البعد الأخلاقي في السياسة، بإمكانه بالتأكيد أن يكون ملائما و ممثلا للطبقة السياسية بمختلف مكوناتها.
إجمالا وفي إطار هذه المراجعة الدستورية، بات من اللازم دمقرطة الولوج إلى الوظيفة السياسية والمسؤوليات المنضوية تحتها. إن مجلسا اقتصاديا واجتماعيا، بوظائف سياسية، موسعة، يعتبر وسيلة ذات أهمية قصوى، إذ تفضي إلى إقرار وقبول فئات اجتماعية جديدة وعريضة في إطار التمثيلية السياسية. إلا أن هذا غير كاف، نظرا لكونه بحاجة تجعله محاطا بقانون للمنتخب، يسمح للغير الموظفين، والممثلين بدرجة دنيا في التجمعات النيابية، الإلتزام وذلك بضمان إيجاد منصب مهني إبان فترة إنتدابه. لذا يبدو لزاما كذلك متابعة الحركة المتجهة والداعية إلى الإنتداب الوحيد، مع تحديد تجديدها لمرة واحدة. فمن جهة أولى سيتم التفعيل والعمل بصدد الحد من ظاهرة الطبقة الإحترافية أو حرفيي التمثيلية مدنية كانت أم سياسية، والتي سترسخ بحكم الظروف ارتكاسات شرطية وانعكاسات حرفية و مهنية، حيث المصلحة الشخصية و المحافظة على السلطة لهما دوما احتمال قابلية الأولوية عوض احترام زمن الإنتداب، وخدمة المصلحة العامة. إن الوظيفة السياسية ليست بمهنة كباقي المهن. إنها تقدم نفسها على أنها خدمة تحمل دلالة المواطنة، و التي تقتضي من جهة، صفات النزاهة و الاستقامة و الترفع، وهي صفات من الصعب أن تتماشى مع منطق المدة الزمنية الطويلة. أما من جهة ثانية فيجب تيسير و تبسيط التعاقب على المهام، تجديد الأجيال و النخب كما يذكرنا بذلك المبدأ الحكيم لأرسطو ARISTOTE، والذي يعرف النظام الديمقراطي ( بأنه فن لممارسة الحكم مثله مثل من يمارس عليه الحكم ).
تجدر الإشارة أن العلاقة بين الحاكم و المحكوم لا تتحدد إطلاقا في إطار علاقة تتحكم فيها المسافة والاحترام كما هو الشأن في السابق، بل إنها تتشكل في علاقة القرب، التعارف، الإعتبار و المراعاة. وإذا كان ممكنا علاقة التناصح، أي التأثير المتبادل أو المحاكاة بالمفهوم الأرسطي. إن الكلمة الفصل في هذا السياق كانت «لطوكفيل» TOCQUEVILLE الذي مافتئ يردد «مازلت أعتبر أن أنجع وسيلة إن لم أقل الوحيدة، التي تجعل الناس يهتمون بمصالح وطنهم، هي إشراكهم في دواليب الحكم».
لقد تم التسليم والقبول أخيرا بأن ممارسة المواطنة ومشاركة كل واحد في الحياة الديمقراطية، تعد من الأنشطة الأكثر اكتمالا، فلا يمكن أن تقتصر لا على الإنتخاب ولا على التفويض. فمن باب التوكيد أن مجتمعا يعترف أفراده ببعضهم البعض و يتعارفون، وأن كل واحد لا يمثل إلا نفسه وذاته.لذا فالشعور وحده بالمساهمة مباشرة. كذات في عمل جماعي يصبغ الشرعية من خلال أشكال المراقبة، لا من جهة التفويض والتمثيلية. إن هذه المشاركة السياسية، لم تعد تعاني من الطابع الشكلي، أو أنها من صنف النضال الكلاسيكي الذي يستعمل لملء القاعات، توكيل ومنح الضمانات لزعماء نصبوا بتشديد الصاد أنفسهم بأنفسهم، فمشاركة من هذا النوع لم ولن تشمل بالتأكيد إلا أقلية صغيرة، منعدمة الشأن. بمعنى أن النضال السياسي لم يعد يحظى باهتمام إلا واحد بالمائة من الفئات الشعبية، أي أنه يسير نحو السقوط وباتجاه الإندثار. إن مصلحة كل فرد لا يمكن أن يعبأ لها إلا انطلاقا من مهام واضحة ترتبط بالمصلحة العامة المحددة في خدمات مدنية أو عمومية، حيث يختبر ويمتحن المسار الديمقراطي في اتخاذ القرار الناجع، وإثبات الفعل والفاعلية. إنها تجليات الفضاء العام أو الساحة العمومية. بهذا المنطق تكون الديمقراطية إذن ممارسة و تطبيقا، أكثر منها فعلا تنظيريا.
