فريق مستقبل المرسى ينتزع فوزًا ثمينًا على حساب فريق شباب الجنوب بوجدور    الولايات المتحدة.. الاحتياطي الفدرالي يخفض سعر الفائدة الرئيسي للمرة الثالثة خلال 2024    الرئيس الموريتاني يحل بالمغرب في زيارة خاصة    ما هي التحديات الكبرى التي تواجه القيادة السورية الجديدة؟    الملك يعزي الرئيس ماكرون في ضحايا إعصار تشيدو بأرخبيل مايوت    ريال مدريد يتوج بلقب كأس القارات على حساب باتشوكا المكسيكي    برعاية مغربية .. الفرقاء الليبيون يتوصلون إلى اتفاق جديد في بوزنيقة    حجز آلاف الأدوية المهربة في مراكش    النقض يرفض طلب "كازينو السعدي"    وزير الخارجية الشيلي: العلاقة الشيلية المغربية توفر إمكانيات كبيرة للتعاون    الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي يخضع للرقابة بسوار إلكتروني لمدة سنة بعد إدانته بتهم الفساد واستغلال النفوذ    فرنسا تقيم الخسائر بعد إعصار مايوت    الأمن يطلق بوابة الخدمات الرقمية    شباب جمعية "أسوار فاس" يواصلون الإبهار بعروض مسرحية متنوعة بطنجة    تسجيل أول حالة إصابة خطيرة بإنفلونزا الطيور في أمريكا    شركة "أطلنطاسند" للتأمين تعلن عن تقليص مدة الخبرة والتعويض إلى 60 دقيقة فقط    الرجاء يستجدي جامعة كرة القدم لمساعدته في رفع المنع من التعاقدات    مؤجلات الجولة 31 من الدوري الاحترافي .. الوداد ضيف ثقيل على الجيش الملكي بالقنيطرة والكوديم يتحدى نهضة بركان    تألق رياضي وتفوق أكاديمي للاعبة الوداد الرياضي سلمى بوكرش بحصولها على شهادة الدكتوراه    حزب العدالة والتنمية يواجه رئيس الحكومة بتهم تنازع المصالح بعد فوز شركته بصفقة تحلية المياه    النقيب عبد الرحيم الجامعي يراسل عبد الإله بنكيران حول بلاغ حزبه المتعلق بعقوبة الإعدام    لماذا أرفض الرأسمالية ؟    بوريطة يؤكد الحاجة الماسة إلى "روح الصخيرات" لحل الملف الليبي    كلمة .. شعبنا آيل للانقراض    معاناة متجددة لمرضى السل بفعل انقطاع الدواء باستمرار        وداعا أمي جديد الشاعر والروائي محمد بوفتاس    فاس.. انطلاق أشغال الدورة العادية السادسة للمجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة    زيان يسقط فجأة خلال محاكمته ويُنقل للإسعاف    المغرب وإسبانيا يعيشان "أفضل لحظة في علاقاتهما الثنائية" (ألباريس)    الناظور.. ارتفاع معدل الزواج وتراجع الخصوبة    حفل توقيع "أبريذ غار أوجنا" يبرز قضايا التعايش والتسامح    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    جمعيات تعبر عن رفضها لمضامين مشروع قانون التراث الثقافي    أزمة اللحوم الحمراء بالمغرب بين تراجع الأغنام وسياسات الاستيراد    مزور يشرف على انطلاق أشغال بناء المصنع الجديد لتريلبورغ بالبيضاء    تداولات الافتتاح ببورصة الدار البيضاء    اختيار الفيلم الفلسطيني "من المسافة صفر" بالقائمة الطويلة لأوسكار أفضل فيلم دولي    تطوان تُسجّل حالة وفاة ب "بوحمرون"    مزرعة مخبرية أميركية تربّي خنازير معدلة وراثيا لبيع أعضائها للبشر    علماء يطورون بطاطس تتحمل موجات الحر لمواجهة التغير المناخي    مقر الفيفا الأفريقي في المغرب.. قرار يعزز موقع المملكة على خارطة كرة القدم العالمية    كأس إيطاليا: يوفنتوس يفوز على كالياري برياعية ويتأهل لربع النهاية    الكعبي