عندما نراجع تاريخ الشعوب التي سبقتنا بأحقاب إلى عالم التطور والحداثة والبناء الديمقراطي ،نلاحظ أن العمود الفقري لتلك الشعوب كان يتمثل في الأحزاب السياسية والنخب المثقفة.لقد كانت هذه النخب تؤطر تلك الأحزاب والنقابات وتمدهم بالأفكار والمبادئ الإيديولوجية التي ستعتمدها لحل المشاكل ،وبذلك تمكنت تلك الأحزاب والنقابات من مسايرة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للبلاد مما جعلها ترتقي إلى المستوى المطلوب حتى تلبي رغبات المجتمع.وحتى الآن فالأحزاب السياسية هي التي تقود تلك المجتمعات سواء كان ذلك بأوربا أو أمريكا.تلك الأحزاب تتداول الحكم بمجتمعاتها تحت مراقبة الشعب،كما لاحظنا،وكان الشعب يدعم ويساند كل حزب يتقدم ببرنامج جدي يخدم مصلحة الوطن والمواطنين،كما أنه كان يُعاقب كل حزب لم يُنفذ ما وعد به أثناء الحملة الانتخابية التي أوصلته إلى الحكم،كما أننا لم نلاحظ أن الجماهير كانت تحكم على الحزب من خلال قيادته أو أفراده،بل كانت تنظر إلى مشروعه والبرنامج الذي يتقدم به . هذا فيما يخص الدول الأوربية والأمريكية ،حيث وصلت درجة وعي جماهيرها إلى مستوى عال ؛ويعزى ذلك إلى المراحل التاريخية التي مرت منها هذه الجماهير.إن المجتمعات الأوربية والأمريكية عرفت العبودية والإقطاع مما حتم عليها النضال المستمر ،كما عرفت هذه الشعوب طبقات متمايزة مما أدى بها إلى صراع طبقي ساهمت فيه النخبة المثقفة ،سواء كان ذلك بجانب الطبقة البرجوازية ،أو الطبقة العاملة بقسط وافر لتمكين تلك الأحزاب والنقابات بأدوات التحليل لحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.في خضم ذلك برزت الاشتراكية بشتى أنواعها لحل مشاكل الطبقات،كما برزت اللبرالية والرأسمالية لمناهضة المد الماركسي والاشتراكي بالخصوص،ولولا الأحزاب السياسية والنقابات لما وصلت دول أوربا إلى ما وصلت إليه. والآن ،ونحن بدولة في طريقها إلى أول انتقال تاريخي بعد استقلالها من نير الاستعمار،نلاحظ ،وبكل استغراب ،أن بعض العناصر من اليسار والموكول إليها تأطير المجتمع والدفع به نحو التسييس داخل أحزاب سياسية أصبحت في أمس الحاجة إلى دم جديد يغذي شريانها المترهلة،نلاحظ أن هذه العناصر تدفع إلى التيئيس وفقدان الأمل في الأحزاب السياسية،كما تدفع إلى الاعتقاد بأن الوقت هو وقت الشبكة العنكبوثية لتأطير المجتمعات وتسييسها.إذا كان الأمر كذلك فلسنا في حاجة إلى ديمقراطية،لأن الديمقراطية في حاجة ماسة إلى الأحزاب السياسية،ولسنا في حاجة إلى انتخابات برلمانية لأن الشبكة العنكبوتية ستقوم بدور الناخب والمنتخب وتفرز لنا أعضاء البرلمان بالغرفتين ،لأنه إذا ألغينا الأحزاب ستُلغى النقابات تلقائياً،وستتولى الشبكة العنكبوتية أمر الطبقة الكادحة وباقي منظمات المجتمع المدني.أليس هذا هراء في هراء؟وأي مجتمع في العالم يشتغل بدون أحزاب سياسية؟ دعونا نبحث في الأمر ملياً لنتعرف على أصحاب هذا الاتجاه الخطير ،الذي يحاول البعض ،عن حسن نية، أن يوجهنا إليه ،والبعض الآخر ليورطنا فيه. لا أعتقد أن المجتمع المغربي يخرج عن المألوف وأنه متفكك الأواصر،وأنه لا يعرف السياسة ومجرياتها.إنه مجتمع عريق تحكمت وتتحكم فيه ثوابت وأعراف أنتجها بكل عناية وصبر عبر مراحله التاريخية،اختزلها بكل بساطة وعفوية في:الله،الوطن،الملك.ولم يحدث أن كان المجتمع دون تأطير سياسي،فقبل استعماره ،وفي كل مراحله التاريخية كان مؤطراً بالمد السني عن طريق الزوايا التي حافظت على مكوناته وأعرافه،وفي بداية القرن العشرين ،وأثناء الاستعمار انتقل التأطير من الزوايا إلى الأحزاب السياسية التي واكبت مرحلة التحرير إلى أن استقل المغرب وانتقل إلى مرحلة البناء والتشييد لدولة جديدة ومجتمع جديد.وفي أوج معركة بناء الاستقلال انفجرت الطاقات الخلاقة من رحم حزب الاستقلال لتؤسس ،ومن صلب الجماهير،الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.ومنذ ذلك الوقت بدأت معركة التحرير الشعبية تشق طريقها بإصرار مواجهة العنف والاعتقالات والتصفيات الجسدية،إلى أن أعلن المخزن وبحكم إرادته أنه لم يفلح في دحر هذا الحزب المتجذر في قلوب كل المغاربة. وتباعاً، بدأت أقطاب سياسية تبرز إلى الوجود ليس من أجل البناء والتشييد بل ،وهذه هي الحقيقة،ضد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.لقد برزت من رحم هذا الحزب لتتصدي لقياداته باستمرار.المهم لدى هذه النخبة هو إنجاز ما عجز عنه المخزن لكي يندحر الحزب وتحل هذه الأقطاب محله ؛من اجل هذه الغاية ينادي البعض بإسقاط الأحزاب السياسية المتجذرة في صفوف الجماهير الشعبية حتى تتفرغ الساحة السياسية من كل فاعل سياسي له جذور تاريخية وتراكم نضالي في مجال الدفاع عن الحريات والحقوق وعن دولة الحق والقانون.ومن أجل المزيد من الإساءة لحزب الجماهير الشعبية يدعي البعض من اليسار أن عبد الرحمان اليوسفي قد أخطأ عندما لبى دعوة الوطن.يريدون بهذه المذعاة طمس الإيجابيات التي تحققت في عهد حكومة التناوب التي أنجزت ما عجزت عنه الحكومات السابقة لمدة خمسين سنة،هذه الإنجازات لا يسمح المجال لتعدادها اليوم. إن هذا النوع من البشر معروف لدى الجماهير والفاعلين السياسيين،وهو من النوع الذي فاته القطار التاريخي وأصبح يتعلق بالغرقى مِثله علّه يجد موطئ قدم في أحد أحياء الجماهير الشعبية. النوع الآخر،هو نوع معروف بتربصه لمستقبل المغرب، ليس له من هم سوى تفكيك أواصر هذه الأمة التي تُحسد على مسارها الديمقراطي حيث تتفاعل كل مكونتها من دولة ومجتمع .هذا النوع هو الخطير على مصير البلاد والعباد .يريد أن يفرض على المجتمع حزباً واحداً ،وأن تكون الأمة المغربية إمارة من إمارات المجهول ليس إلا؛تصوروا معي مجتمعاً حافظ على استقلاله ضد المد العثماني الذي غزا دول العالم العربي برمته مجتمعاً لم تتمكن فرنسا، من استعمار كل أراضيه إلا بعد 22 سنه من حروبها مع القبائل المغربية؛تصوروا أن يرضى هذا الشعب بتبعيته للمجهول.... ولا أقول لطالبان.