توقعات أحوال الطقس ليوم السبت    الصين: تنظيم منتدى "بواو" الآسيوي ما بين 25 و 28 مارس المقبل    الصين: تسجيل 1211 هزة ارتدادية بعد زلزال شيتسانغ    الدار البيضاء... فتح تحقيق قضائي للاشتباه في تعنيف أم لطفلها القاصر    مأساة غرق بشاطئ مرتيل: وفاة تلميذ ونجاة آخر في ظروف غامضة    حادثة سير خطيرة بطنجة تسفر عن إصابة شابين بجروح بليغة    عفو ملكي على 1304 أشخاص بمناسبة ذكرى 11 يناير    اطلاق ثلاث خطوط جوية جديدة تربط الصويرة بباريس وليون ونانت ابتداء من أبريل المقبل    رواية "بلد الآخرين" لليلى سليماني.. الهوية تتشابك مع السلطة الاستعمارية    طنجة : الإعلان عن الفائزين بجائزة بيت الصحافة للثقافة والإعلام    المنتخب المغربي يودع دوري الملوك    مراكش... توقيف مواطن أجنبي مبحوث عنه بموجب أمر دولي بإلقاء القبض    حرائق لوس أنجلوس .. الأكثر تدميرا والأكثر تكلفة في تاريخ أمريكا (فيديو)    مراكش تُسجل رقماً قياسياً تاريخياً في عدد السياح خلال 2024    تهنئة السيد حميد أبرشان بمناسبة الذكرى ال81 لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال    وزير الخارجية الفرنسي "يحذر" الجزائر    إيكال مهمة التحصيل الضريبي للقطاع البنكي: نجاح مرحلي، ولكن بأي ثمن؟    مدن مغربية تندد بالصمت الدولي والعربي على "الإبادة الجماعية" في غزة    هذا ماقالته الحكومة عن إمكانية إلغاء عيد الأضحى    "الباطرونا" تتمسك بإخراج قانون إضراب متوازن بين الحقوق والواجبات    مؤسسة طنجة الكبرى في زيارة دبلوماسية لسفارة جمهورية هنغاريا بالمغرب    الملك محمد السادس يوجه برقية تعزية ومواساة إلى أسرة الفنان الراحل محمد بن عبد السلام    المناورات الجزائرية ضد تركيا.. تبون وشنقريحة يلعبان بالنار من الاستفزاز إلى التآمر ضد أنقرة    أحوال الطقس يوم السبت.. أجواء باردة وصقيع بمرتفعات الريف    أسعار النفط تتجاوز 80 دولارا إثر تكهنات بفرض عقوبات أميركية على روسيا    الضريبة السنوية على المركبات.. مديرية الضرائب تؤكد مجانية الآداء عبر الإنترنت    اللجان الإدارية المكلفة بمراجعة اللوائح الانتخابية العامة تعقد اجتماعاتها برسم سنة 2025    الملك محمد السادس يهنئ العماد جوزيف عون بمناسبة انتخابه رئيسا للجمهورية اللبنانية    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأخضر    إيداع 10 علامات تجارية جديدة لحماية التراث المغربي التقليدي وتعزيز الجودة في الصناعة الحرفية    أغلبهم من طنجة.. إصابة 47 نزيلة ونزيلا بداء الحصبة "بوحمرون" بسجون المملكة    تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، محطة نضالية بارزة في مسار الكفاح الوطني من أجل الحرية وتحقيق السيادة الوطنية    "الأحرار" يشيد بالدبلوماسية الملكية ويؤكد انخراطه في التواصل حول مدونة الأسرة    القِرْد سيِّدُ المَشْهد !    