عقب استبعاده من جوائز الكرة الذهبية: "اشتغلت بجد وفوجئت بغيابي عن قائمة المرشحين"    المغرب يتجه نحو الريادة في الطاقة المتجددة... استثمارات ضخمة    حماس تصف محادثات الدوحة حول الهدنة بأنها "جادة وإيجابية" وإسرائيل تنفي توجه نتانياهو للقاهرة    دبي تطلق خدمة التوصيل بالطائرات بدون طيار الأولى من نوعها في الشرق الأوسط    كيفية تثبيت تطبيق الهاتف المحمول MelBet: سهولة التثبيت والعديد من الخيارات    كنزي كسّاب من عالم الجمال إلى عالم التمثيل    السينما الإسبانية تُودّع أيقونتها ماريسا باريديس عن 78 عامًا    السفير الدهر: الجزائر تعيش أزمة هوية .. وغياب سردية وطنية يحفز اللصوصية    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مظاهرات 20 فبراير و ما تلاها: تعزيز لمطالب الأحزاب الديمقراطية الأصيلة بالمغرب
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 09 - 07 - 2011

يروم هذا المقال الذي يقترح ننشره في حلقات تحقيق خمسة أمور، أولا: التحذير من معارضة مطالب حركة 20 فبراير، بل وحتى من التشكيك في نوايا أصحابها. ثانيا: ركوبها لقضاء مآرب ذاتية، أو لتشويه أو تحريف أهدافها. ثالثا: تجنب استغلالها لطمس كفاح الحركة الوطنية التحريرية في عهد الحماية ونضالات الأحزاب الأصلية في عهد الاستقلال من أجل ترسيخ الفكر الديمقراطي وبناء نظام في الحكم أساسية ملكية دستورية. رابعا: تجنب استغلال هذه المظاهرات ومكوناتها للمس أو تشويه دور الأحزاب الديمقراطية واتهامها بالسلبية وبأنها متجاوزة. خامسا: وجوانب أخرى يترك للقارئ أمر استخلاصها.
أما أجهزة الدولة فكان لحزب الاستقلال فيها نصيب الأسد وبما فيها أول مجلس وطني استشاري الذي كانت أغلبية أعضاء من حزب الاستقلال وكان رئيسه هو المهدي بنبركة كما هو معلوم، ورغم هذا النصيب الأكبر الذي حصل عليه حزب الاستقلال كان أتباعه يعتبرونه حيفا في حق حزبهم الذي يرجع إليه الفضل في تحرير البلاد إذا قورن بما حظيت به أحزاب أخرى كانت بالنظر إليهم هامشية أو أشخاص لم يكن لهم أي دور في الحركة الوطنية، وقد ذهب بعضهم إلى إعطاء مثال بما جرى بتونس حيث أصبح فيها حزب الدستور الجديد بزعامة الحبيب بورقيبة كل شيء خاصة عندما أعلن المجلس الوطني إلغاء الملكية وتولية بورقيبة رئاسة الدولة في 20 مارس 1957 . وبقدر شعور الاستقلاليين بما اعتبروه حيفا في حقهم تضايقت جهات من هيمنة الحزب الذي نسبت إليه (عن حق أو باطل) تصرفات بلغت حد نعته بأنه صار يزوج ويطلق وأن مفتش الحزب في درجة عامل وكاتب الفرع بمثابة قائد، وما رافق ذلك من إشاعات بشأن طموحات نسبت إلى زعيم الحزب ولاسيما بعد الإطاحة بملك تونس وترويج صور لعلال أبرزها صورة بلباس عسكري، وقد عملت هذه المتغيرات وما رافقها من مناورات ودسائس بعضها من تدبير أطراف محلية وبعضها بتدبير جهات أجنبية وكثير منها بسبب الاختلالات والانحرافات وطفو مظاهر الفساد والإفساد على ترويج شائعات ودعايات كان لها تأثير كبير في انتشار انعدام الثقة وطغيان قيم الحذر والحيطة والتخوف استغلها البعض في النيل من سمعة قادة الحركة الوطنية ونواياهم، وسخرها البعض في التحريض على حزب الاستقلال (قضية عدي وبهي في الجنوب مثلا) واتحدت كذريعة لتعثر مسيرة الديمقراطية وبالتالي وضع دستور للبلاد، وهذا ما حاولنا الوصول إليه.
