دونالد ترامب يؤدي اليمين الدستورية رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية لولاية ثانية    إدارة الرجاء تحدد موعد الجمع العام غير العادي للنادي    قرار قضائي يعتمد واتساب أداة لإبلاغ المشغل بالغياب بسبب المرض    إنستغرام تضيف ميزة جديدة لمستخدميها    ألباريس يشيد بمستوى المبادلات التجارية بين المغرب وإسبانيا ويؤكد تجاوزها سقف 24 مليار يورو    الناظور تحتضن بطولة للملاكمة تجمع الرياضة والثقافة في احتفال بالسنة الأمازيغية    مأساة مؤلمة: رضيع اليوتيوبر "عبير" يلحق بوالدته بعد عشرة أيام فقط من وفاتها    الفريق أول المفتش العام للقوات المسلحة الملكية والسيد لوديي يستقبلان رئيس أركان القوات المسلحة بجمهورية إفريقيا الوسطى    عمر نجيب يكتب: غزة أثبتت للعالم أنها قادرة على تحمل الحرب الشاملة وعدم التزحزح عن الأرض..    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأحمر    الوكالة الوطنية لتقنين الاتصالات تطلق حملات لقياس جودة الخدمة المقدمة لزبناء شبكات الإنترنت    الوزير بنسعيد يعلن عن تعميم خدمات جواز الشباب على الصعيد الوطني    إعادة انتخاب فلورينتينو بيريس رئيسا لريال مدريد    مندوبية التخطيط تتوقع بلوغ عجز الميزانية 3,9 في المائة من الناتج الداخلي الإجمالي خلال سنة 2025    غياب الشفافية وتضخيم أرقام القطيع.. اختلالات جمعية مربي الأغنام والماعز تصل إلى البرلمان    إضراب الأطباء بالمستشفى الحسني بالناظور لمدة 5 أيام    الأرصاد الجوية تحذر من رياح قوية    "بريد المغرب" يحظى بالثقة الرقمية    الكشف عن عرض فيلم اللؤلؤة السوداء للمخرج أيوب قنير    تفشي "بوحمرون" في المغرب.. 116 وفاة و25 ألف إصابة ودعوات لتحرك عاجل    طنجة .. ثلاثيني يضع حدا لحياته بعد هجر زوجته له    تحذير من رياح عاصفية بدءا من الاثنين    ‮ هل يجعل المغرب من 5202 سنة مساءلة الأمم المتحدة؟    تقرير: المغرب يلعب دورا مهماً في المجال الصناعي الصاعد في القارة الإفريقية    أغنية «ولاء» للفنان عبد الله الراني ..صوت الصحراء ينطق بالإيقاع والكلمات    1000 يورو لمن يعثر عليها.. بدر هاري يستعيد محفظته    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    ترامب يستعد لتسلم مهامه ويصبح الرئيس الأمريكي الأكبر سنا لحظة دخوله البيت الأبيض    نهضة بركان تنهي دور المجموعات باكتساح شباك ستيلينبوش بخماسية نظيفة    المنتج عبد الحق مبشور في ذمة الله    أمن البيضاء يفتح تحقيقا في ملابسات اعتداء على بائعة سمك    كذبة التخفيف الضريبي الكبرى!    "تيك توك" تعود للعمل بأمريكا وبكين تدعو واشنطن لتوفير بيئة منفتحة للشركات    جمعية نسائية: تعديلات مدونة الأسرة مخيبة للآمال وتستند على قواعد فقهية متجاوزة    لتجاوز التعثرات.. وزارة التربية الوطنية ترسي الدعم المؤسساتي في 2628 مؤسسة للريادة    المدرسة.. الحق في الحُلم أو هندسة الفشل الاجتماعي    سعر "البتكوين" يسجل مستوى قياسيا جديدا بتخطيه 109 آلاف دولار    عبوب زكرياء يقدم استقالته بعد خسارة الدفاع الحسني الجديدي أمام الوداد    ابتسام الجرايدي تتألق في الدوري السعودي للسيدات وتدخل التشكيلة المثالية للجولة 11    النفط ينخفض مع ترقب تحركات ترامب بشأن قيود تصدير النفط الروسي    تنظيم أول دورة من مهرجان السينما والتاريخ بمراكش    أنت تسأل وغزة تجيب..    