إن الديمقراطية الحقيقية ستمكث و ستظل نظاما مثاليا أو لاهوتيا بمقتضى الفكر الهيليني، كما يحلو ل»جان جاك روسو» J.J ROUSSEAU تسميته وتصنيفه. إلا أن الإحساس و المعاينة بصورة أفضل لما يفصل بين واقع الحال و بين هذا التحديث، يدفعنا بالعودة إلى أسس هذا النظام، بهدف إيجاد سبل تقريبه من السياق الحالي. هذه الإمكانية هي موضوع البحث و الإجتهاد بغية المزيد من التوضيح و الإبراز قدر الإمكان، إذ أضحى من الأهمية التصريح بإنها في طريقها إلى التحقق بتنظيم مجتمع مدني في إطار جمعيات رصينة، بدلالة و قوة التمثيلية الإجتماعية، لكون الرابط الإجتماعي و من خلاله قيم الإستقلالية، الحرية و التساوي كان منذ الأمد البعيد إلى اليوم شرط العقد الديمقراطي، عقد بين إثنين متلازمين قبل أن يصبح عقدا تفويضيا. لقد شكل هذا الأخير الإتجاه الذي شخص أكبر المراحل التي عرفت زخما ديمقراطيا بدءا من الحظيرة اليونانية - مدينة أثينا Athenes بالخصوص - إلى عصر الأنوار ما بين سنة 1848 إلى 1968، إلا أنه و من وجهة صرفة لعلم الإجتماع، ظل بعيد الحضور و المعنى،صحيح أنه وارد و حاضر، فقط، في جدول أعمال المخيال أو المخيلة، فليس المطلب في حد ذاته هو الرابط الإجتماعي بل العكس، إذ وكما هو معلوم يجب أن يفرض نفسه على مجمل أنماط الحكامة، فتحقيقه وتثبيته على أرض الواقع، بات لزاما. فبداخل شمولية وشساعة الرابط الإجتماعي، وبعيدا عن المآزق التاريخية المماثلة للطائفية والفردانية، يلوح طيف الفرد العلائقي، الذي أصبح ذو توجه، يمليه عليه الرباط الجمعوي. هذا المنظور ينطبق على الفضاءات الإجتماعية و العمومية مما أن الجمعيات بعيدة أن تكون هي الأولى من بين التنظيمات الأكثر ديناميكية سواءا بفرنسا، بباقي أوروبا أو بالعالم المتقدم عامة.
ليس هناك على ما يبدو ما يجمع بين الجمعيات الصغرى، التي تعلن عن تأسيسها كل يوم، و المنظمات الغير الحكومية المنهمكة والمنشغلة بالصراع من أجل عولمة أخرى. في حين هناك إختلافات ومفارقات، الأمر الذي يقتضي معاينة وتدبر كيفية خلق الوحدة والإتحاد داخل هذا المجال الترابطي الجديد، بمعنى ترابط اجتماعي بنهج جديد، وبمنظور يعتمد التنظيم و المشاركة، ففي القطاع الإقتصادي مثلا شرعت كل هذه العناصر في ممارسة وزنها وثقلها، مما أفضى و فتح الأبواب لما يسمى بالاقتصاد الرباعي، حيث إنتاج الفرد أصبح مصدرا لكل أنواع الثراء و الرقي.
إن تصاعد وثيرة مبدأ العمل الجمعوي? نشاط الجمعيات- لم يعد في الواقع و بصورة عامة جنينيا، إلا أنه يعاني من خصاص، نقص أونقاط ضعف في البناء والرؤية، بسبب التأرجح بين التبعية أي الاعتماد على الآخر و بين الإرادة في الاستقلالية، الأمر الذي يجعل من هذه الحالة السمة القوية التي تفصح عن مدى تعثر الجمعيات في تكوين الإتحادات أو الفيدراليات المنظمة للأنشطة القطاعية بقصد توحيد الكلمة. كما أنه ليس من تقاليد وعادات الجمعيات أن تتظاهر و تفرض على السلطات العمومية نوعا من علاقات القوة وذلك بحكم تبعيتها المالية بالخصوص، مما لا يسمح بالإحتجاج المفتوح. لذا فالثقافة التلقائية للحركات الإجتماعية الجديدة، و إرادة التعبير السياسي من لدن المجتمع المدني. جميعها عناصر بإمكانها تغيير مسار هذه العلاقة. ليس من المستبعد إذن أن يكون لنجاح الجمعيات الأكثر احتجاجا من صنف آطاك ATTAC، الحق في السكن DAL و الحركة ضد البطالة ACC، الأثر الحاسم و السبب الرئيسي الذي دفع بالمجموعات الجمعوية الكبيرة، التي تتسم بالتدبير وتعتمد التسيير كمنهجية و مبدإ لها، أن تعلن انضمامها لها،فبات الجمع بين التيارين ضمن جدول أعمالها، كما أن الجمعيات الحكيمة لحماية المستهلكين - الإتحاد الفرنسي للمستهلك UFC وماذا نختار؟ Q.C مثلا شرعت هي الأخرى في الإقتراب من المنظمات الغير الحكومية، خاصة تلكم التي انطلقت بدءا بالبحث في أسئلة التجارة العادلة. هذه الجمعيات صارت برمتها تشارك منذ وعيها بأهمية ذلك، في الملتقيات التي تشرف عليها المنظمة العالمية للتجارة OMC.