فيلود: "المواجهة ضد الرجاء في غاية الأهمية.. وسنلعب بأسلوبنا من أجل الفوز"    وفاة صانعة محتوى أثناء ولادة قيصرية    حوار بوتين وترامب.. الكرملين يعلن استعدادا روسيا بدون شروط مسبقة    بوحمرون: 16 إصابة في سجن طنجة 2 وتدابير وقائية لاحتواء الوضع    "بوحمرون.. بالتلقيح نقدروا نحاربوه".. حملة تحسيسية للحد من انتشار الحصبة    بوحمرون يواصل الزحف في سجون المملكة والحصيلة ترتفع    عصبة الأبطال الافريقية (المجموعة 2 / الجولة 5).. الجيش الملكي من أجل حسم التأهل والرجاء الرياضي للحفاظ على حظوظه    صابرينا أزولاي المديرة السابقة في "قناة فوكس إنترناشيونال" و"كانال+" تؤسس وكالة للتواصل في الصويرة    "جائزة الإعلام العربي" تختار المدير العام لهيسبريس لعضوية مجلس إدارتها    ملفات ساخنة لعام 2025    ارتفاع مقلق في حالات الإصابة بمرض الحصبة… طبيبة عامة توضح ل"رسالة 24″    اتحاد طنجة يعلن فسخ عقد الحارس بدر الدين بنعاشور بالتراضي    السعودية تستعد لموسم حج 2025 في ظل تحديات الحر الشديد    الحكومة البريطانية تتدخل لفرض سقف لأسعار بيع تذاكر الحفلات    فضيحة تُلطخ إرث مانديلا... حفيده "الرمز" في الجزائر متهم بالسرقة والجريمة    بطولة إنجلترا لكرة القدم.. إيفرتون يفك الارتباط بمدربه شون دايش    مقتل 7 عناصر من تنظيم "داعش" بضربة جوية شمال العراق    النظام الجزائري يخرق المادة 49 من الدستور ويمنع المؤثر الجزائري بوعلام من دخول البلاد ويعيده الى فرنسا    الكأس الممتازة الاسبانية: ريال مدريد يفوز على مايوركا ويضرب موعدا مع برشلونة في النهائي    الآلاف يشاركون في الدورة ال35 للماراطون الدولي لمراكش    أخذنا على حين ′′غزة′′!    الجمعية النسائية تنتقد كيفية تقديم اقتراحات المشروع الإصلاحي لمدونة الأسرة    فتح فترة التسجيل الإلكتروني لموسم الحج 1447 ه    وزارة الأوقاف تعلن موعد فتح تسجيل الحجاج لموسم حج 1447ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإنسان، حقوقه وحرياته أو الهاوية أدونيس يخاطب بشار الأسد في رسالة مفتوحة

لا يصدّق العقل ولا الواقع أنّ الديموقراطية سوف تتحقق في سوريا، مباشرة بعد سقوط نظامها القائم. لكن بالمقابل،
لا يصدق العقل ولا الواقع أن يظلّ النظام العنفي الأمني في سوريا قائماً. وذلك هو المأزق:
من جهة، لا تنشأ الديموقراطية في سوريا، إلا بعد نضال طويل، وإلا ضمن شروطٍ ومبادئ لا بدّ منها. لكن،
لا بدّ من التأسيس لذلك، ومن البدء، الآن لا غداً.
من جهة ثانية، بغير الديموقراطية، لن يكون هناك غير التراجع وصولاً إلى الهاوية.
1
السيد الرئيس،
لا يصدّق العقل ولا الواقع أنّ الديموقراطية سوف تتحقق في سوريا، مباشرة بعد سقوط نظامها القائم. لكن بالمقابل، لا يصدق العقل ولا الواقع أن يظلّ النظام العنفي الأمني في سوريا قائماً. وذلك هو المأزق:
من جهة، لا تنشأ الديموقراطية في سوريا، إلا بعد نضال طويل، وإلا ضمن شروطٍ ومبادئ لا بدّ منها. لكن، لا بدّ من التأسيس لذلك، ومن البدء، الآن لا غداً.
من جهة ثانية، بغير الديموقراطية، لن يكون هناك غير التراجع وصولاً إلى الهاوية.