تراجع أسعار الذهب    دراسة: التمارين الهوائية قد تقلل من خطر الإصابة بالزهايمر    منها ذهبية واحدة.. جيدو المغرب يحرز 11 ميدالية    إسرائيل تفرج عن 90 معتقلا فلسطينيا ضمن المرحلة الأولى من صفقة التبادل مع حماس    بعد عاصفة ثلجية.. فرق التجهيز والنقل بالحسيمة تتدخل لفتح الطريق الإقليمية 5204    ترحيب دولي بإعلان وقف إطلاق النار في غزة    إبداع النساء المغربيات في أطباق البسطيلة المغربية يبهر العالم    فريق كوري يبتكر شبكة عصبية لقراءة نوايا البشر من موجات الدماغ    إسدال الستار على فعاليات الدورة ال3 من المهرجان المغربي للموسيقى الأندلسية    توقيف المشتبه به في طعن نجم بوليوود سيف علي خان    الجزائر.. فيروس ينتشر ويملأ مستشفيات البلاد بالمرضى    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    الجمعية النسائية تنتقد كيفية تقديم اقتراحات المشروع الإصلاحي لمدونة الأسرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ألتوسير بين جنونه وسيرته
نشر في هسبريس يوم 19 - 10 - 2010

توفي الفيلسوف الماركسي الفرنسي، لوي ألتوسير يوم 22 أكتوبر 1990، بعد أن راكم متنا نظريا مهما، بوّأه مقاما، ضمن أهم فلاسفة القرن العشرين، الذين أحدثوا نقلة نوعية على مستوى تاريخية المفاهيم. كلنا، يعلم إضافاته الرصينة إلى الأدبيات الماركسية، نتيجة إعادة قراءته لنصوص ماركس وكذا التأويلات المنهجية الجديدة التي رافقت هذه القراءة، في أفق إخراج النظرية من عنق زجاجة التمثل الأرثوذوكسي، العقائدي الجامد، كما عانته داخل تنظيمات اليسار التقليدي، لاسيما في أوجهها الستالينية، والبحث عن الآفاق الرحبة التي تفتحها المقاربات الإبستمولوجية. مستفيدا من مؤلفات باشلار وفرويد وستراوس ولاكان والبنيويه.
بيد، أنه لا أحد من تلامذة ألتوسير وأتباعه وعشاقه، بل خاصة المدرسة الفلسفية الفرنسية، واليسار الفرنسي، قد توقع لوهلة، صيرورة عبقريته الأريبة إلى تلك النهاية المأساوية، بعد الحادث الذي جرى يوم 16 نوفمبر 1980، حينما قتل زوجته "هيلين" داخل شقتهما المتواجدة بالمدرسة العليا بباريس، جراء إصابته بحالة جنون حادة، مما شكل انقلابا في مصير ألتوسير، لم يكن واردا في الحسبان. يقول : ((لقد قمت بخنق زوجتي التي جسدت لديّ كل العالم، إبان أزمة عصبية طارئة، شهر نوفمبر 1980 نتيجة خبل ذهني. زوجتي، التي أحبتني إلى درجة أنها توخت الموت إذا عجزت عن تحقيق ذلك. بلا شك، لحظة جنوني وبممارسة لا واعية "قدمت لها، هذه الخدمة" وماتت دون أن تقاوم عن نفسها)).
حيثيات القضية، سيتطرق إليها، ألتوسير عبر صفحات سيرته الذاتية، التي جاءت تحت عنوان : [L'avenir dure longtemps ] (المستقبل يدوم طويلا) عن منشورات "ستوك" سنة 1992، فترة بعد وفاته. فقد وُجدت السيرة محفوظة بين ثنايا أرشيفه، الذي تكفل به منذ يونيو 1991، "معهد حفظ ذاكرة الإصدار المعاصر" (IMEC)، من أجل تأمين القيمة العلمية لهذا التراث الإنساني.
أكد، "أوليفيي كوربت" و"يان موليي بوتان"، اللذان أشرفا على إخراج سيرة ألتوسير، بأن القرار جاء بعد مبادرة من "فرانسوا بوديرت" الوريث الوحيد لألتوسير، كحلقة أولى في إطار سلسلة أعمال، ظلت بحوزة الفيلسوف ولم يكشف عنها، من ذلك مثلا مشروع سيرته الذاتية ثم مذكرات أسره المكتوبة فترة اعتقاله عند الألمان بين سنوات 1940 و 1945، إلى جانب مؤلفات ذات طابع فلسفي محض، ونصوص متنوعة سياسية وأدبية، ثم العديد من مراسلاته. ولحظة، أراد الباحثان، تهيئ الإصدار، فقد سعيا إلى تجميع شهادات عن مرجعيات مختلفة: أصدقاء ألتوسير، مذكرات، إشارات، قصاصات صحافية، رسائل، أي كل ما يمكنه إعادة رسم المعالم والمؤشرات بل والأصول التي يستند عليها ألتوسير.
