إن الحضيض المتصاعد الذي يطبع مسرحية «آي حواء» محرك أساسي يرفع مستوياتها الدرامية كعرض تجريبي يقف وسط الطريق بين الحياة والموت، بين الفن والتاريخ، وبين السلم والحرب كما بين الحقيقة والوهم. فالشجاعة التي يختار الجندي السلاح والعنف العسكري وسيلة للتعبير عنها لن تكون مناسبة هذه المرة. إذ ما يميز هذا العرض من الوجهة الإيحائية له علاقة لصيقة بكل الأشكال الحضيضية المعبرة في المقام الأول عن الوعي الإنساني بهذا الاصطدام القيمي العنيف بمساحات التعبير المبعدة والمقصاة، وبالتالي أخذ المبادرة الشجاعة قصد التعبير عن هذا الوعي الإنساني المعاكس. وربما في هذا السياق تكمن فضيلة الإنسان، وإنسانيته، وكذا قدرته على تثوير أنماط واستراتيجيات التعبير عن واقعه الفعلي. 1. رهان التعبير سليم جدا في اعتقادي النظر إلى الحرب-الثورة التي يشارك فيها الجندي-الفنان باولينوPaulino من زاوية رمزية، باعتبار الرمز في هذا الصدد اختيارا تعبيريا، بعيدا عن كل محاولات وأشكال الرصد التاريخي أو الوثائقي للأحداث. فالحرب المشتعلة في هذا العرض هي حرب فنية تعبيرية بامتياز، حيث يقدم الجندي-الفنان على تجييش كل ما لديه من كائنات ومفردات وأدوات وتقنيات فنية قصد الإطاحة بنظام فني قائم باستبداد وتسلط، متواصلين على امتداد التاريخ منذ العهد الأرسطي. يتحرك العرض ويتقدم على نحو استعراضي صاخب، ثم يمتد نحو أفق احتفالي غريب، ترسم ملامحه ألوان الموت وألوان الحياة وهي تتشابك وتنصهر في سبيكة تعبيرية تستحضر لغة الحرب ولغة الفن في آن معا. تتطور بنية العرض على إيقاعات الموسيقى والرقص والصخب والضحك والهتافات وغيرها من العناصر التعبيرية الصادرة عن كل من باولينو وحواء، دون إغفال الحوارات المنكسرة التي تدور بينهما على نحو وجيز وسريع، لكن بليغ. ثم نتبين كيف أن الإثنين- باولينو وحواء- يتدربان ويستعدان في الوقت نفسه إلى المشاركة في أمرين: حرب الثورة وتقديم عرض مسرحي. والمثير للغاية في هذا السياق أن الطرف النقيض في هذه الحرب هو ذاته من سيتلقى العرض المسرحي المزمع تقديمه. بهذه المفارقة الصادمة، يسير عرض «آي حواء»، وكذا العرض الموضوع داخله، حتما نحو سقوط المرأة - حواء- الفنانة الثائرة والحالمة بفسحة تجريبية جديدة، وفضاء فني مخالف لكل أنماط الممارسة المسرحية السائدة. لكن الفن ليس كالحرب. وهنا تظهر خطوط عريضة وتمتد للفصل بين جسدين: جسد واقعي يكون أو لا يكون، يبقى أو يفنى. هذا الجسد هو التاريخ والبيان والمنطق؛ وجسد رمزي ينمو حينما يتذمر، ويكون كلما انهار، وهذا الجسد هو التجريب الفني الذي يغذي شرايينه من الفشل في كسب رهاناته وتحقيق رغباته التعبيرية في التأثير الفني العميق، ليضمن لنفسه البقاء في مدار الصيرورة والانبعاث والتجدد. وهنا نفهم كيف اتخذ صمويل بيكت من الفشل مبدأ جوهريا وحيويا في عملية التعبير الفني، بل وشرطا ضروريا للجلاء بالذات المعبرة عن دوائر العادة والائتلاف والرتابة، كما عن مؤسسات النظرية والنظام والمنطق. تعد فكرة الفشل أحد أبرز العناصر الأساسية التي يحاول عرض «آي حواء» الاعتماد عليها قصد تأكيد أمرين: الأمر الأول هو رفض وإبطال كل تصور يتعامل مع المسرح- والفن عموما- باعتباره بنية مغلقة وثابتة، كاملة