2
صار من النافل القول إنّ الديموقراطية، سياسيّاً، لم يعرفها العرب في تاريخهم الحديث. لم يعرفوها أيضاً في تاريخهم القديم. وهي، ثقافيّاً، من خارج التراث الثقافي العربيّ.
غير أنّ هذا لا يعني إطلاقاً استحالة العمل على التأسيس لها. وقد بُدئ هذا العمل مع بدايات الاستقلال. وكان شجاعاً وبنّاءً. وإنما يعني أنّ هذا العمل يقتضي شروطاً أساسيّة، ولن يكون مجدياً إذا لم تتحقق، بدئيّاً. وبين هذه الشروط ما حال، ماضياً، دون أن يأخذها العرب من الآخر ويمارسوها، كما أخذوا أشياء كثيرة، نظرية وعملية، ومارسوها ويمارسونها، وبرعوا فيها ويبرعون.
أول هذه الشروط هو الخروج بالمجتمع، ثقافيّاً وسياسيّاً من »زمن السماء، الجمعي والإلهيّ«، إلى »زمن الأرض، الفرديّ والإنسانيّ«. أو هو، باللغة السياسية المدنية: الفصل الكامل بين ما هو دينيّ وما هو سياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ. وقد ناضل من أجل ذلك، منذ القرون الأولى لتأسيس الدولة الإسلامية العربية حتى اليوم مفكرون وشعراء عرب كثيرون، غير أنهم لم يفشلوا فقط وإنما سُفّهوا وكُفّروا وقُتلوا، تبعاً للوضع وللمرحلة التاريخية. كان الدين المؤسّسي هو الذي غلب ولا يزال يغلب. والمزج بين الدينيّ والسياسيّ لا يزال قاعدة النظر والعمل في الحياة الإسلامية العربية. وهو مزجٌ شهدنا ونشهد رسوخه وآثاره المدمّرة، كلّ يوم، وفي مختلف المجالات. إنه قاعدةٌ يُقتَل فيها الإنسان شرعاً: أحياناً يُقتَل فكراً، وأحياناً يُقتَل جسداً، من أجل »النص« أو تأويلٍ معيَّن للنص.
كيف يمكن أن تنشأ الديموقراطيّة في مناخ لا يقيم وزناً لحرية الفرد وللتجربة الإنسانية، ويرفض الآخر المختلف نبذاً، أو تكفيراً ، أو قتلاً، ولا يرى الحياة والثقافة والأزمنة والأمكنة والحضارات البشرية، إلا في مرآة قراءته للنصّ، وهي كما نعلم متعدّدة حتى التباين؟ خصوصاً أنّ النصّ مهما كان عظيماً يصغُر إذا قُرِئ بعقلٍ صغير، كما يحدث اليوم غالباً.
ولا ديموقراطية أساساً في الدين، بالمعنى الذي نتّفق عليه ونتداوله في إطار الثقافة اليونانية الغربية. الدين بطبيعته انحياز سماويّ يُلحِق الأرضَ بالسماء، والبشرَ بنصوصه.
وهو على مستوى التعامل مع الآخر المختلف، لا يمكن أن يتخطى التسامح، في أرقى حالات انفتاحه. لكن التسامح هو نفسه نقيضٌ كذلك للديموقراطية. تتسامح هذه الجماعة مع تلك المختلفة عنها، مضمِرةً أنها الأكثر صحّةً. ويكون تسامحها نوعاً من المِنّة أو التفضّل والتكرّم. يكون إذاً، شكلاً من أشكال احتكار الحقيقة، ومن التعالي والتفوّق والعنصرية. هو في كلّ حال ضدّ المساواة. والإنسان لا يريد التسامح، وإنما يريد المساواة. دون مساواة، لا حقوق. لا اعتراف بالآخر. لا ديموقراطية. هكذا تبدو الديموقراطية في المجتمع العربي مجرد لفظة نتشدّق بها. مجرّد لغو.
3
السيّد الرئيس،
يبدأ التأسيس للديموقراطية، إذاً، بالفصل الكامل بين ما هو ديني، من جهة، وما هو سياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ، من جهة ثانية.