إلى حد هذه السطور تم التذكير تركيزا بما عرفته الفكرة الديمقراطية من إرهاصات ومرت به من بلورة وتطوير وما انتهت إليه من إجماع كل أطراف الحركة الوطنية بمن فيهم المؤسسة الملكية، وبما عرفته أيضا من تجارب تطبيقية في السنوات الأولى للاستقلال. وبقي التذكير بعناصر ربما ستساعدنا على معرفة ما كان خفيا من أسباب تعثر الفكرة الديمقراطية أو لنقل العمل على إفراغها من مضمونها الحقيقي مما جعلها لحد اليوم من أهم الإشكالات التي بدون حلها ستبقى البلاد رهينة تجارب فاشلة وقد يفضي الاستمرار على نهجها إلى تراكم المشاكل وتعقدها وهذا مالا يبتغيه أي مواطن مغربي يغار على بلاده...
للحديث عن أسباب تعثر الفكرة الديمقراطية تطبيقا نورد عبارة لعصمت سيف الدولة يقول فيها «إن كثيرا من الأسباب لا تكشف عن نتائجها إلا بعد زمن يتجاوز رؤية الذين بدؤوا توقعاتهم» (الأحزاب ومشكلة الديمقراطية في مصر ص 152)، هذا بالنسبة لمن يعرف الأسباب ويجهل النتائج، وبما أننا بصدد الحديث عن الأسباب فلنقلب العبارة لتصير هكذا «إن كثيرا من النتائج لا تكشف أسبابها إلا بعد زمن يتجاوز الذين يبحثون من مقدماتها» وكلتا العبارتين صالحتان لتناول ما نحن بصدده: فنحن حاليا نعرف ما آلت إليه المسالك الديمقراطية تطبيقا من نتائج ونريد أن نعرف بعض الأسباب التي أدت إلى هذه النتائج وهذا سيقودنا إلى أن المسبب لهذه النتائج لم يكن يتوقعها، هناك إذن أسباب وهناك نتائج.
فالأسباب تحتاج منا إلى الجرأة والصراحة وتحتاج إلى فهم أن التذكير بها أو إثارتها من جديد أمر لم يعد محرجا ولا نائلا من سمعة جهة أو بقدسية مؤسسة، إن الأمر يتعلق بأحداث مضت نذكر بها للعبرة فالذكرى تنفع من لايزال ساعيا لازدهار وطنه وتقدمه. اعتبارا لكل ما سبق أقول معتمد على ذاكرتي وما خلصت إليه من قراءاتي لأدبيات تلك المرحلة وما استفدته من شخصيات ربطتني بهم علاقات حزبية أو نقابية وبدون ذكر كل مرجعية على حدة أجمل القول في التالي «تميزت السنوات الأولى للاستقلال بوجود حركة وطنية وأركز على حزب الاستقلال كفاعل رئيسي في مجريات الأحداث وقتها، كان يحتضن عينات من البشر متباينة في التفكير وفي الثقافة، ذات وضعيات اجتماعية واقتصادية متفاوتة منها علماء القرويين وكلية ابن يوسف وغيرها من معاهد دينية كانت منبتة في ربوع المملكة وفيهم خريجو جامعات غربية ذات توجه جدائي ليبرالي، ومن بين هؤلاء وأولئك شخصيات ذات نزعة دينية تقليدية وآخرون ذوو ميول علمانية ليبرالية أو اشتراكية، أما العائدون من الشرق من طلاب القاهرة أو دمشق أو بغداد فكانوا قوميين إما ناصريين أو بعثيين، ومن بين هذه النخب من أبهرته الأنظمة الجمهورية وقليل منهم من بقي متمسكا بالنظام الملكي، أما موقف هؤلاء جميعا من قضية الدستور فكان محتشما وغير جرئ لا يخرج عن المطالبة بملكية دستورية، إذ من القادة من كان يضيف في ظل العرش العلوي ومنهم من يكتفي بإضافة عبارة تحت رعاية محمد الخامس، وبصرف النظر عن قصد أصحاب كل من العبارتين، فإنهما أولتا تأويلا مشوبا بالريبة نحو مقصدها من لدن حاشية ولي العهد آنذاك الذي كان لا يروقه مسلك والده في تدبير شؤون المملكة ولا يرتاح إلى تعاطفه مع قادة حزب الاستقلال وثقته في وزرائه وتركهم يتصرفون في إدارة وزاراتهم كيف يشاؤون.
