المختار ميمون الغرباني، ذلك الشاب المتعدد، المناضل السياسي في حزب الاتحاد الإشتراكي، والنقابي الملتزم والجمعوي الفاعل، على هامش أصالته الإبداعية. و»فتنة المساءات الباردة...!»، هي المجموعة القصصية الأولى والأخيرة للمرحوم الغرباني، فقد تيتمت مع ابنه عبد السلام، إثر حادثة سير سلمت للموت الذي سله من الحياة وهو في عز شبابه، 42 سنة، وفي بداية انطلاقته الإبداعية، شعرا وقصة. ومجموعته اليتيمة هذه تشكل مؤشرا كبيرا على أن هذا الشاب امتلك ناصية الإبداع القصصي بموهبة نادرة وبطاقة متميزة. غير أن قدر الموت لم يمهله إلى أن يبلور مشروعه الخلاق، فترك مجموعة من القصص والقصائد الشعرية، منها هذه الباقة القصصية الصغيرة في حجمها، حيث تضم عشرة نصوص، الكبيرة في بنيتها وعمقها... حين قرأتها المرة الأولى لم أستطع أن أعثر لها على أي خيط يمكن أن أقاربها من خلاله، وفي قراءتها الثانية بدا لي تميزها في عدة وجوه أهمها ما اصطلحت عليه بالتوالد النصي وبالقصة الشعرية: 1 التوالد النصي: ضمن هذا العنوان الفرعي أتناول توالد وتناسخ وتناسل عدة تقنيات بانية للقصة القصيرة، يجعلها ذلك واسعة الدلالة أو تحمل إشارات بلا ضفاف. ومن ذلك، أولا، التفريعات القصصية ضمن القصة القصيرة الأصل. في رحم قصص المجموعة تتناسل قصص قصيرة جدا. ففي قصة «خليها على الله» تنبثق قصة الروبيو وقصة التلميذة الشقراء وقصة زوجة المعلم الملتحي وقصة نفس المعلم يستعد لحفل العقيقة، ضمن قصة في حجرة مدرسية حيث التلاميذ الصغار يتطلعون في براءة إلى كل جميل بينما يصبح المعلم الملتحي هو نفسه المنع والقهر والقمع دون أن يفيد التلاميذ... وفي القصة الأخيرة التي تحمل نفس عنوان المجموعة، تتوالد قصص قصيرة جدا تتعدى السبع من قصة ذات السارد المتشظية في مقهى الزمن، تتناسل قصة التلفاز ومنها قصة المذيعة الشقراء، ومن التلفاز قصة هي صورة شرطي إسرائيلي يعتدي على امرأة فلسطينية يخنق وليدها ثم يقتلها تحقيقا لمتعة القتل، ثم قصة صاحب المقهى، ثم قصة الفتاة المكتنزة المطلة من شقة في عمارة مقابلة للمقهى تستفز السارد، ثم قصتا الصوتين الداخليين ل»أنا» السارد وقصة أنثى السارد، وقصة صقر يتربص بيمامة «لاهية تجمع تفاصيل عشها». وفي قصة «عروس المساء» تتكرر ثلاث قصص حول ذبح الجد لثلاث بقرات، الأولى قربانا للاستسقاء، والثانية من أجل عودة الابن، والثالثة كي لا يشبه الحفيد أباه، وبعد الذبح وأكل اللحم لم يتحقق أي من تلك الأهداف... وتناسخ الشخصيات من شخصية واحدة، تتوالد شخصيات عدة إما عبر تشطي الذات وإما عبر أصوات تتكلم من الذات حول الذات.. وتوالد التيمات كما في قصة «الزعيم» تيمات منتزعة من الذاكرة ومن الحلم والسقوط في زنزانة عقابا على الرأي... وفي قصة «عروس المساء» أيضا تتناسل التيمات من بعضها: تيمة منع الهجرة التي خلقت تيمة هجرة الابن وهذه نتجت عنها رغبة الحفيد في تكرار تجربة أبيه... واقتراض شخصيات من أشكال فنية أخرى من مثل شخصيات الرواية، التي تحركت بشكل مزدوج، في الرواية وفي القصة. وبث الروح في رسوم اللوحات والسجاد أو البساط كما في قصة «الأبرق» أو قصة «عواء». والتوالد السيكولوجي كما في قصة «أفول». تنبثق الذات ذوات عمرية مختلفة من خلال تصفح ألبوم صور وتعمد الشخصية الأنثى، الغارقة في الغربة والوحدة والاشتياق الشبقي، تعمد إلى تقمص مراحلها السابقة. ثم تنويع التشكيل النصي كما في «الزعيم» و»الأبرق» و»أفول». حيث تتداخل في «الزعيم» و»الأبرق» شخصيات القصة مع شخصيات روايتين. أو