وهذا ما لم يفعله حزب البعث العربي الاشتراكيّ، كما كان منتَظَراً، وهو الذي قاد البلاد، منذ حوالى نصف قرن. على العكس، لبس الثوب القديم: هيمن على حلبة »اللعب« القديم، وساس وقاد بالعقلية القديمة، متبنياً سياقها الثقافيّ الاجتماعيّ. هكذا تحوّل بالممارسة إلى حزب شبه »عنصريّ«، في كلّ ما يتعلّق بالإتنيات غير العربية، وبخاصة الأكراد. وفي هذا كله أصبح حزباً »دينيّاً« أو ذا بنية دينية: كما أنّ الانتماء إلى الإسلام امتياز فكريّ إنسانيّ، في النظرة السلفيّة، فإنّ الانتماء إلى حزب البعث كان امتيازاً، هو أيضاً، فكريّاً وإنسانياً، على الصعيد النظريّ، وامتيازاً سياسيّاً وظيفيّاً وتجاريّاً، على الصعيد العمليّ. وهكذا أخذ الحزب يناضل لكي يُدخِل المجتمع في »دينه« هو، بدلاً من أن يناضل لكي يحرّر المجتمع من التديّن المؤسَّسيّ، ويقيم مجتمع المواطنة، حيث لا فضل لأحد على الآخر بدينه أو بحزبيّته بل بعمله وكفاءته.
4
السيّد الرئيس،
يتّفق جميع المختصّين على القول إنّ التجربة الحزبية الإيديولوجية في الحياة العربية فشلت على جميع المستويات، كما فشل نموذجها الشيوعيّ. حزب البعث العربي الاشتراكيّ جزء من هذه التجربة. هو إذاً جزء من هذا الفشل. ولم ينجح في البقاء مهيمناً على سوريا بقوة الإيديولوجية وإنما نجح بقوة قبضة حديدية أمنية، ساعدت ظروف كثيرة ومتنوّعة على تهيئتها وإحكامها.
وتؤكّد التجربة التاريخية أنّ هذه القبضة، التي كانت شديدة وقوية لا تقدر أن تؤمّن الهيمنة إلاّ فترة محدودة، مرهونة بالأوضاع الداخلية والخارجية، وأنها لا تقدم للشعب الذي تهيمن عليه إلاّ التفكّك والتخلّف، إضافة إلى الإذلال واستباحة الكرامة البشرية.
لا هيمنة في الأخير إلا للحرية. ولا أمن في الأخير إلا بالحرّيّة.
وتلك هي المفارقة اليوم: حزبٌ حكَمَ، باسم التقدم، باسم الخروج بالمجتمع من أحواله المتخلّفة إلى أحوال ناهضة، يجد نفسه اليوم، أنه متَّهَم ومسؤول تماماً كمثل الجماعات التي تعارضه، عن الانهيار الآخذ في التحقّق، انهيار سوريا وتشويه صورتها الحضارية بوحل »الطائفية« و«العشائرية« و«المذهبية« ووحل التدخل الخارجي ووحل التعذيب والقتل والتمثيل بجثث القتلى.
وإنها لَمهزلة فاجعة أسهم حزب البعث نفسه في تكوينها، أن تُكسى الأحداث السورية اليوم على ألسنة الحكّام الغربيين بعباءة الدفاع عن حقوق الإنسان، وأن تكون هذه العباءة واسعة تتسع للعرب جميعاً من المحيط إلى الخليج، باستثناء فئة عربية واحدة: الفلسطينيين. فهؤلاء لا حقوق لهم في نظر المدافعين الأميركيين والغربيين عن حقوق الإنسان العربي. والأكثر مأساوية هو أنّ العرب أنفسهم جميعاً من دون استثناء يشاركون، بشكلٍ أو آخر، قليلاً أو كثيراً، في تأليف هذه المهزلة الفاجعة، وفي أدائها وتمثيلها.