هل كان للملوك صلاحيات
في عهد الحماية؟
وإذا تأملنا في هذه العلاقة وفي الدور الذي كان يقوم به محمد الخامس في تدبير شؤون البلاد بعد الاستقلال، فإننا لا نجده مختلفا عما كان يقوم به في عهد الحماية، باستثناء بعض الصلاحيات التي صار يمارسها إلى جانب حكومة عهد الاستقلال وهي لا تتعدى تزكية ما كانت تقرره هذه الحكومات ويقترحه عليه مستشاروه والمسؤولون في الهيآت الحزبية والنقابية.
الإقامة العامة
هي الجهاز التنفيذي والتشريعي
فمنذ الاحتلال أنشأت الحماية مصالح لتدبير شؤون المغرب ومراقبة أعمال رجال المخزن والعمال وشتى تلك المصالح مع الإقامة العامة (حكومة الحماية) وكلها تحت نظر المقيم العام بعد ما كان جلها بدار المخزن في ابتداء الأمر، ثم انفصلت عنها وصارت مستقلة تحت تصرف الإدارة الفرنسية برئاسة المقيم العام الذي «أصبح وزيرا لخارجية المغرب ووزير الحربية بناء على الفصل الخامس من معاهدة الحماية، وقد أسندت إليه هذه المهام بصفته نائبا عن الجمهورية الفرنسية بالمغرب الجنوبي، وكان المقيم العام الفرنسي يحرر الظهائر ويمضي عليها ويقوم بتنفيذها ويؤسس المصالح الإدارية ويقرر بواسطة قرارات مقيميه تنفيذها ومراقبتها وكذا المسائل الخاصة بالجالية الفرنسية والأجنبية وجيش الاحتلال المرابط بالمغرب الذي تناط به مهام عند الحاجة ويستعين بالقوة البحرية الفرنسية إذا ما دعت لذلك ضرورة»، بينما لا تملك إدارة المخزن ملكا وصدرا أعظم ووزراء صلاحيات تذكر لتدبير شؤون المملكة، وبصفة عامة فقد كانت الحكومة المركزية والإدارة قبل الاستقلال تشمل المخزن والحكومة التقليدية برئاسة الملك، ثم وظائف الإقامة الفرنسية العامة وفقا لشروط معاهدة فاس احتفظ بالمحزن ولكن نص على إمكانية تعديليه. وكانت الحكومات المستعمرة ترى في المخزن ممثلا للسيادة المغربية وأنه عن طريق هذا النظام احتفظ الملك بالسلطات الأسمى على الإمبراطورية الشريفية بأكملها بما في ذلك الممثلين الخاصين للمخزن في طنجة وفي تطوان الواقعة في منطقة النفوذ الاسباني. وعلى العموم فإن جميع الخدمات الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تخضع لإشراف الفرنسيين انضوت تحت إشراف المقيم العام. ولما كان هذا التنظيم قد شمل رقابة البوليس والجيش والمواصلات فإن المخزن لم يكن له إلا نفوذ ضئيل على إدارة الملك (دوجلاس أي السفورد -التطورات السياسية في المملكة المغربية- ص 124 طبعة 1964).
وحتى إذا قارنا تصرفات سلطات الحماية بما جاء في هذه الفقرة فإننا لا نجد للملك تدخلا يذكر في الشؤون العامة للبلاد فسيادته اسمية ونفوذه معنوي، وحتى صلته بموظفي الهيئة المخزنية كانت متسمة بالطاعة وعدم التنفيذ كما يقال. فعلى الصعيد الوطني كانت له حاشية منقسمة إلى أصحاب ومسخرين وجيش، والأصحاب أنفسهم ينقسمون إلى قسمين أهل الشكارة وهم طائفة من الجند كانوا لا يلازمون السلطان حضرا وسفرا ولا يفارقونه أبدا، وهم رجال الحكومة الذين يتشكلون من الحاجب والوزراء والكتاب الذين يرجع أمرهم إلى الصدر الأعظم، وأهل الكمية وهم مختصون بخدمة السلطان الشخصية تحت أنظار قائد المشورة ويرجع أمرهم كلهم إلى الحاجب، أما في خارج العاصمة فكان أعوانه إما قيادا أو باشاوات