منذ بضعة أيام، اتصلت بي صديقة عبر الهاتف، كي تعبر عن سعادتها. لقد أنهت للتو، قراءة الرسائل التي كتبها الفيلسوف لوي ألتوسير (1918-1990) إلى زوجته «إيلين ريتمان» Hélène Rytman. أولى هذه الرسائل، تعود إلى فترة ما بعد الحرب، وتؤرخ للحظة التقاء المفكر الماركسي بعالمة الاجتماع. أما آخرها، فتشير إلى سنة 1980، حينما قام بخنقها، وبالتالي قتلها، بعد أن أصيب ألتوسير بنوبة جنون. صدر مؤخرا، كتاب يتضمن هذه الرسائل، التي لم يسبق لأي أحد أن اطلع عليها. لكن، الصديقة المذكورة أعلاه، التهمته رسالة تلو الرسالة، مما جعلها تهمس لي : (الأمر بسيط، إذا بعث لي رجل برسائل كهاته، على امتداد ثلاثين سنة، فأريد حقا أن يكتم أنفاسي في نهاية المطاف !). III [مدرّس استثنائي، وفيلسوف صاحب مكانة دائمة]. سواء كان الأمر من ثمرات، الانشغال بالسير الذاتية للأموات، أو على العكس بمثابة مؤشر عن فكر يساري يعاني صعوبة التجديد النظري، فالاهتمام الحالي بشخص لوي ألتوسير وفي نطاق أقل مشروعه، يبدو غريبا شيئا ما. إن صاحب كتاب » Pour marx « أصدر قليلا من الأعمال، اللهم سلسلة مقالات تم تجميعها بعد رحيله وحملت إلى القارئ العديد من الدراسات، لم يسبق لألتوسير أن كشف عنها. سياق، سيغذي موجة منتظمة تروم التنقيب ثانية. هذا التناول المابعدي، يبقى مثقلا بدين مشهد وازن : ارتداد الماركسية في فرنسا سنوات 1970، حيث ظل ألتوسير أيقونها الفكري. وإحدى الأسئلة، التي تطرحها مجموع المؤلفات التي تنكب حاليا على فكره، تركز على إبراز مسؤولية ألتوسير في هذا الانحطاط، تقول : هل حتمت فلسفته المآل منذ البداية، أم أصابها التهميش نتيجة انهيار المنظومة الشيوعية ؟ عندما نلقي نظرة سريعة، على الكتب الصادرة خلال حياة ألتوسير، سنلاحظ إلى أي حد أضحى أسلوبه الفلسفي عتيقا، مقارنة مع متون معاصريه مثل جيل دولوز، ميشيل فوكو، وزميله جاك ديريدا أو «كيمان» Caïman(لقب، معيد الفلسفة في المدرسة العليا للأساتذة). على أية حال، استمر تأثيره خالدا، لأن هذا المدرس الرائع اقترنت كل حياته بمهمة إستراتجية توخت أساسا تكوين أجيال فلسفية في المدرسة العليا، وتهيئهم للأستاذية. هكذا، أدت محاضراته الشهيرة لسنوات 1960 إلى اتساع حلقة طلبته، المباشرين وغير المباشرين، الأوفياء والمتمردين. ألتوسير فيلسوف ومهرب أيضا، لأنه امتلك موهبة استعارة عدد كبير من المفاهيم، أدمجها في نسق تأمله الخاص للماركسية. إدانته ل «النزعة الإنسانية»، التي شكلت فلسفة شبه رسمية للحزب الشيوعي الفرنسي سنوات الستينات يعتبر روجي غارودي مفكرها الكبير أحالتنا على البنيوية وكذا هيدغر. العديد، من المفاهيم الفرويدية وجدت طريقها إلى خطاب ألتوسير مثل «المحدد التضافري» أو «العلاج الموضعي». لكن مشروعه، اندرج أساسا في إطار الصراع ضد الأرتودوكسيين من مختلف الجهات والذين حرفوا الماركسية إلى عقيدة علموية. لقد صارع ضد أي نزوع نحو التحجر، بإلحاحه على دينامية القطيعة التي تجسد في نظره الماركسية (قياسا للتقليد الذي رسخته الهيغيلية) وتعميق مفهوم الإيديولوجيا. يعتقد ألتوسير، بأن الأخيرة، وبعيدا عن كونها محض انعكاس لأنماط الإنتاج، لها في المقابل مفعول على العالم المجتمعي، ثم لا يختزل كل شيء في «نهاية المطاف» إلى الاقتصاد، مما يبرر في نظره ممارسة الفلسفة. أما، مفهومه عن «الأجهزة الإيديولوجية للدولة»، والذي إليه يعود الفضل في بناء كثير من التأملات حول مسرح بريخت أو منجزات مخرج مثل جيورجيو ستريلر Giorgio Strehler، فيظهر ألتوسير من خلاله كيف أن «البنى الفوقية» الثقافية يمكنها تغيير «البنية التحتية» الاقتصادية. هذا الجانب من العمل، يمثل رافدا نوعيا للماركسية