5
السيّد الرئيس،
أكيدٌ، وهذا ما قد توافق عليه أغلبية العاملين في الحزب، أنّ أعمال السلطات التي حكمت باسمه لم تكن في مستوى مبادئه. كانت على العكس تتناقض معها خصوصاً في كلّ ما يتعلّق بالحياة المدنيّة وحقوق الإنسان وحرياته. وهذا مما يتوجّب عليه أخلاقيّاً، أن يعترف به. والحقّ أنّ الحزب لم يؤسس لأيّ شيء يمكن حسبانه جديداً وخلاّقاً، ومهمّاً، في أي حقل. بل إنّه في الممارسة، وعلى المستوى الثقافي الخالص، مثلاً، حزبٌ تقليديّ، ورجعيّ دينيّ في حالات كثيرة خصوصاً في حالات التربية، والتعليم، والمدارس والجامعات. ولم يُعطِ أية مكانة للإنسان بوصفه إنساناً، في ما وراء انتماءاته، أو للحقيقة في حدّ ذاتها. ولم يبن الحزب جامعة نموذجية واحدة. ولا مؤسسة معرفية أو فنية نموذجية واحدة.
لقد كان أشبه بجمعية »دينية«: عرقل نموّ الثقافة المدنية الحرة، ودمّر أخلاق البشر، مقيماً الثقافة على الولاء له، وعلى معاداة أعدائه، وعلى الشعارات والتبشيرات التي كانت في معظمها ساذجة وسطحية.
وإنها لمأساة لهذا الحزب، مأساة داخلية في علاقته ببنية المجتمع وعقليته، أن يحاربه معارضوه، هو الوحدوي القومي العلماني... إلخ، تحت راياتٍ بينها راية »الطائفية« أو راية »جمعة العشائر« بعد هذه الفترة الطويلة من سيادته وحكمه باسم العلمانية والتقدمية.
والحقّ أنّ ما قامت به السلطات التي حكمت باسم »حزب« البعث العربي الاشتراكي«، طول هذه الفترة، يؤدي، طبيعيّاً إلى الحال التي تعيشها سوريا اليوم. فالخلل الأساس في حكم هذه السلطات أنها تبنّت السياق التقليدي القديم، وأكّدت »منطقه« وأساليبه. اندرجت في نص سياسيّ دينيّ لا يمكن إلا أن يبتلع كلّ من يدخل فيه. هكذا سادت ثقافة المساومات، والترضيات، والابتزازات، والاحتكارات، والإقصاءات والتكفيرات، والتخوينات، إضافة إلى ثقافة القبليات والطائفيات والعشائريات والمذهبيات.
وقد تبنّى الحزب هذا كله كما تؤكّده الممارسة من أجل غاية واحدة: البقاء في السلطة، والحفاظ عليها. كانت السلطة بذاتها تهمّه أكثر مما يهمه تحويل المجتمع وبناؤه في اتجاه التغيّر نحو حياة جديدة، ومجتمع جديد، وثقافة جديدة، وإنسان جديد. هكذا تحوّلت سلطاته بالممارسة إلى سلطات رجعية، لا تحتاج إلى ثورة لإسقاطها، وإنما تحمل في ذاتها بذرة سقوطها. وفي ذلك حكمٌ مبرمٌ، موضوعيّاً، على حزب البعث بوصفه سلطة. لقد فشل كلّيّاً في تفكيك البنية القديمة ودفع المجتمع في اتّجاه التقدّم. وفي هذا دليلٌ عمليّ على أنّ المادة الثامنة من الدستور، يجب أن تُلغى أولاً وقبل كل شيء، ذلك أنها الرمز المباشر للطغيان وللاستهتار بالإنسان والعقل والحرية.