أو قضاة وأغلب هؤلاء كان ولاؤهم الأسمى للسلطان، وأما ممارستهم لمهامهم فكانت لا تخرج عن السياسة العامة المقررة من لدن سلطات الحماية الوطنية أو المحلية ولا حاجة لأمثلة فالذين جايلوا المرحلة أكثر علما بهذه الحالة ولاسيما نشطاء الحركة الوطنية. والخلاصة التي أريد الوصول إليها هي أن الملوك الذين عرفهم المغرب في عهد الحماية كانوا مقيدين مسلوبي المبادرة محرومين من تدبير شؤون مملكتهم كملوك، وهذا ليس المقصود، لا يذكر إلا لإثبات أن الملكية المغربية في عهد الحماية لم تكن لا ملكية مستبدة ولا مطلقة ولا فردية ولم يكن للجالس على العرش لا إصلاحيات ولا اختصاصات إلا ما جاءت به معاهدة الحماية. فلقد وضعت الحكومة الفرنسية حدا لسيادة المغرب ونفوذه باحتلال جل ترابه وبسط حكمها العسكري، فخضعت البلاد لإدارة المحتل الذي اتصف بالحامي الفرنسي والاسباني والذي أصبحت بيده بموجب المعاهدة مالية المغرب واقتصاديته وشؤونه العسكرية ودبلوماسيته وأمنه، وصارت البلاد المغربية كلها بيد ولاة الحماية الذين اخذوا يتصرفون فيها تصرفا مطلقا، وحتى لو بقيت الهياكل التقليدية قائمة فقد أصبح الحل والعقد بيد الإدارات الفرنسية في الجنوب والاسبانية في الشمال والدولية بطنجة (نظام الإدارة بالمغرب - عبد الحميد بن أبي زيان بنشهوا ص 54 الطبعة 1962). وبالرجوع إلى معاهدة الحماية نجد بين بنودها ما يسلب ملك البلاد حقه في إدارة شؤون مملكته وجعله مجرد عاهل يتفرج على ما تقوم به الدولة المستعمرة التي يستوجبها نظام الحماية الجديد ستسن على يد جلالة السلطان وعلى يد الولاة الذين لهم التفويض من الجانب الشريف وذلك باقتراح من الحكومة الفرنسية، وهذا العمل يجري أيضا على الضوابط الجديدة والتغييرات الواقعة في الضوابط الموجودة. أما الفصل الثامن بنفس المعاهدة فينص على أن «يتعهد جلالة السلطان بأن لا يعقد في المستقبل بصفة مباشرة أو غير مباشرة أي قرض عموميا كان أو خصوصيا أو منح بأي صفة كانت أي امتياز من غير موافقة الحكومة الفرنسية».
وبتفحص باقي فصول المعاهدة يتبين أنها وإن احتفظت بالمؤسسة الملكية فإنها انطوت على محو معظم سلطات الملك السياسية ولم تبق له في مجال السياسة الداخلية والخارجية إلا إصدار الظهائر مع احتفاظها للمقيم العام بحق الاقتراح والإعلان (تنظيم الحماية الفرنسية في المغرب 1912 - 1939 محمد خير فارس ص 178 طبعة 1972).
هذا ما تركته «المعاهدة» للملك من صلاحيات أما على صعيد الواقع والممارسة فالذي جرى هو أن المقيمين العامين لكل من فرنسا واسبانيا وأعوانهم من المديرين ورؤساء المصالح الفرنسيين (طبعا) أخذوا يستولون شيئا فشيئا على السلطة المغربية والنفوذ حتى أصبح الحكم بيدهم يمارسونه مباشرة وبصفة مطلقة عدا بعض جزئيات المسائل التقليدية التي بقيت بيد الولاة المغاربة وحتى هذه لم تسلم بالرغم من ذلك من مراقبة الإدارة الاستعمارية الصارمة. وإذا كان هناك من دليل على ما آل إليه وضع الملك السياسي في عهد الحماية فهو ما عبر عنه السلطان عبد الحفيظ عندما شعر أن الحماية جردته من أية سلطة حين قال: «ليس لدي أية سلطة ولا أكاد استطيع أن أعطي النصائح لقد غلوا رجلي ويدي وقالوا احكم...» (المرجع نفسه ص 183).