ومتكاملة؛ أما الأمر الثاني فهو إشارة دقيقة للدور الذي تلعبه مسألة الفشل الفني في تحويل العمل المسرحي من رسالة مضمونة إلى رهان سيزيفي، مستعاد ومخفق، إلى ما لا نهاية. إنه التجريب على خشبة الفشل التي تطؤها أقدام حواء وباولينو للتعبير عن رفضهما تقديم عروض فنية دون أخرى. فحواء تموت رميا بالرصاص نتيجة رفضها تقديم عرض «تحية العلم»؛ في حين ينتهي باولينو على رصيف الإدمان على الخمر، والتمرغ في القذارة والعزلة والهذيان، وأشياء أخرى اختارها الجيش وسيلة لتعذيبه وإذلاله ، بعدما عزف الجندي-الفنان عن تقديم «نمرة الضراط» المضحكة. على نحو مماثل، يبدو التقاطع التعبيري جليا بين مجالين طالما تداخلا فيما بينهما خلال العرض: الفن والتاريخ، أو قل بين التجريب وغيابه. والحال أنه حيثما يغيب التجريب- باعتباره ممارسة إبداعية- عن ضفافه المتجددة، يكون التكريس النظري والتقعيد النمطي والنقل المحاكاتي للواقع كما هو الشأن في الكتابة التاريخية بمفهومها الشمولي. ثمة في عرض «آي حواء»، إذن، نقلة تجريبية من التاريخ إلى الفن، تتضح ملامحها في إصرار حواء وباولينو على رفض إعادة تقديم كل ما هو سائد ونقل أحداث الواقع كما هي بالضبط. وتذكرنا هذه النقلة التجريبية من التاريخي-الواقعي إلى الفني-الخيالي بالتحول التعبيري الذي أصاب شخصية Roquentin في عمل Nausea لجون بول سارتر، عندما قرر التخلي عن كتابة سيرة تاريخية للتفرغ، في المقابل، إلى بناء عمل روائي حول عبثية الإنسان. إن التجربة التعبيرية في «آي حواء» تجربة رمزية ساخرة تجعل الحاضر غائبا، وتعطي الغائب فسحة واسعة للتعبير والتجلي. فالعرض كله موضوع في حلة عسكرية، لكن الحرب، بكل مظاهرها العسكرية تبقى بعيدة وضعيفة الحضور مقارنة مع التعبير الفني الصادر عن حواء وباولينو على امتداد العرض، إضافة إلى التوظيف المتواصل للموسيقى والشعر والغناء والرقص والصورة الخاطفة. ما جدوى الحالة العسكرية في العرض إذن؟ إنها حمولة رمزية تنحت صورة تجربة مسرحية ثائرة، رافضة لكل أشكال المسرحة المستبدة والمعارضة لبيانات الاختلاف والتحرر والتجدد. حمولة رمزية التعبير، ثقيلة الوطأة، تعلن الهدم والبناء من النواة، في آن واحد. ولنتذكر كيف أن رواد المسرح الحديث، خصوصا جماعة باريس في الخمسينيات، نشئوا في بيئة ملوثة بالحربين العالميين الأولى والثانية. لكن رغم هذا الحضور العريض في قلب الحرب فإنهم لم يعنوا بها، وبالتالي لم يسخروها قضية في أعمالهم، ولم يحاولوا التعبير عن موقف مباشر بخصوص الحرب، الأمر الذي يعني إصرار هؤلاء الكتاب على رفض فكرة جعل الكتابة الإبداعية قناة لتصريف أو تمثيل واقع تاريخي كما هو الحال مع المدرسة الطبيعية-الواقعية على سبيل المثال. فهؤلاء اختاروا نهجا تعبيريا مغايرا هدفه تثوير التجربة الإبداعية وإبعادها عن كل محاولة تمثيلية لصيقة بقضايا تهم تاريخا ساهم في المصادقة على نمط فني دون غيره، وتزكيته قصد تسخيره لأغراض أيديولوجية نفعية. وهذه النقطة يعبر عنها باولينو بشكل دقيق، يقول مخاطبا حواء: «أنصتي إلي جيدا، الجمهور بدأ يلج المسرح، ونحن فنانون فقط، ولا يهمنا سوى الفن، أما السياسة والساسة فليذهبوا إلى الجحيم.» الإنسان هو قبل كل شيء كائن وجودي، أو حسب