ما يُطلَب اليوم من قادة حزب البعث هو أن تكون لهم الجرأة الأخلاقية والتاريخية على الاعتراف بخطأ التجربة التي قادوها، وأن يعملوا على نقدها وتخطّيها، وفتح صفحة جديدة ديموقراطية لبناء سلطة جديدة تشارك فيها جميع القوى السياسية والفكرية الفاعلة، وبخاصّة النسائية والشبابية تحقيقاً للخروج من السياق التقليدي القائم، في اتجاه مجتمع مدنيّ ديموقراطيّ.
6
السيّد الرئيس،
لا يشكّ أحدٌ في أنّ المطالبة بالديموقراطية لا تتضمّن بالضرورة أنّ الذين يقومون بهذه المطالبة هم ديموقراطيّون حقّاً.
لا تتحقق الديموقراطية إلا بأمرين:
1 أن أنتمي، بوصفي مواطناً (رجلاً أو امرأة) إلى المجتمع بوصفه وحدة لا تتجزأ، قبل انتمائي إلى دين أو قبيلة أو طائفة أو إتنية،
2 أن أعترف بالآخر المختلف (رجلاً أو امرأة) بوصفه مثلي عضواً في هذا المجتمع، وله حقوقي نفسها وحرياتي نفسها.
ومن الصحيح أنّ الفكر يوجّه أو قد يوجّه. لكنه لا يحكم. ولهذا فإنّ فكر المعارضة يجب أن يكون، هو أيضاً، واضحاً وشاملاً ودقيقاً. علماً أنّ المعارضة حق للنّاس وشرط أساسيّ للديموقراطية. وعليها أن تعلِن نقدَها إذا كانت اعتراضاتها جزئية، أو تعلن مشروعاتها وخططَها البديلة إذا كانت اعتراضاتها شاملة. وما دامت المعارضة، أو بعضها، في سوريا، تطالب بإسقاط النظام، فإنّ عليها أن تقول خططها وأهدافها لما بعد إسقاط النظام، كما أنّ عليها أن تقول إلى أيّ مدى، ووصولاً إلى أية جذور، تريد أن تصل في مشروعها التغييري.
7
لكن، مَن هذه المعارضة، اليوم؟
1 هناك »أصوات«: مفكرون، كتّاب، شعراء، فنانون، مثقفون، شبّان وشابّات، لهم وجهات نظر وتطلّعات نبيلة وعادلة، لكن لا تجمعهم وثيقة، ولو على مستوى الرمزية التاريخية، وثيقة تحمل أفكارهم، وتوضح أهدافهم لما بعد النظام القائم. فالصوت، إذا لم يتجسد، يظلّ صوتاً. لكنه لا يدخل بالضرورة، في شبكة الواقع العملي. يظلّ في ما دونها. أو في ما فوقها.
2 وهناك »أعمال«: تظاهرات، اصطدامات، محرّضون، رافعو رايات وشعارات، قتلى، مقاتلون.
وهؤلاء تجمع في ما بينهم، مواقف مثالية أخلاقية أو وطنية مخلصة لمبادئ ومثُل.
لكن تبدو لدى بعضهم »لحمة« ضدّية عنفية، تغلب عليها نبرة: »التهييج«، و«الثأرية« والدينية »الطائفية« أو »السلفية«.
الأرجح، تبعاً للتجربة التاريخية أنّ الغلبة، في مثل هذه التمردات ذات الطابع الثوري تكون للأكثر تنظيماً بين هؤلاء، والأكثر عدّةً وعدداً. ومعنى ذلك أنّ »العمل« هو الذي يقود، وينتصر. وسيكون مستوى العمل في مستوى الفكر الذي وجّهه.
هكذا لا تكفي دعوة النظام معارضيه إلى الحوار.
لا بدّ من طرح مفهوم الحكم، وآليات الوصول إلى الحكم وتداول السلطة، والآليات التي تسوّغ للمحكوم أن يقول رأيه في السلطة وأدائها، واعتبار السلطة في متناول كلّ مؤهَّل يختاره الشعب.
لا بدّ من الدعوة إلى مشروعات واضحة في السياسة، في التربية، في التعليم، في الاقتصاد، في الثقافة والفنون، في الحياة المدنيّة، وبخاصّة في كلّ ما يتعلّق بالمرأة وحقوقها وحرياتها.