شرعية الملوك
في عهود ما قبل الحماية
عرف المغرب منذ قيام دولة الأدارسة به كيانات سياسية الجامع بينها مهما اختلفت تسمياتها أنها كانت تخضع لنظام رئاسي على رأسه سلطان أو ملك أو أمير أو إمبراطور ليس له من شرعية إلا البيعة، وحتى هذه لم يكن لها في الواقع من حجية إلا شرعية تولية أولي الأمر وعدم الخروج عن طاعتهم، فهي طريقة تولية رئيس الدولة بحيث لا يتولى الأمر بهذه الصفة إلا من تمت له بيعة الانعقاد من الأمة بالرضا والاختيار (البيعة في الفكر السياسي الإسلامي لمحمود الخالدي ص 31) أو كما عرفها ابن خلدون إذ اعتبر أن «البيعة هي العهد على الطاعة، كان المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره» (المقدمة ج 2 ص 549). وبصرف النظر عن تباين الآراء الفقهية بشأن مضمون البيعة ومن يتولى عقدها مع الملك أو السلطان نيابة عن الأمة، فالذي يعنينا هو كيف كان ملوك المغرب يحكمون قبل عهد الحماية وكيف صاروا خلالها؟ عموما كان الحكم تقليديا موروثا عن الماضي وكان السلطان على رأس الدولة وهو وحده صاحب الأمر والنهي فيها وهو ما صار ينعت في عصرنا بالحكم الديكتاتوري أو الاستبدادي أو الفردي الذي كاد المغاربة يضعون حدا له لولا فرض الحماية عليهم، وذلك عندما ضمنوا مبايعتهم لمولاي عبد الحفيظ أمورا منها «تقييد الحكم الجديد لهذا السلطان بعدم الاستبداد بشؤون الدولة والاستئثار بتدبير المملكة وبالتزام الشورى واحترام سيادة الأمة واتباع إرادتها في إدارة شؤونها العامة» (محمد حسن الوزاني -مذكرات حياة وجهاد1- ص 67 بتصرف...) وعلى هذا الأساس تمت بيعة السلطان مولاي عبد الحفيظ يوم 5 يناير 1908 .
أول مشروع للدستور صيغ بالمغرب
وفي نفس السنة نشرت جريدة «لسان المغرب» مشروع دستور نسب إلى جماعة من الشبان المغاربة يهمنا فيه ما تضمنه من بنود متقدمة تدل على أن واضعيه كانوا متنورين، كما نص على حرية العقيدة واحترام الأديان (المادة 50) إن السلطان غير مسؤول بأمر من أمور الدولة (المادة 8) والحريات الشخصية (المادة 13) حرية التعبير (المادة 14) إجبارية التعليم (المادة 15) حرية الطبع والنشر (المادة 16) المساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات أمام وظائف المخزن التي تعطى بحسب الكفاءة الشخصية وليس بواسطة الوسطاء ونافذي الكلمة ولا بالأموال (المادة 17). ومن اللافت للنظر أن هذا المشروع أعفى الملك من كل مسؤولية داخلية أو خارجية (المادة 8)، ويعطي مجلس الشورى المؤلف من مجلسين مجلس الأمة ومجلس الشرفاء صلاحيات مهمة خصص لها ملحقا من ثلاث مواد.
وإذ تنص المادة الثامنة من مشروع الدستور على «أن حضرة السلطان غير مسؤول بأمر من أمور الدولة ، لا داخليا و لا خارجيا ، فإنه يفرد ملحقا من ثلاث مواد يخصصها لصلاحيات منتدى الشورى بمجلسيه و هي:
المادة 91 : وتنص على أن رأى منتدى الشورى هو فوق كل رأى و يقتضي العمل بحكمه في كل حال، و له المراقبة على الإدارات و الدوائر المخزنية بلا استثناء.
المادة 92 : وتنص على أن يهتم منتدى الشورى في سنته الأولى بسن تنظيم قوانين كل إدارة من الإدارات الحكومية للوزارات و المحاكم في القصبات و دار النيابة و المحاكم القضائية و العدول، ولأمانة الاستفادة و للحسبة و لأمانة الديوانة والعسكرية والمدارس و للضرائب و الجنايات و غيرها:
فيكون لكل من هذه الإدارات و الأمور المخزنية قانون خاص بها تسير بموجبه وتعمل بمقتضاه
المادة 93 : وتنص على أنه «لا يسوغ لأحد أن يبطل مادة من مواد هذا الدستور الأساسي ولا يوفق العمل بها لأي سبب كان على الإطلاق ولا أن يغير منه شيئا أو ينقحه، أو يزيد عليه مادة أو تنقص مادة، ما عدا منتدى الشورى الذي له وحده أن يفعل ذلك، فإن رأى منتدى الشورى أن يأتي شيئا مما ذكر بقرار مجلس الأمة ومجلس الشرفاء وبحكم الأكثرية، ولا يعمل بذلك القرار إلا من تاريخ المصادقة السلطانية عليه...»