نشرت الروائية "كلود ساروت" مقالا بجريدة "لوموند" يوم 14 مارس 1985، استحضرت في إطاره حادثة قتل افتراسي، لشابة هولندية من طرف ياباني اسمه "إيسي ساغوا"، ثم النجاح الذي عرفه العمل الموثق لمعطيات الجريمة داخل اليابان. طُرد القاتل نحو بلده، بعد حكم قضائي بإسقاط الدعوى، وإقامة قصيرة بمستشفى فرنسي للأمراض العقلية. حتى الآن، كان الحديث عاديا، لكن حين، قالت "ساروت" : ((نحن في الإعلام، ما إن نرى اقتران اسم نافذ بمحاكمة تسيل اللعاب كما هو الحال مع "ألتوسير" أو "تيبو دورليان" Thibaut d'orléans، حتى نصنع من الأمر طَبَقا. صاحب الجريمة، نجم، أما الضحية فلا تستحق غير ثلاثة سطور)). مباشرة، بعد شيوع محتويات المقال، فإن كثيرا من أصدقاء ألتوسير، نصحوه بالاحتجاج على الجريدة بسبب ورود جملة "محاكمة تسيل اللعاب"، لكنه انتصر إلى رأي زملاء آخرين، والذين رغم انتقادهم لما صرحت به "ساروت"، اعتبروا مع ذلك، بشكل من الأشكال، أن ملاحظتها كشفت النقاب، عن نقطة أساسية، تتعلق بأن انعدام محاكمة ألتوسير بسبب قتله زوجته، يعود إلى استفادته من مبدأ إسقاط الدعوى. اتهام، أرغمه على كتابة رسالة تراجع على إرسالها إلى صديقه الحميم "دومنيك لوكور" معترفا له بعدم رغبته ((كي يظهر ثانية في المشهد العمومي)) قبل أن يوضح بدقة ما وقع له ذاك اليوم، بمعنى ضرورة صياغته نصا ((سير ذاتيا، يبيّن مواقفه من المأساة و"معالجتها" الإدارية وكذا الاستشفائية ثم بالطبع سببها)).
للإحاطة بمختلف المعطيات، راسل ألتوسير مجموع أصدقائه بالخارج، راجيا منهم تزويده بكل القصاصات الصحافية التي تحدثت عنه بعد نوفمبر 1980، كما فعل الشيء ذاته مع الصحافية الفرنسية، حيث جمع أو طلب من معارفه تزويده بتوثيق مسهب، يهم القضايا القانونية لسقوط الدعوى، ثم الفصل 64 من القانون الجنائي 1938، وكذا، نتائج التقارير المرتبطة بالأمراض العقلية والنفسانية. التمس، منهم أيضا، أن يطلعوه على الجرائد الصادرة إبان تلك السنوات أو يحيطوه علما بالوقائع، التي لم يعد يتذكر بعض مظاهرها. كما، استفسر طبيبه وكذا المسؤول عن متابعته النفسية، بخصوص العلاجات التي خضع لها، وما تناوله من أدوية، وأحيانا كان يوثق حرفيا تفسيراتهم وتأويلاتهم، ويسجل جانبا مختلف الأحداث والوقائع والتأملات والاستشهادات والكلمات المتناثرة. باختصار، كل المعطيات العملية والشخصية والسياسية أو النفسانية، فهيأت، جل روافد العمل التحضيري الذي ساعد على تأليف خيوط سيرته الذاتية.