8
السيد الرئيس،
التحدي الذي يواجهك مزدوج: هو أولاً أن تمارس نشاطك اليوم، لا بوصفك رئيس حزب، بل بوصفك قبل كل شيء رئيس بلاد وشعب. ولا بدّ، بوصفك خصوصاً رئيساً منتَخَباً من أن تمهّد لتداول السلطة بموجب اقتراع حرّ بلا شروط مسبقة. لأنّ آلية التداول الحر هي ما يؤكّد شرعية الحكم.
وما دام الشعب مصدر السلطات، فلا حزب ولا زعيم يختزل الشعب وإرادته ويحتكر الكلام والفعل نيابة عنه، إلا عبر تفويض محدد.
وهو ثانياً النظر إلى الوضع السوري نظرةً تتجاوز حدود الأمن والحكم وترى أن بقاء القيادة الحزبية، وفقاً للمادة الثامنة، لم يعد يرضي الأغلبية الساحقة من السوريين، ولم يعد للتشبث بهذه المادة أي مرتكز إلا العنف. وهو عنفٌ لا يمكن أن يدوم، لا يمكن لأية قوة عسكرية مهما كانت مدججة أن تتغلّب على شعب، مهما يكن أعزل.
وعلى قادة الحزب أن يعترفوا هم أنفسهم، بشجاعة وموضوعية، أنّ علاقة الشعب بالحزب اليوم، إذا استثنينا علاقات المصلحة والانتهاز، تراجعت كثيراً عمّا كانت عليه سابقاً، وهي اليوم في مستوياتها الدنيا.
هكذا لم تعد المسألة أن ينقذ النظام نفسه. المسألة هي إنقاذ سوريا: شعباً وأرضاً. دون ذلك، سيكون الحزب مشاركاً أول، لا في تهديم نفسه وحدها، وإنما كذلك في تهديم سوريا كلّها.
9
السيد الرئيس،
لا يمكن أحداً يعرف التجارب السياسية الكبرى، إلاّ أن يتّعظ بفشل التجربة التي يمثلها حزب البعث العربي الاشتراكي، نظراً وعملاً، ثقافةً وسياسة. إنها الجزء الأكثر بروزاً ودلالة في فشل التجربة الحزبية الإيديولوجية برمتها في العالم العربي. فهذه الإيديولوجية لم تخنق الفكر وحده، وإنما كادت أن تخنق حركية الإنسان وحركية المجتمع.
هكذا يبدو أنّ قدرَك هو أن تفتدي أخطاء هذه التجربة. أن تعيد الكلمة والقرار إلى الشعب. وأن تمحو صورة الرئاسات السابقة في سوريا، خصوصاً تلك التي وصلت في قطار الانقلابات العسكرية.
أكيدٌ أنّ أعداءك أنفسهم، إلى جانب اصدقائك، سيقولون عنك، آنذاك، إنك أسست لمرحلة سياسية جديدة في تاريخ سوريا، وربما في تاريخ المنطقة العربية كلها.
10
السيد الرئيس،
تحتاج سوريا، اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى أن تبتكر للعرب أبجدية سياسية، استكمالاً لما ابتكرته سابقاً في ميادين كثيرة. تقوم هذه الأبجدية على نبذ المماهاة بين الوطن والحزب وبين القائد والشعب. لا يقوم بهذه المماهاة إلا الطغاة. لا الخليفة عمر مارسها، ولا الإمام عليّ إن كان لا بدّ من الأمثلة التاريخية، ولكي لا نسمّي إلا رمزين تاريخيين.