وبتفحص وثيقتي خلع المولى عبد العزيز ومبايعة المولى عبد الحفيظ ومشروع الدستور المقترح. بصرف النظر عما أثير بشأن هذه الوثائق من سجال وخلاف، فان الذي يعنينا في هذا المقام هو أولا: أن فقهاء المغرب وشرفاءه وتجاره وأعيانه كانوا في تلك الحقبة ذوي جرأة في مواجهة أولى الأمر المخلين بالتزاماتهم الدينية والوطنية (خلع المولى عبد العزيز) ثانيا : تحول تنصيب الملوك من بيعة مطلقة دون إملاء شروط إلى بيعة مقيدة بشروط يلتزم بها المبايع و إلا وجب عزله (مبايعة المولى عبد الحفيظ) ثالثا : شيوع الفكرة الديمقراطية بما تعنيه من رفض استبداد الحكم وانفراده بتقرير مصير البلاد و بتدبير الشأن العام وفق مشيئته (المطالبة باستبدال الملكية المقيدة بالملكية المطلقة) رابعا : و إن فكرة الملك يسود ولا يحكم كانت حاضرة لدى النخبة المغربية (مشروع دستور 1908) و الإ فماذا تعني مواد 80 و91و 92 و93 خامسا : إن في حمولة مشروع الدستور ما ينم على أن واضعيه كانوا منفتحين على مستجدات العصر و متأثرين بما يجري في بعض الأقطار التي قطعت شوطا مهما في تطبيق الديمقراطية (فرنسا و بريطانيا) أو التي بدأت تنشغل بها (الدولة العثمانية) يدل على ذلك تبنيهم بعض المبادئ مثل حرية العقيدة والحرية الشخصية و حرية التعبير و النشر و ترويج المطبوعات و المساواة في الحقوق وغير ذلك مما له علاقة بتدبير شؤون الدولة من آليات مادة و تنظيمية لم تعهدها أجهزة المملكة إذاك .... علاوة على ما أشار إليه الوزاني من أن ظهور نخبة واعية من العلماء و الأعيان غير مستسلمة للوضع السياسي السائد، و لا راضية بسياسة الحكم القائم، عاملة على تغيير ذلك الوضع و إصلاح فساد الحكم ... عازمة على مواجهة الاستبداد و المستبدين، و تحمل مسؤوليتها في تدبير شؤونها العامة، وحماية مصير البلاد من حيث الاستبداد وخطر الأجنبي (حياة و جهاد 1 ص 73).
إجهاض أول مبادرة للمطالبة بالدستور
لكن الذي وقع هو أن هذه البذرة أولى لإقامة نظام ملكي متقدم عما كان عليه على الأقل أجهضت، ذلك لأن المغرب تعرض لغزو أجنبي انتهى باحتلاله و فرض نظام الحماية عليه، فلم تعد في ظله لا ملكية مطلقة يسود فيها الملك و يحكم ، و لا ملكية مقيدة بشروط البيعة ، و لا ملكية على رأسها عاهل يسود دون أن يكون مسؤولا بأمر من أمور الدولة لا داخليا و لا خارجيا كما نص عليه مشروع الدستور المقترح ، بل ملكية شكلية مسلوبة السيادة ، فاقدة الإرادة و المشاركة في تدبير الشأن العام للبلاد، و لا داخليا و لا خارجيا ، لا إدارة البلاد صارت بيد المقيم العام الفرنسي الذي خولت له كل الصلاحيات في التقرير و التنفيذ، و ما على الملك إلا التوقيع وافق أو لم يوافق ، انطلاقا من التوقيع على معاهدة الحماية. و حتى عند رفضه التوقيع لا يحول ذلك دون تنفيذ ما قررته إدارة الحماية، و هكذا أصبح «السلطان يوقع الظهائر، و لكن لم يكن له عمليا سلطة حقيقية ، وفي الواقع لا يطلب رأيه إلى شكليا، و لا يشترك رئيس الوزراء أو الوزراء في أية مناقشة حول المسائل العامة التي تعالج بمعزل عنهم في الدوائر الفرنسية ..... وهذا ما اعترف به ليوطي نفسه (خيري فارس: تنظيم الحماية الفرنسية في المغرب 1912 1939 ص 130)
إنشاء مجالس تمثيلية محلية مزيفة