كشف، ألتوسير مرات عديدة لبعض الناشرين، عن رغبته لإنجاز مثل هذا العمل، لكن دون أن يفصح عن المسودة أو على الأقل تقديمها في نموذجها النهائي. كل شيء، إذن يظهر مراعاته أقصى الاحتياطات، حتى لا يتم تداولها على النقيض مما اعتاده مع نصوصه. لذا، لا نعثر بين أرشيفاته على أية نسخة مصورة. كما، اقتصر عدد الأشخاص الذين أمكنهم قراءة المسودة في مجملها أو قسم دال منها، على بعض المقربين، مثل "بوليت الطيب"، "ساندرا سالومون"، "ميشيل لوا"، "كلودين نورمان"، "هيلين تروازيي" ثم "أندري توسيل"، هذا الأخير، سيخبرنا بأنه لم يتمكن من قراءة العمل إلا شهر ماي 1986، برفقة ألتوسير في بيته دون تدوين ملاحظات، أما صياغة المسودة ورقنها على الآلة الكاتبة، فقد أخذ غالبا أسابيع قليلة ابتداء من آخر أيام مارس إلى بداية ماي 1985، ثم سلم العمل منتهيا إلى "ميشيل لوا" من أجل قراءته.
أيضا، حين توخى ألتوسير كتابة : المستقبل يدوم طويلا، لاسيما في فصوله الأولى، وجد نفسه بكل بداهة، تحت وقع تأثير سيرته الذاتية السابقة المعنوية ب : les faits (الوقائع). نص، اشتغل عليه ألتوسير سنة 1976، ثم سلمه إلى ريجيس دوبري، الذي خصصه، لعدد كان يفترض نزوله إلى الأسواق، يدشن لمجلة جديدة تسمى : [ca ira] ، أُعلن عنها سابقا، لكنها لم تعرف النور. بالتالي، بقي مجهولا.
مع ذلك، قد لا يجوز كثيرا، قراءة الفصلان باعتبارهما سيرة ذاتية. بحيث، أفصح في تقديمه الأول ل "المستقبل يدوم طويلا"، أنه لم يقصد وصف طفولته، كما مرت، ولا أعضاء، أسرته في حقيقتهم بل استرجاع التصور، الذي قاده إلى كتابة العمل. يقول ألتوسير : ((أتكلم عنهم كما أدركتهم وأحسست بهم، مع العلم جيدا، كما الشأن في كل إدراك نفسي، أن ما قد يصيرونه، استُثمر قبل ذلك دائما، بين طيات الانعكاسات الاستيهامية لاضطرابي النفسي)). فأسس تاريخا لهواجس، تتموضع في قلب الخيال بالمعنى القوي للمفهوم، أي الوهم بل الهذيان. يضيف ألتوسير : ((لقد حرصت فعلا، على امتداد تداعيات هاته الذكريات، بأن أمتثل بصرامة للوقائع : لكن الهلوسات، وقائع أيضا))، مما يروم بنا إلى تمييز جلي لحلقتي سيرته الذاتية، وقد تحدد كل واحد منها داخل مسار مختلف. في حين، تندرج "الوقائع" ضمن النموذج الكوميدي، تتجلى التراجيديا بالنسبة للجزء الآخر "المستقبل يدوم طويلا".
إذن، إذا ولجنا مع هذين النصين، إلى التخيل والهلوسة، فلأن مضمونهما الجنون أي الإمكانية الوحيدة، التي من خلالها تتصرف ذات ألتوسير، كمجنونة وقاتلة، لكن مع بقائه دائما فيلسوفا وشيوعيا. وإذا وضعنا الجنون، أمام وثائق واصفة للأمراض، مثل : "ذاكرة الرئيس شريبر" Shreber، الدراسة التي قام بها فرويد، أو عمل، "بيير ريفيير" : [ أنا بيير ريفيير، لقد ذبحت أمي وأختي وزوجتي]، بمقدمة ل ميشيل فوكو، سنفهم حينئذ كيف لمفكر ذكي جدا، وفيلسوف محترف أن يسكن جنونه وكذا علاجه من المرض العقلي ؟ كيف يمتطي الفكر الجنون، دون أن يكون قط رهينة له أو رغبته المتوحشة ؟ كيف إذن لتاريخ حياة، الانزلاق نحو الجنون مع وعي صاحبها الحاد بذلك ؟ كيف فكر الفيلسوف في تأليف عمل كهذا ؟ هل يمكن ترك حالة ألتوسير للأطباء والقضاة ؟ هل بكتابته عن حياته الخاصة، استطاع الهرب إلى مصير ما بعد وفاته ؟ ...
شيء راسخ، أن سيرة ألتوسير، تحتل بقوة حيزا جوهريا ضمن مشروعه الفكري.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.