الثقافية خلال القرن العشرين، يبقى بكل تأكيد، الأقل تأثرا بالتجاوز، بحيث يخلق إمكانية أن نقرأ دائما وندرس ألتوسير، سواء في فرنسا أو إيطاليا بل وداخل الجامعات الأنكلوساكسونية. لم يكن، أيضا ألتوسير أقل حماسة كي يتصدى لمن أفرطوا في دفع ماركس نحو الفلسفة. الألتوسيرية، باعتبارها آخر المدافعين عن الماركسية، سلمت بوجود «قطيعة»، من جهة بين نصوص ماركس الشاب المتشبع لحظتها بالمثالية الفلسفية. ومن جهة ثانية كتاب «رأسمال». لكن العلم المقصود هنا، ليس «العلم البروليتاري» المتداول في المعاهد الماركسية اللينينية، ما دام ألتوسير تمكن من الاستيعاب الجيد للإبستمولوجية الفرنسية السائدة خلال حقبته، ولاسيما كتابات غاستون باشلار (1884-1962)، التي ألهمته فكرة المعرفة القائمة على القطيعة، أي على منوال منجز غاليلي عندما حقق انتقالا من نظرية مركزية الأرض، إلى أن الشمس هي المحور. إذن، ما إن ندرك الماركسية، كتغير للمنظور، سيواصل ألتوسير حديثة إلينا. لكنه لم يقترح قط بديلا عن الماركسية الأرتودوكسية، مما أدى حسب البعض، إلى ثغرة كانت قاتلة بالنسبة للماركسية نفسها. ويبقى إذن رهان الاكتشافات الخلاقة لفيلسوف شارع أولم Ulm مناهضة الرأسمالية وفق «علم مضبوط». IV حوار مع بيرنار سيشير Bernard Sichère : وصف للروابط بين فكر المنظّر الماركسي ومصير المناضلين الماويين في فرنسا. 1 أشرتم في عملكم [Ce grand soleil qui ne meurt pas] إلى «الشغف» السياسي الذي جسدته الماوية الفرنسية. ومن بين جميع رموز هذه الحركة، سنلاحظ بأن أغلبها تأثر بألتوسير، كيف تجلى الأمر؟ نعم لعب، ألتوسير دورا حاسما في توجيه كثير من المفكرين الشباب، كي ينخرطوا في النضال. لقد أبان بداية على الأقل، عن إرادة توفق بين المواقف النظرية والالتزام الواقعي. كشف منظوره هذا، عن اختلاف كبير مع لغة الحزب الشيوعي الفرنسي. في نفس الوقت، راوده شعور غير مستقر : اعتقاده بإمكانية تحريك الأشياء من داخل الحزب الشيوعي الفرنسي. بشكل سريع، أظهرت التجربة ضرورة طرح التساؤل بخصوص مسار جد رجعي لهذا الحزب العتيق. 2 على الرغم من هوسهم بالأفق الثوري، فقد مر شباب «الحرس الأحمر» بجوار حدث ماي 1968، دون اكتراثه بما تنطوي عليه الثورة من جديد. في رأيكم، هل يرتبط الإخفاق، بدرس ألتوسير ؟ سؤالكم يلامس جوهر ماي 1968، قناعتي، أن ثورات 1968 الجميلة جدا والخلاقة، لم تلتقط إلا آخر الموجة التي سادت الولاياتالمتحدةالأمريكية سنوات 1960، وسعيها لتعبئة الشباب بهدف أن يرسي في العمق صلة أخرى مع العالم والحياة والحب، بحيث تعلق الأمر، في الآن ذاته بثورة وجودية وسياسية وفنية. لكن يبدو، بأن مفهوما دوغماطيقيا وعقائديا للسياسة، أحال بين الماويين والتماهي مع كنه الحركة، وقد عكست بوضوح لغة ألتوسير أثر هذا الانغلاق. خلال تلك الحقبة، اتجه اهتمامي أكثر إلى جاك لاكان مقارنة مع ألتوسير، أظن لسبب دقيق : كان البناء المفهومي حاضرا كليا عند لاكان، ثم توفر لديه في الوقت ذاته ثقل الواقع، الذي تنطوي عليه معاناة العصابى وأضرار الذهاني. فبغير، هذا الوزن للجسد والعنف والانفعال الأولي، تبقى السياسة مجرد وهم أو دجل. 3 بعد قطيعة أغلب رموز هذه الحركة مع الماوية، انقلبوا نحو المبتغى الديني. أنتم أنفسكم تحدثتم عن (إعادة اللقيا بالمنبع المسيحي) فهل تلمّس ألتوسير، الذي تبلورت بداياته النضالية ضمن الشباب المسيحي، طريق التحول ؟ يمتلك ألتوسير ماضيا مسيحيا، بالتالي لا يمكنه أن يبقى غير مبال. وسيزداد الأمر تأكيدا، إذ علمنا بحضور المفكر المسيحي «جون غيتون» إلى جواره خلال فترات متأخرة. إن تاريخ الرجل، تؤسسه مجموعة مستويات تمارس حسب اللحظات، أدوارا يختلف زخمها. لقد تساءلت في كل الأحوال عن نزوع العديد من المناضلين الماويين، وجهة الدين، لكن ليس بالمعنى الضيق للمفهوم، بل أقصد التجربة الروحية التي مثلت محور التقليد الواحدي في الغرب : الحكمة العبرية لدى ليني ليفي، والروحانية الإسلامية عند كريستيان جامبي، وبالنسبة لموقفي الشخصي آمنت بقوة التيولوجية المسيحية، بحيث أراها نقيضا للانكفاء والانطواء : إحياء للفكر، انطلاقا مما اعتبره، استنادا على ذخيرة اسمها الفكر المسيحي للتاريخ ظاهريا، لم يتجاوب ألتوسير مع هذا المنحى، ورفض عموما تفحصه، ولم يكن له الوقت أو الأدوات كي يجتاز المنافذ المسدودة التي ارتطم بها فكره الخاص. لا تضمر الدعوة إلى الفكر الديني، تخليا عن العقل، لكن الإيمان بوجود طريقة أخرى لتأمل التاريخ، غير ما ركسية النصوص التي بقي ألتوسير وفيا لها بإصرار، وهي في حقيقة الأمر، رؤية مختزلة جدا مقارنة مع ماهية الإنسان والوجود والحرية. 4 في نتاجه وكذا حياته، تأرجح ألتوسير ذهابا وإيابا بشكل ملغز بين الخطاب والهذيان، ثم النظرية والجنون. بحسبكم أيشكل هذا المسار أيضا جزءا من إرث «ماو» ؟ خلال تلك الفترة، جسد ألتوسير بامتياز هذا التردد بين العقلانية المفرطة، وكذا احتمالية الجنون المهددة. الهذيان، يقوم حيث العقل النظري، يرفض معرفة أي شيء عن أهواء الجسد التي تنتقم بالضرورة. مع ذلك ينبغي الحذر من التعميم. إذا ركزت على أن أستعيد ثانية، علاقتي مع مجلة «تيل كيل» Tel Quel فلأن الالتزام أدبيا وفنيا يستبعد كل إنكار لهذا الجانب المزعج جدا، ويقترح على النقيض العمل على تعريته من أجل طرده والإفصاح عن ذاته عبر الضحك والسخرية. والتماهي الجنوني بالماوية، توخى أساسا إخضاع الفن والأدب إلى معايير الإيديولوجية السياسية، والحال أن التجربة الشعرية، والأدبية، تتنافى مع هذا النوع من التدبير البوليسي، بحيث أن تكون روايات آلان باديو ضعيفة، يعكس إشارة لا تخطئ أبدا. V مقاطع : * رسالة 30 شتنبر 1950 : (تحية، صغيرتي. في هاته اللحظة، أقبّلك وأنا أخبرك بالأمر، بعد أن قبّلتك سرا لفترة طويلة. ألتمس منك فضل أن تتحملي بصبر الأيام التي تباعد بيننا، بمشاهدة أفلام وقراءة كتب توفر لك زادا لأبحاثك. تشجعي، صديقتي، مع القلب لا نعاني عزلة قاسية. أحضنك بحب جارف. حنان قوي، لا يبدو بأنه قد يتخذ منحى يضجرك، أو بالأحرى حسب قلبي...) إليك. * رسالة 25 يوليوز 1961 : (معذبة قلبي، عندما أقرأ نصك، أشعر أيضا بتأثير، يزيدعن ما يقدمه لحظة الإصغاء إليه. إنه حقا، مدهش متين، جلي، دقيق، عميق، يزخر بخلفيات (مثل مناظر حقيقية)، وبنشاط شبيه، بما تظهره الحياة لما تكون ناجحة. أنت دائما في هذه المناسبات (النادرة جدا)، تعبرين نظريا عن إبداع مفهومي عميق، يمثل دائما بالنسبة إلي، تجلّ لك. لكن أيضا، بخصوص ما تقولين وتطمحين إليه. اكتشاف : بالتالي، أنا محتجز تماما، وأعبر بكلمات الانفعال : مدهش، يا إلهي، رائع جدا). * رسالة أبريل 1980 : الثلاثاء، منتصف الليل : سكين يخترق فؤادي : مضطرب، لأني أخبرتك بكل ذلك، أردت، أن أخفي عنك تأثيرات الأمر، لكن بدا لي بأنه من الأفضل إحاطتك علما، بما يسكنني كهاجس: هكذا، أنا، خلال الفترة الحالية. لكن، أحكيه إليك بكيفية، عوض أن تسمح بأخذ مسافة، فقد عبرت بالأحرى عن نفسها بقدر وقوعي في شباك قوة أعتى مني. حقا، خلف بعض التمظهرات التي أكشف عنها وأعرضها وأتماهى معها، تكمن حاليا قوة تهزمني كثيرا.... * المقصود هنا، آخر الكلمات التي تلفظت بها زوجة ألتوسير. [email protected] مراكش/ المغرب. 1 - Le monde des livres : 27 mars 2011. 2 - » Moteur et Pneu . mékédéluj ! « - si t?arriv avant moâ cessoir je te fai la biz «