وبفرض الحماية على المغرب 1912 أجهضت حركة المناداة بالديمقراطية وبالدستور، وحل محلها جهاد مسلح ضد الاحتلال الفرنسي كما هو معلوم باستثناء بعض ما أقدمت عليه سلطات الحماية من مبادرات اقتضتها بنود معاهدة الحماية كاشتراك السكان في تسيير بعض شؤونهم فأحدثت «أنظمة قائمة على ازدواجية ، فرنسية - مغربية ، مختلطة تارة داخل الإدارات، و تارة في حظيرة المجالس (التمثيلية) المهنية و غير المهنية (....) على أساس أن العنصر الفرنسي كان يملك الأكثرية ، كما كان لها صاحب الحل و العقد في كل شيء (...) وكان التمثيل مظهريا أكثر منه ديموقراطيا (...) ولم تكن كل المدن تتوفر على هذه المجالس كما أن أعضاءها معينون من السلطة ومهمتها مراقبة التسيير الإداري و المالي لرئيس المصالح البلدية و هو فرنسي، و كانت المسطرة المتبعة لتأليف هذه المجالس عبارة عن استدعاء طائفة ممن تختار أفرادها الإدارة من الأعيان بواسطة أعوانها، وكان المعينون «ممن ترضى عنهم الإدارة ولا تعتبر فيهم إلا روح الطاعة و الامتثال».
و خلاصة القول في هذه النقطة أن سلطات الحماية أحدثت بعض المؤسسات «التمثيلية» و لكن في نطاق محدود، و ذات أكثرية من الجالية الفرنسية، رغم أنها أقلية. بيد أن هذه المجالس لم تلبث أن ألغيت لتعوض بنظام بلدي عام .هذا فيما يتعلق بمشاركة المغاربة في المجالس «التمثيلية» المحلية . فماذا عن مشاركتهم في المجالس «التمثيلية» الوطنية؟ تذكر بعض المصادر «أن إدارة الحماية سارت على نظام الحكم المطلق تقترح التشريع و تنظمه الإدارات الفرنسية في جميع ما كانت تعتبره سلطات الحماية تطبيقا لما نصت عليه معاهدة الحماية بشأن الإصلاحات ... و ذلك تحت إدارة فرنسيين وإشراف المقيم العام وتوجيهه بحيث أبعد الملك ووزراؤه عن إدارة شؤون الدولة، ولم يبق للملك إلا إمضاء الظهائر التي ترى إدارة الحماية عرضها عليه و لم يبق للصدر الأعظم إلا إمضاء القرارات الوزارية في المسائل التي ترى الإدارة عرضها عليه لإمضائها، (غلاب التطور الدستوري النيابي في المغرب من 1908 - 1977 - ص 140) و هكذا سلبت السيادة المغربية من أصحابها و صارت بيد الحكومة الفرنسية ممثلة في شخص مقيمها العام ، الذي أصبح يتصرف في شؤون البلاد كيف يشاء ، فإذا قارنا هذا الأسلوب في الحكم بما تضمنته معاهدة الحماية نجد أن ما جري بالمغرب هو إفراغ المعاهدة من محتواها و الشروع في نهج سياسة مخالفة ، حولت نظام الحماية إلى نظام استعماري يخدم مصالح فرنسا و جاليتها المستوطنة في المغرب ، ففكرة الحماية كما نسب للمرشال ليوطي الذي شغل منصب الإقامة العامة بالمغرب من 1912 إلى 1925 تعني أن الدولة المحمية تحتفظ بأنظمتها و حكومتها الخاصة ، وأن تحكم نفسها بنفسها عن طريق هيئاتها المنظمة ... و المغرب دولة مستقلة تعهدت فرنسا بحمايتها على أن تظل تحت سيادة السلطان مع الاحتفاظ بنظام الحكم الذي اتخذته، و من الواجبات التي نيطت بها ضمان وحدة هذه الحكومة و المحافظة على نظام الحكم القائم بها... (صلاح العقاد المغرب العربي ص 279) و تبعا لهذا التحول انتقل المغرب من حكم مخزني تقليدي مغلق إلى نظام احتلالي استعماري مطلق ، خبت في ظله حتى تلك البذرة الأولى التي حققتها النخبة المغربية في مضمار انتقال ملكيتهم من ملكية مطلقة إلى ملكية مقيدة و ذلك قبيل فرض الحماية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.