تحريك رسوم اللوحات أو السجاد كما في قصة «خيبة/سفانكس» وقصة «عواء»... والتنويع الأسلوبي، من مثل التنويع الدلالي في بنية سطحية تبدو موجهة للصبيان أو للفئات الشعبية بينما تنطوي على بنيات عميقة مقصودة لا يملك مفاتيحها إلا الكبار المتخصصون، كما في «عروس المساء» و»خليها على الله» و»خيبة/سفانكس». أسلوب طفولي بل بدائي في ظاهره لكن في عمقه هو أسلوب معرفي، حيث ترصد القصة الأولى حدة الصراع بين الفكر الخرافي والفكر العقلي... هي طريقة جديدة في تبنين القصة القصيرة عند هذا الكاتب الشاب، طريقة استنساخية حينا وتناسلية حينا وتكرارية وتوالدية أحيانا أخرى. 2 القصة الشعرية: أقصد بالقصة الشعرية ما يقابل القصيدة الشعرية، أي تحول النص السردي إلى لوحات شعرية، يندمج فيها التصوير والسرد معا. ففي قصة «عواء» بناء شعري متميز جامع بين السرد والتصوير الشعري جمعا متداخلا، تقول القصة مثلا: طفلة سمراء تنوي اختلاس القمر.. راعية غنم رأيتها في عز الظهيرة تسافر في الأغاني... تتموج بين السواقي.. يهتز جذعها، فرعها، غصنها.. يتساقط ثمارها.. شجرة سمراء تعانق جنون الريح.. تحبو.. تغدو، تروح.. في لحائها تنكشف التفاصيل». تتحرك القصة بهذا الشكل. وفي قصة عروس المساء تتكرر مثل هذه الصور الشعرية: «دموعي سمكة فضية تتراقص على إيقاع الموج، وتستلقي على صفحات الماء»... أو في قصة الزعيم مثل هذه العبارة: «يُهيِّجُ بالوصف الرهيف خربشات العمر الفاني في صدى من غير حسبان»... مثل هذه العبارة كثير تكثف تزيين كل نصوص المجموعة.. بل تتحول فقرات بعض تلك القصص إلى مقاطع شعرية حية حيث تتحول الحوارات مقاطع شعرية من مثل «صمتنا والردى فينا... صمتنا والردى فينا... وعلى الرصيف ضاعت أمانينا، ساءت مستقرا وسبيلا...1 وتحتوي هذه الشاعرية أيضا بنية المكان. فوجود المكان هنا هو وجود مختزل جدا، لا يختلف كثيرا عن تعامل القصيدة الشعرية معه. فلم يهتم السارد بالمكان في أشكاله وهندسته وألوانه وأفرشته وباقي أثاثه وخصوصياته، وإنما اهتم فقط بمؤشرات مقتضبة وضيقة لا يتسع حيزه إلا لما تغطيه الشخصيات أو يتحرك في دواخلها. كما لا نعرف أسماء الأمكنة الوظيفية الخارجية إلا ببعض العبارات العابرة، فنصادف البادية من خلال ذكر القرية والأبقار، والقاعة الدراسية لا نعرفها إلا بإشارة سريعة إلى قاعة الدرس وبوجود التلاميذ الصغار يقومون بإنجاز رسوم فرضها عليهم معلمهم الملتحي... فوجود المكان في قصص المجموعة رهين بمقدار وظيفته في الخطاب. فتبقى الأبعاد المهمة فيه هي الأبعاد الذاتية التي تستحضرها الذاكرة حينا والحلم حينا آخر والهاجس الواهم مرة والتخييل لتشكيل صورة رامزة إلى حال الذات الساردة أو ذوات الشخصيات في تطلعاتها أو انتكاساتها، صور معبرة في تموجها، كما في «تسمر المعلم الملتحي جنب تلميذ وسيم انهمك في تلوين ماء البحر بالأزرق وزورق الخشب بالأسود..! نبهه المعلم الملتحي إلى رسم الحبل الذي من شأنه أن يشد الزورق إلى صخرة الميناء الكبرى.!»2. هي صورة قصد بها السارد التعبير عن رغبة الطفل في الحرية والانطلاق من خلال البحر والزورق بينما المعلم الملتحي يعمل على منعه ومصادرة رغبته، باستعمال الحبل والشد والصخرة الكبيرة في الميناء... هي أبعاد تعمق المستويات الشعرية في النصوص... وفي هذا العمق الشعري يحتوينا أيضا ذلك الهمس الرومانسي الحزين في جمل خفيفة الظل تبدو تلقائية النظم. وكثيرا ما يرتبط هذا الهمس بمؤشرات الزمن، كما في عنوان المجموعة حيث مفارقة فتنة المساء مع برودتها، فتنة جميلة ولكن وقعها في الإحساس بارد. وكما في افتتاح بعض القصص: «قال جدي في صبيحة حزينة»، هي أيضا مفارقة خفيفة، لأن الصباح مؤشر على الانشراح والفرح وهنا يثير الحزن. وكما في قصة خيبة/سفانكس: «في ليلة رأس السنة الجديدة... تثاقلت أحزانه، وجف قلبه...»