من المفاهيم الاساسية التي كان قد نحتها السوسيولوجي الفرنسي الشهير الراحل بيير بورديو، واشتهر باستخدامها في توصيف بعض الظواهر الاجتماعية والسلوكيات المترتبة عنها مفهوم HABITUS الهابتوس. مفهوم مركب يتجاوز مصطلح العادة بحصر المعنى، وان كان هذه الاخيرة تشكل أحد مكونات أو زوايا المفهوم. ويمكننا من منطوق كتابات بورديو أن نعرف ونترجم مفهوم الهابتوس بالمادة المستبطنة وقد اصبحت جزءا لا يتجزأ من الذات، يتولد عنها استعداد طبيعي للاتيان بنوع محدد من السلوكيات. والافعال والانفعالات تغدو شبه آلية عند صاحبها لا تخضع لسؤال أو مساءلة. ثم ينتهي بها الأمر الى الاستقرار كبنية يستحيل زحزحة عناصرها أو تغيير اتجاهها. تذكرت هذا المفهوم وصاحبه هذه الايام، بمناسبة الحملة الاستفتائية وأنا ألاحظ بعض تحركات وردود افعال وانفعالات عدد من رجال السلطة إزاء ما تمور به الساحة من نقاشات وسجالات ومواقف. بالطبع، فليس بدعة ولا عيبا أن تقوم السلطات الادارية بالوظيفة المنوطة بها، في مثل هذه المناسبات. والمحطات الكبرى وظيفتها الادارية واللوجستيكية في الاعداد والتنظيم بشكل احترافي ومحايد. فهذه وظيفة السلطة في كل الدنيا. لكن هناك فرق كبير بين هذه الوظيفة الادارية، المدنية، العادية والضرورية. وبين ما يبدو من ثنايا اليومي خلال المدة الأخيرة من تضخيم للمخاوف أو فبركة للنعوت لكل من يعبر عن رأي مخالف أو حتى غير مطابق في أدق التفاصيل. فرق بين التنظيم الاداري اللوجستيكي، وهو مطلوب وملح وبين الاتيان بسلوكيات في الخفاء تبين أن لدى أطياف كثيرة من رجال السلطة خلطا بينا، ومسكوتا عنه لأنه متفرع من الهابتوس - بين الاستفتاء والاجماع، بين الاستفتاء وتلك النتائج التي كنا قد تعودنا عليها في السابق، والتي لا تعتبرها السلطة ايجابية بالارقام إلا إذا جاورت فيها التسعة التسعين على سلم الاحصاء. ليس ضروريا أن يترك المسؤولون الكبار رجال السلطة في قاعدة الهرم الاداري ينساقون مع ذلك الهابتوس الذي تربوا عليه، والحال أننا في مرحلة انتقال مفصلية تود فيها الامة وتتوق الى توديع - والى الابد - ذلك النوع من الهابتوسات وتعانق المستقبل من أبوابه الواسعة. ليس من الضروري ولا من المنطقي ولا من الصحي، أن نتخوف من صوت العقل أو أن نتنكر لمنطق المناظرة وأخلاقيات الحوار وأدبياته لحساب منطق التهييج و»التحياح« بالشكل الذي يقوم به البعض، وكأن المغاربة غير قادرين على إدراك الاشياء بعقولهم وما تراكم لديهم من معرفة وتجربة. ليس من الضروري ذلك لأن حوار العقل ممكن ويهمنا تعميقه بمناسبة الحملة الاستفتائية. ثم ان هذا الحوار يمكن ان يؤدي الى النتيجة المرجوة دونما حاجة الى تهييج أو تخويف أو صناعة أجواء دراماتيكية، فنحن في مفترق طرق وهناك رؤيتان - مقاربتان تتصارعان. مقاربة التدرج المنتج، في الاصلاحات والخطوات باتجاه توازن السلط واستقلالها. و لهذه المقاربة اسم في العلوم السياسية وواضح ان مشروع الدستور المعروض على الاستفتاء تحقق جزءا لا يستهان به. من هذا المتطلب في الظروف الراهنة وضمن ظروفها الصعبة والمعقدة. وفي المقابل هناك المقاربة التي لا تؤمن بالتدرج وتستعجل مرحلة التوازن المطلق في الصلاحيات والاختصاصات، هنا والآن. وحوار العقل بين المقاربتين الرؤيتين ممكن ومطلوب. ثم بعده يكون الاحتكام الى النتائج دون مزايدة أو تزيد. ونحن في مفترق طرق، وهناك طريقتان في رؤية الامور تتصارعان: رؤية ترى الوثيقة الدستورية نهاية مطاف في مسلسل الاصلاح الديموقراطي وتعطيها من ثمة طابع التأسيس الاولي لكل شيء ذي قيمة في التحول السياسي، وطريقة اخرى في النظر ترى مسلسل التحول السياسي ثلاثي الابعاد، فيه بالطبع الشق الدستوري، لكن وبموازاة معه هناك مطلب الاصلاحات السياسية العميقة والاجراءات الملموسة لمحاربة الفساد، واقتصاد الريع والامتيازات وضخ جرعات حاسمة للتماسك الاجتماعي وتطوير في مكونات النخبة تعيد الثقة في المؤسسة المنتخبة. والحوار بين الاتجاهين ممكن ومطلوب ولا أ عتقد، بكل صدق، بالنظر للاشكالات المطروحة ودقة المرحلة، أن الاتجاه الاول، أي ذلك الذي يقول بالاصلاح التدريجي، و لكن الملموس الخطوات، ويربط بين الاصلاح الدستوري والاصلاح السياسي، والحاجة الى نخب جديدة - لا أعتقد ان هذا الاتجاه يعدم الحجج والبراهين الى هذه الدرجة التي تجعل فوز أطروحته رهينا أو متوقفا على هابتوس السلطة العتيق والمتقادم، وإلا فهو استكثار الذكاء على الناس، وجحود بعقلهم، وهو (هل نحتاج الى تذكير أصحاب الهابتوس إياه) أكثر الاشياء توزيعا بالعدل بين الناس كما قال ديكارت. وإذن دعوا الفرصة لحوار العقول.