كان يفصلني عن موعد العودة الى وطني يومين توضأت وتوجهت الى المسجد النبوي لأداء آخر صلاة جمعة بالمدينةالمنورة حيث كانت هذه الخطبة عبارة عن خطبة لتوديع الحجيج افتتحها الإمام بقوله اعلموا عباد الله حجاج بيت الله الحرام أنكم وقفتم قبل أيام حفاة عراة تطلبون من الله المغفرة والرضوان وستعودون بعد أيام الى بلدانكم وأهلكم آمنين غانمين سالمين إنشاء الله فمغفور ذنبكم إنشاء الله ولكن إعلموا إيها المسلمون أنكم أصبحت مدعوين بل مجبرين على تنفيذ ما أمر به الله على أصح وجه لاتخافون في قول الحق لومة لائم كانت فعلا خطبة تقشعر لها الإبدان وتمتلأ من وقعها المقل بالدموع حيث أعادنا هذا الإمام الى السماء بعدما كنا قد عدنا الى الأرض منذ أيام. فبالمدينة تحس أنك تعود من السماء الى الأرض خاصة وأنك تبدأ في التحول من العالم الأخروي الى العالم الدنيوي حيث بمكة لا تبحث إلا عن الله أينما حللت أو ارتحلت بالمسجد الحرام بالمشاعر في كل مكان لابسا كفنك الأبيض تطلب المغفرة لنفسك ولأهلك وعشيرتك وكأننا نحمل معنا جبلا من الذنوب أما في المدينة فمباشرة بعد انتهاء الزيارات ترى الناس يتهافتون على التسوق والمأكل والمشرب حيث ما وليت وجهك تجدهم يملأون البطون والحقائب ويغيرون الملابس صباح مساء وكأن كل شيء انتهى مع التحلل ومباشرة النساء. بالمدينةالمنورة كان كل منا يتهيأ للعودة الى الديار وكأنها ليس جزءا من هذه الرحلة الربانية. الفرق بين المدينةومكة أنك في مكة تكون مجردا من كل شئ معلقا بين السماء والأرض من أجل أن تختم سجلك الأخروي بهذه الفريضة التي تكون خاتمة بل إن لهذا العمل إحساسا خاصا لأعمالنا الدنيوية أما في المدينة فإنك مطالب بصرف ما تبقى لك من ريالات في المساحات التجارية الكبرى والمحلات التجارية المنتشرة في كل مكان التي تزخر بكل أنواع البضائع لا يقل حماس المترددين عليها عن حماسهم أثناء القيام بالمناسك ببيت الله الحرام. فبالمدينة محلات بالمئات يتواصل بها النهار بالليل كمثل محلات مكة التي لا تغلق أبوابها إلا من أجل الصلاة كما أن العمارة بها اختلطت ما بين العربي والأجنبي هي الأخرى تتمايل في أبهى صورها لكن ما رأيت مدينة أنظف من هذه المدينةالمنورة فعلا ومارأيت مدينة أكثر أمنا من هذه المدينة. فالأمن في كل مكان وفي كل وقت. ورئاسة البلدية لاتتوقف عن توزيع الأدوار والأشغال على العمالة المنتشرة في كل مكان تنظيف توجيه إرشاد. الكل في خدمة ضيوف الرحمان حتى المتطوعين من الشباب لا يتوقفون في إسداء النصح والتوجيه والإرشاد. كانت الساعة تشير الى التاسعة ليلا عندما عدت من أداء صلاة العشاء حيث كان في انتظار الرفيق محمد خويا. كنت قد حضرت حقيبتي وتخليت على كثير من ملابسي وبعد دردشة قصيرة معه صليت ركعتي السفر وحمل معي متاعي البسيط عبر المصعد حيث كان في انتظاري أحد الطلبة الذي كنت قد اتفقت معه على نقلي الى المطار وبعد أن ودعت عامل الفندق المصري الذي كان وديعا معنا خدوما صابرا مجيبا لكل مطالبنا عانقت رفيقي الحاج محمد مودعا إياه شاكرا له كل ماقام به اتجاهي طالبا منه السماح متواعدا معه على اللقاء بالمغرب. نقلتني السيارة الى المطار حيث تسلمت جواز سفري من أحد الأكشاك المنصوبة بباحة المطار كما سلمني ذاك الشاب ورقة من أجل استرجاع ما تبقى لدى الوكالة من مبالغ لم يتم صرفها حيث تسلمت ما يقارب الألف درهم مغربية وولجت المطار حيث سلمت أمتعتي الى المكلفين بالأمتعة وكنت مضطرا الى العودة الى الفندق نظرا لتأخير موعد السفر لمدة خمس ساعات. وبعد أن أديت صلاة الفجر بالفندق غادرت مرة أخرى في اتجاه المطار وكنت آخر مسافر على متن هذه الرحلة حيث سلمت جواز سفري الى الجمارك السعودية التي لاحظوا علي التعب الكبير وارتفاع حرارتي. وبعد أن تسلمت مصحفا هدية من خادم الحرمين الشريفين الى حجاج بيت الله الحرام ولجت بوابة المطار. وبعد الإجراءات تم نقلنا عبر الباصات الى مدرج الطائرة لتعم فوضى كبيرة في الطائرة جراء تبادل السب والشتم بين العديد من الحجيج من أجل الفوز بمقعد أمامي أو من أجل وضع الأمتعة في الممرات فلولا تدخل قائد الطائرة عدة مرات لما هدأت الأوضاع .وبعد ست ساعات من الطيران نزلت الطائرة بمطار محمد الخامس. وبعد إجراءات الجمارك التي مرت في ظروف جيدة غادرت البوابة للقاء أطفالي وأهلي الذين تجشموا معي عناء هذه الرحلة الربانية ماديا ومعنويا وكانوا خير خليفة لي مع أهلي فلهم مني أجزل الشكر والامتنان . وأنا أضع رجلي خارج المطار أحسست أنني عدت الى المكان الذي انطلقت منه بجسدي العليل والصور التي تركتها خلفي لم تعد تفارقني الى اليوم: الأصدقاء.. المواقف.. الهذيان.. المرض ..المناسك.. رهبة المكان وكل الأشياء الحميمية التي لا يتسع لها هذا المكان . كما أتقدم بجزيل الشكر الى إخواني في جريدة الإتحاد الإشتراكي والى معالي سفير المملكة العربية السعودية والصديق الملحق الصحافي ناصح العتيبي لما أسدوه لي من خدمة كانت سببا في هذه الرحلة الربانية وتعبيد الطريق الى بيت الله الحرام جزاهم الله عني خير الجزاء.