، وتنتهي نفس القصة بنفس الهمس: «وهجرتُ «سفانكس» هجرة الطيور لأزمنة الجليد»، هجر حان سفانكس الذي شعر فيه بالجمود والبرودة والضجر، لأنه يحب الحركة والحرية والانطلاق والدفء، مثل الطيور، ولم يعبر عن ذلك إلا بالصورة الشعرية المتجسدة في التشبيه بهجرة الطيور وأزمنة الجليد... ينساب هذا الهمس الحزين في كل مسام نصوص المجموعة، وهو همس يتجلى في طبيعة المعجم الرقيق والتركيب الخفيف، والمداليل الشفافة يتنسمها القارئ أكثر مما يقرأها. ولعل ذلك ما دفع السارد لسربلة النصوص في غلالة خفيفة من السخرية. والسخرية من التقنيات البلاغية الكثيفة التي تعبر بها هذه المجموعة القصصية، فالممارسات التي يحقد عليها السارد وتورثه الحزن يصوغها في عبارات وأحيانا في نصوص مفارقة، فمثلا نجد في القصة الأولى الجد الذي من المفروض أنه شيخ رزين يتصف بالحكمة وعمق التجربة والتأمل، يتحول هنا إلى ذهنية بسيطة ساذجة خرافية، فلكي يواجه الجفاف عمل على ذبح البقرة الصفراء قربانا للاستسقاء، فضاعت البقرة ولم يسقط المطر، بل حاول ابنه وزوجة ابنه منعه من الذبح وأصر على قراره، الأمر الذي دفع الابن إلى الهجرة. ثم قرر الجد أن يذبح البقرة السوداء قربانا لله كي يعود الابن المهاجر، رغم محاولة الحفيد وأمِّه منعه، فضاعت البقرة الثانية ولم يعد المهاجر. ولأن الحفيد يشبه أباه في العناد فقد قرر الجد والجدة معا ذبح البقرة البيضاء كي يتعقل الحفيد ويثوب إلى رشده، فضاعت البقرة الثالثة دون أن يتحقق ما يريد الجد. والسخرية آتية من مفارقة الشيخ في سن الرزانة والتجربة والحكمة، يتصرف مثل المعتوه فقد واجه الجفاف والفقر بتعميق الفقر، ولم يعتبر من الذبح الأول الذي لم يؤد إلى المأمَّل، ولا من الذبح الثاني. فأضاع الأبقار ولم يوقف الجفاف بل أضاع الابن أيضا... إنها السخرية من الذهنية الخرافية المتمادية في العماء... ونفس هذه السخرية نجدها في قصة «خليها على الله» سخرية من شخصية معلم ملتح، الذي من المفروض أنه يربي وينشئ ويكون الأجيال، وهو هنا مانع قامع مرعب للتلاميذ الصغار، ولا يهتم إلا بهمومه الخاصة. أو في قصة خيبة/سفانكس حيث قرأ السارد خبرا «جد غريب، يرقد جنب زاوية مقال «الحداثة المعطوبة»» في جريدة، جاء في المقال (المطلوب فتاة تتكلم الفرنسية والإنجليزية.. لرعاية كلب من نوع «كنيش»...)3. وهي سخرية غير مباشرة من الحداثة الموصوفة بالمعطوبة وسخرية من توظيف الأطر الكفأة. مجموعة قصصية صغيرة لكنها تعد بإمكانات مفتوحة. وهي في صغرها وبكرتها تنطوي على تقنيات جمالية كثيرة ومثيرة. فلغتها تحتاج إلى وقفات مطولة سواء في شفافيتها ورقتها وبلاغتها ورمزيتها، أو في طريقة تأليفها واستعاراتها لمجالات ومدلولات جديدة، والمدلولات فيها شبيهة بلمسات نسيمية خفيفة لسطح ماء صاف تنداح دوائره متتابعة في تثاقل يكسر الصور الصافية... مجموعة لكاتب أطل علينا إطلالة سريعة وبهية من جبال الريف الشامخة والجرداء في نفس الوقت ورمى في وجهنا بهذه الباقة الفريدة ثم اختفى إلى الأبد، باقة فاتنة بنضجها الجمالي والشعري. ******** 1 قصة «الزعيم»، مجموعة «فتنة المساءات الباردة...!»،طبعة التنوخي للطباعة والنشر والتوزيع، 2009. 2 ص. 14. 3 ص. 26.