«حين نكتب لا نحرص فقط على أن نفهم، لكن نحرص أيضا على ألا نفهم». هكذا هي الموسيقى، منذ أول خروج لها من الطبيعة إلى آخر دخول لها في الثقافة، لا تكون واضحة ولا تكون غامضة.. تنكشف للآذان الصغيرة الدقيقة وكأنها لأول مرة تظهر، لأول مرة تعزف، لأول مرة ترعش الجسد. هكذا هي الموسيقى، لا تصحو إلا في الحد الفاصل الواصل بين الغرابة والألفة، بين الخروج من السكر والدخول في الصحو، بين الغسق إذا وقب والشفق إذا انبثق، بين الحاضر والغائب، بين من يرسو ليستريح وينام ومن يصحو ليركب صهوة الحياة، بين الأعالي ندفع إليها الصخرة رغبة في التحليق والسفوح نتدحرج إليها رغبة في الرقص. هكذا هي الموسيقى: النهار ليس سوى ضوء يلبس الأشياء، لأنه (أي النهار) شيء من هذا العالم، لحظة من لحظاته، ينتشر في السطح ليصير جلد الأشياء والكائنات، ليصير بشرة.. ويلج الليل النهار كاشفا للأذن عمقا لا أحد من قبل لاحظه لأنه غير مرئي.. وللذي يعرف كيف يصيخ السمع: السطوح والأشكال تتلاشى وتمحي.. وما يدوم ليس سوى النسيج: في الليل يصبح العالم مسكونا بالصوت. اسمحوا لي الآن أن أقدم الفنان عازف العود سعيد الشرايبي، المحتفى به في هذه الليلة الديونيزوسية، من خلال هاتين الشذرتين النيتشويتين. الشذرة الأولى «هذا ما يحدث لنا في الميدان الموسيقي: ينبغي قبل كل شيء أن نتعلم كيف نسمع حركة الأقدام في الرقص، كيف نسمع لحنا، أن نعرف كيف نميزه بالسمع، كيف نتبينه ونعزله ونحدده باعتباره حياة في ذاته.. ثم يلزمنا أن نتحلى بالصبر إزاء نظره وتعبيره، وبالحنان إزاء ما هو فريد فيه.. تأتي في الأخير اللحظة التي نعتاده فيها، ننتظره فيها، نحس فيها أننا سنفتقده إن غاب.. ومنذ هذه اللحظة لا يكف عن ممارسة إكراهه وسحره علينا حتى يجعل منا عشاقه المتواضعين والمفتونين الذين لا يتصورون أن في العالم شيئا أجمل منه، ولا يرغبون في أكثر منه، ولا في شيء غيره هو... بيد أنه ليس في الموسيقى فقط يحصل لنا هذا: فبهذه الطريقة بالضبط تعلمنا أن نحب الأشياء التي نحبها الآن. إننا ننتهي دائما بأن نجازى على استعدادنا، على صبرنا، على عدالتنا، على حناننا تجاه الغرابة، بحيث تنكشف الغرابة شيئا فشيئا وتهب لنا نفسها كجمال جديد لا يوصف.. هنا يكمن امتنانها لكرم ضيافتنا. إن الذي يحب نفسه لن يكون قد وصل إلى ذلك إلا من هذه الطريق.. ليست هناك طريق آخر غيرها.. ذلك لأن الحب أيضا يجب أن يتعلم». الشذرة الثانية «لا صدى لحياتك في آذان الناس.. فأنت بالنسبة إليهم تحيا حياة صامتة، لأنهم لا يدركون كل رهافة اللحن وكل تصميم دقيق في الاصطحاب أو في المقدمة. صحيح أنك لا تسير في وسط الشارع على أنغام موسيقى عسكرية، لكن هذا ليس مبررا ليقول هؤلاء الجريئون أن الموسيقى تنقص سياق حياتك. من كانت له آذان فليسمع». شاعر وناقد فني