تعبير سارتر، كائن موجود في حالة معينة. هذه الحالة هي العالم. معنى ذلك أن الإنسان بمفرده جزء من «المجتمع الكوني». فالحرب في «آي حواء» ليست حربا إسبانية. إنها من وجهة رمزية حرب هجينة ذات خصائص كونية تحطم كل الحواجز وتجعلها في سيولة وانصهار متواصلين. والملاحظ في هذا السياق أن هناك طيلة العرض انتقالا لفظيا مفاجئا بين ثلاث لغات: عربية- إسبانية- إيطالية. والإنسان في هذا العرض فنان قبل كل شيء: (حواء / باولينو). ثم إن الحمولة الرمزية التي تجسدها شخصية حواء هامة وحاسمة في فهم طبيعة التجربة الدرامية التي يقدمها العرض، وكذا الخطوط التجريبية التي يرسمها. فحواء كما هو معلوم هي بمثابة نقطة فاصلة بين عالمين: عالم العصمة وعالم الخطيئة. تقترن دائما بلحظة المعصية الأولى، لحظة اللغز الأبدي (ولادة- موت- بداية- نهاية). بداية تشرف بعد نهاية النعيم وفقدانه، مصدر بداية شقاء الإنسان في الكون. إنها الأم التي تموت، تولد ثم تموت، وهكذا. فالصورة هنا حالها حال التجريب الفني، قائمة هي الأخرى على تجاوز الخطوط الحمراء والاستمرارية والصيرورة والتجدد والمفارقة والترميز. وإذا كان الفنان، في أعمال الطلائعيين في المسرح أمثال بيكت ويونسكو وجنيت على سبيل المثال لا الحصر، شخصا يعمل في لحظات الانتظار والاحتضار أو الدمار الوجودي والنفسي، فإن الفنان في «آي حواء» إنسان ينهض للعمل من غبار قبره. كما أن الشخصية التي يقدمها عرض «آي حواء» كائنات غريبة في غاية التعقيد، وذات لغز عصيب. فهي تجمع بين الحياة والموت، بين البداية والنهاية، وبين السعادة والشقاء. إنها بالتعبير الميثولوجي هجنة بين بروميثيوس Prometheusرمز الغضب والاحتجاج الأبديين، وبين سيزيف Sisyphus رمز الفشل والمعاناة المتواصلين. وهذا التناقض يصيب قلب العرض ويؤثر على مستوياته التجريبية التي تعمل، دونما انقطاع، على رج استقرار مفهومي الكوميديا والمأساة. 2. رهان المتلقي على مستوى آخر، تطرح مسألة اللغة- وتحديدا الكلام المنطوق والمكتوب- في «آي حواء» موضوعا إشكاليا وتمتد كأفق واسع للتحليل والتأمل والتفكير. إن الاختلاف القائم بين اللغة بصفتها نسقا محددا وبين التعبير أو الكلام، باعتبارهما ممارسة طليقة يساعد كثيرا على فهم طبيعة الخلل الذي يصيب علاقة التجريب المسرحي بالمتلقي، مشاهدا أو ناقدا... فالمتلقي يحاول دائما إخضاع التجربة الإبداعية المعروضة إلى قالب نظري جاهز تحكمه قوانين اللغة، الأمر الذي يساهم في شحن العلاقة التواصلية بين العرض والمتلقي بسوء الفهم والانقطاع الدلالي وغياب التواصل الحقيقي. وربما لن يستقيم نقد العمل التجريبي بشكل سليم إلا عندما ينطلق كمشروع مفاهيمي وأسلوبي يميز اختلاف العلاقة بين اللغة كنظام عام للدلالات وبين الكلام باعتباره تعبيرا خصوصيا. إن التجربة المسرحية والإبداعية عموما هي، قبل كل شيء، دعوة إلى مقاطعة المألوف وإحضار اللا منتظر، الغائب باستمرار في قاعات العروض، وبالتالي فإن التجريب المسرحي سيشكل فضاء ممتدا خارج جاذبية اللغة، ما دامت هذه الأخيرة تمثل مجالا محكما يخضع سائر أنماط التلفظ إلى قانون السقوط في هيمنة نظام النحو والبلاغة واللغة. وتمثل مسألة عودة حواء من عالم الموت شكل من أشكال إحضار اللا