وأنت الآن مدعوّ، تاريخياً، لكي تفكّ هذه المماهاة بين سوريا وحزب البعث العربي الاشتراكي. فسوريا أرحب، وأغنى، وأكبر من أن تُختَزَل في هذا الحزب، أو أي حزب سواه. أنت مدعوٌّ، إذاً، إنسانيّاً وحضاريّاً، أن تكون إلى جانب سوريا، لا إلى جانب الحزب. أو أن تكون معه بقدر ما يندرج هو في سياق حركيتها، وبقدر ما يعمل على السموّ بها، مع غيره من أبنائها. خصوصاً أنّ الحزب أُعطي فرصة طويلة ونادرة لكي يندرج في هذه الحركية الخلاّقة، عاملاً على السموّ بهذه البلاد الفريدة. غير أنّ التجربة تؤكّد فشله الكامل. لا تنفع المكابرة في ذلك، ولن تجدي القوة أو العنف في إثبات العكس. تتسع السجون للأفراد، لكنها لا تتسع للشعوب. يستحيل سجن الشعب. ولا تشير السجون السياسية إلا إلى الفشل. ولا تجدي القوة، مهما كانت، في قمع هذه الحقيقة أو طمسها.
بل إنّ الحزب في ممارسته السلطة طول هذه الفترة، أساء كثيراً إلى الهوية الثقافية السورية. قدّم على عروبة الانتماء للغة والثقافة عروبةَ الانتماء إلى »العرق« و«الدين«، مؤسِّساً لثقافة ذات بعد واحد، ينتجها مجتمع ببعد واحد. ثقافة ضيقة، اجتراريّة، تنهض حصراً على الضدية: »تكفير« المختلف وتخوينه أو نبذه أو تهميشه. عروبة حلّت محلّ اللاهوت.
فُكِّك المجتمع وأُعيد بناؤه: الحزب القائد السلطة، من جهة، والشعب من جهة. وإمعاناً في هذا التفكيك لم يكن يُقَرَّب إلا المناصرون. وكان يُنبَذ المعارضون، ويُشَرَّد الرافضون.
هكذا أنتج الحزب، طول أربعين سنة من حكم سوريا، المتنوّعة المتعدّدة، ثقافة أحادية مغلقة وقَمْعية: نعم نعم، لا لا.
هكذا تحوّلت الثقافة في سوريا، باستثناءات محدودة، إلى تبشير وإلى إعلام ودعاية بارتباط كامل مع الأمن وسياساته. وحوصرت الثقافة السورية بين عقليتين مغلقتين: السلفية، باسم الدين والتراث والماضي، والحزبية البعثية، باسم عروبة قامعة للحريات وتتناقض مع أبسط حقوق الإنسان. تتناقض خصوصاً مع التعددية التي هي قوام الشخصية السورية.
أعرف ويعرف كثيرون غيري أنّ الغرب وبخاصّة الأميركيّ، لا يدافع عن الشعب السوري ولا عن حقوق الإنسان في سوريا، وأنه يدافع عن استراتيجياته ومصالحه. لكنه »موفَّقٌ« في »الحجّة« التي تقدمها له سوريا، وفي »التسويغ« الذي يتيح له أن يقنّع استعماره الجديد بالدفاع عن الإنسان وحقوقه. هارباً من المعركة الحقيقية: معركة الإنسان وحقوقه في فلسطين.
السيّد الرئيس،
لا بدّ من إعادة النظر الجذرية. حتى لو استطاع حزب البعث أن يوقف الثورة عليه. دون ذلك، سيكون هو نفسه عاملاً أساسيّاً في الانهيار الكامل: في دفع سوريا إلى حرب أهلية طويلة الأمد، قد تكون أشدّ خطورةً مما حدث في العراق، لأنها ستكون تمزيقاً لهذه الأرض الجميلة الفريدة التي اسمها سوريا. وستكون، إلى ذلك، دفعاً لجميع سكانها، خلاّقي الأبجدية، إلى التشرّد في أنحاء أرضٍ لا تعِدُ إلاّ بأحصنة الملائكة التي تطير بأجنحة السماوات السبع.
لسوريا وشعبها ولك، أيها السيد الرئيس، تمنّياتي الصادقة.
نقلا عن جريدة السفير اللبنانية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.