لقد ساهمت الجمعيات بقسط وافر في تعبئة المجتمع المدني بخاصة منذ مطلع الألفية الثالثة، مما دعا السلطات العمومية أن تضطلع بالمبادرة و أن لا تنتظر الإضطرابات و القلاقل، لتثبت و تؤكد ما تبقى لها من شرعية. أما فيما يرتبط بالطبقة السياسية يمينية كانت، أو يسارية، فلم يكن لها أي استعداد ذاتي لدعم المعارضة أو القبول بتمثيلية اجتماعية، تكون بمثابة المنافس للتمثيلية السياسية، علما بأن الأمر أضحى أكثر افتراضية، الشيء الذي خلق و أنتج ردود فعل أفصحت عن إنسداد في الرؤية وضيق الحسابات، علما أن السياسة و بالأحرى الطبقة السياسية لا تتوالد بصورة إعجازية، قدرية أو بأعجوبة من ذاتها. بمعنى أن هناك نظرة جديدة حداثية للفعل السياسي، أنماط تعبيرية جديدة للجسم السياسي، يشكلها المجتمع المدني، مما يجعلها آنيا قادرة و باستطاعتها إعادة الشرعية لوظيفة السياسة.
إن انعدام بنية قوية و رصينة للوسط الجمعوي لا يمكن اعتباره لوحده عاملا حاسما لتفسير ضعف الرؤية لدى هذا الأخير، فصورة الجمعية ما زالت حبيسة النماذج المثالية القديمة. ففي الإعلام السمعي البصري مثلا، الصورة النموذجية للجمعية هي أولا وبدون تردد تلكم المتعلقة بالجمعية الصغيرة للحي، والتي تقوم بمهام الترفيه، الأعمال الخيرية و معالجة بعض الظواهر الإجتماعية. الشيء الذي يدل أن هناك عجزا عن إدراك حضور و تأكيد نموذج جديد للرابط الإجتماعي، فظهور حركات اجتماعية جديدة ومتعددة باستثناء التيار المناهض للعولمة و الصدى الذي تركه أثناء المنتدى الإجتماعي «لبورطو اليكري»، PORTO ALEGRE، تعتبر جميعها تعبيرات جديدة للمجتمع المدني بل لتمثيليته، بينما الإعلام و الرأي العام مازالا يعتبران أنفسهما بالضرورة، الأمناء أو المؤتمنون الخصوصيون والإنفراديون، فأحيانا ومن جهة الأخبار الجديدة المتوفرة لدى الجمعيات، فإن هذه الأخيرة لا تساهم في البيع الإعلامي، مقارنة بتيمة الإغتصاب الجنسي و الجنس والعنف الأسري واللذان جعل منهما الجهاز السمعي البصري أكثر مما مضى موضوعاته اليومية.
إن المجتمع المدني باقتحامه المشهد العمومي، صار يهدد جميع السلط المؤسساتية، التي تدعي أنها تتحدث وتعمل باسمه. هذا المعطى يفسر الإندفاع الخافت، والمبادرة الضئيلة التي تسمح له بالتنظيم الذاتي. إنه لمن الخطورة كذلك محاصرة وحبس المجتمع المدني في فعل رفض كل السلط، في الحركات الحاشدة، أو في مشهد بدائي و أسطوري لديمقراطية تلقائية و مباشرة. فمن أجل الحفاظ على النظام العام، جميع أنواع الإستعادة والإسترداد تصبح ممكنة، بالإعتماد على الديناميكيات الموجودة في نسيج الرابط الإجتماعي، كالتنظيمات أو المنظمات الجمعوية. لقد أضحى من الضروري و الواجب أيضا، ربط و إدماج الجمعيات بمسار القرار السياسي، كما يحدث ذلك ولو بشكل ضمني على المستوى المحلي، وكذا جعل الفكر الجمعوي نظاما قائم الذات اجتماعيا، اقتصاديا وسياسيا. فالديمقراطية بطبيعتها جمعوية أو لا تكون.
«روجي سو»: أستاذ بكلية العلوم الإنسانية بجامعة السوربون باريس الرابعة
من بين مؤلفاته:
Société civile face au pouvoir
Ed:Presses sciences politiques 2004
Renouer le lien social
Ed: Odil JACOB 2001


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.