منتظر وإشارة صريحة إلى إمكانية توظيف فكرة الانبعاث. فحينما يحاول باولينو لأول مرة لمس حواء- الجسد الميت المنبعث- فإنه يكون قد شرع رمزيا في ممارسة فعل التجريب. «جرب! «، هذا ما تخاطبه به حواء وهو يحاول لمسها. ويمكن القول إن التجريب الإبداعي في جوهره فعل ملامسة- ملامسة سطوح الموت أملا في إحياء أجزاء منها. وهذه النقطة تعبير عن خصوصية التجريب وغرابته ككلام منكسر يمارس لعبة التحول والانفلات والانزياح عن حدود اللغة، اعتمادا على عناصر تعبيرية بديلة كالرقص والموسيقى والصراخ والضحك والبكاء. وتتداخل هذه العناصر التعبيرية فيما بينها لتقدم عرض مسرحيا قابلا للإدراك وإثارة الحس الفني لدى المتلقي، رغم تقليص مساحات الكلام بمفهومه السائد. فالفضاء الذي ينفتح عليه التجريب هو مناسبة للكلام بعيدا عن قواعد الدلالة والمنطق، ودون الخضوع إلى ضوابط وأعراف موروثة. وهذه النقطة تؤكد من جهة على إستراتيجية الفوضى والتخريب في التجريب المسرحي، لكنها من جهة ثانية تفسر كيف أن التجريب المسرحي قادر على صياغة العمل الدرامي في قالب حرباء- دائم التجدد والتغير- وأسلبته على نحو يسمح بالتأمل والإدراك، مع صيانة المسافة الجمالية الكافية لترك الأثر الفني والجمالي على المتفرج. وهذا موضوع آخر يظهر فعلي التجاوز والإرجاء على نحو شبيه بتصورات جاك دريدا للمفهومين. في الواقع، التجريب المسرحي في حاجة كبيرة إلى جمهور مبدع متفاعل مع العرض، حيث يكون المتلقي طرفا جوهريا في عملية استقبال وإنتاج المعنى وفق سياق تاريخي وثقافي معين. والتأكيد في العرض التجريبي- وهذا بيت القصيد في «آي حواء»- يكون دائما على «لمن يقدم العمل؟»، وليس «كيف أو ماذا يعني العرض؟». وهذا الاهتمام الكبير بالمتلقي هو ما تحاول «آي حواء» تناوله بكيفية رمزية في شخص حواء، التي تحاول مد جسور الاحتفال والفرجة والتواصل مع جمهور سرعان ما ينقلب إلى قاتل لها ولأحلامها الفنية. والملاحظ في العرض أن كلا من حواء وباولينو يبديان اهتماما فائقا بالجمهور، على نحو يتأرجح فيه العرض بين الرغبة في إرضاء القاعة بالتجارب الجديدة والرهبة من احتمال وقوع فشل في ذلك. فحواء وباولينو مصران على عدم تقديم عرضي «نمرة الضراط» و»تحية العلم» لأسباب لها ارتباط وثيق بقناعاتهما ومبادئهما الفنية المتعارضة أساسا مع رغبات الجمهور. فعندما تطلب حواء من باولينو، الجندي-الفنان، عرض «نمرة الضراط» فإنه يجيب: «كفى، اعلمي أنني مغن قليل الحظ. ولكنني مغن .. وإصدار الغازات عكس الغناء. إنه الغناء ولكن بطريقة عكسية، والناس يعجبهم ذلك. أنظري إليهم كيف يضحكون». ينهي باولينو كلامه ليدخل في رقصة رائعة رفقة حواء، في مشهد كاف لتحقيق درجة عالية من الأثر الجمالي في سياق كاد يغيب فيه تماما. على نحو مماثل، ترفض حواء تقديم عرض «تحية العلم»، ورفضها هذا له ارتباط موصول مباشرة بنوعية الجمهور الذي يتكون- حسب اعتقادها- من الجنود الأسرى. تقول مخاطبة باولينو: «لن أقدم فقرة العلم.. أرتجل مكانها أي شيء.. إلا السخرية من علم هؤلاء الأسرى.. ذلك سيكون فوق طاقتهم.» بعد ذلك بقليل تضيف مؤكدة: «أنا أعشق الجمهور كثيرا، وتلك نكتة أخرى سوف...»، عند هذه النقطة يرتفع صوت باولينو مقاطعا: «كفى. هذا الجمهور ليس لتلك النكت البذيئة.» فالرهان الكبير للتجريب المسرحي له ارتباط وثيق بطبيعة المتلقي، كما وكيفا. هذا المتلقي الذي طالما تعود على رفض جل التجارب المسرحية، والنظر إليها بعين الغرابة والنقد السلبي، بدعوى أنها غربية وعقيمة وغير مجدية. وما يفسر هذا الموقف تجاه التجريب هو الاعتقاد بغياب عناصر الفرجة المألوفة القائمة على إثارة اهتمام المتفرج على نحو يتجانس مع رغباته، ويستجيب لتوقعاته وأساليبه في استيعاب العروض المسرحية وتلقيها. فالمشكل في اعتقادي غير مرتبط بالفعل التجريبي في المسرح، وإنما هو نتاج ثقافة سائدة وجاهزة تحدد وتحكم كيفية التلقي، وكذا أساليب اكتساب وصياغة وإنتاج المعرفة بشكل شمولي، وبالتالي تداولها وتقييمها وفق شروط ثقافية باتت محددة ومبرمجة. من هذه الزاوية، يمكن الوقوف عند نقطة الاختلاف الحاصلة والفاصلة بين مسرح تجريبي يروم خلخلة سلطة الحضور والتقليد في الممارسة المسرحية، وجمهور متشبث- إلى حد الخضوع والتقيد- بكل أشكال المسرحة الموروثة وأساليبها المؤسسة على فكرة «وحدة النظام» كما تروجها الفلسفات والأيديولوجيات الغربية بالأساس، الأمر الذي يِكد استمرار النزعة المحافظة لدى المتلقي. وثمة في العرض إشارة رمزية لهذا النوع من المتلقي جاءت على لسان حواء وهي تخاطب باولينو، تقول: «ما أهمية إحضارهم [المشاهدون] مكبلين بالسلاسل لمشاهدة نمرة تحية العلم على خشبة المسرح.. إذا كانوا سيعدمونهم في صباح اليوم التالي رميا بالرصاص». فالصورة المجازية هنا واضحة وصريحة، حيث العلاقة بين الجمهور وهذا النوع من المسرح هي علاقة العبد بالسيد، والسجين بالجلاد، والحاكم بالمحكوم، والقاتل بالمقتول، خصوصا إذا علمنا أن الصورة المجازية تمتد لتضع المنتج والمخرج للعرض المسرحي المزمع تقديمه في حلة قائد عسكري إيطالي رفيع المستوى. وجدير بالذكر في هذا السياق أهمية إدراك الارتباط الرمزي بين هذا القائد العسكري- والمخرج المسرحي في الوقت نفسه- وبين إيطاليا. فهذه الأخيرة تمثل بلده وموطنه الذي حسم، منذ عصر النهضة الأوربية، في تأطير وتجنيس ومصادرة الممارسة المسرحية وحصرها في خشبة إيطالية بدرجة عالية من التحديد والصرامة والإحكام، الشيء الذي يعني أن كل تجربة مسرحية تنزاح عن خط النظرية الدرامية المحددة سيكون بمثابة محاولة انقلاب ضد سلطة النظام واستقراره. من هذه الوجهة المجازية، تتسع لائحة التهم الموجهة للتجريب المسرحي لتشمل الفوضى والتخريب والجنون والشذوذ وأشياء أخرى من هذا القبيل. وهذا الموقف تجاه التجريب المسرحي حاسم في تفسير التقاطع الدلالي بين الفن والتاريخ، وبين التجريب والتقليد في عرض «آي حواء»، وكذا الاختلاط الوظيفي بين الفنان والديكتاتور، واختلاط التحرر بالاحتلال. ويعبر باولينو على هذه النقطة مخاطبا القائد الملازم- مخرج العرض المسرحي الموضوع داخل عرض «آي حواء»: «ليس لأنك فنان فحسب، ولكن أيضا لأنك من إيطاليا، منبع الفن والفنانين- مايكل أنجللو، ليوناردو دافنتشي، دانتي، فيفالدي، بوكسيني، روسليني، موسوليني، والسلسلة طويلة..». بهذه الطريقة، يبدو جليا كيف أن عرض «آي حواء» قد توفق إلى حد كبير في استغلال قوة الرمز للتعبير عن التداخل بين الواقع والخيال، وبين التقليد والتجريب.