أكد المتدخلون خلال المائدة المستديرة ، التي تم تنظيمها مؤخرا حول موضوع : « المسنون وتحديات المستقبل، على ضوء التحول الذي طرأ على الأسرة المغربية» على أن أوضاع الشخص المسن بالمغرب هي أوضاع مزرية بشكل عام، وأن هذه الشريحة من المواطنين المغاربة تعاني من التبخيس والإهمال، سواء من طرف الأسر أو من طرف الجهات المسؤولة، وقد أشار بنعيسى التوروكي رئيس جمعية «الأمل» لمتقاعدي الأسرة التعليمية، في كلمة افتتاحه لأشغال هذه المائدة المستديرة، إلى أن دور جمعيات المجتمع المدني في مثل هذه الظروف، يبقى أساسيا في دعم المسن والنضال من أجل خدمة قضاياه المتسمة بالهشاشة والبؤس، ومن هنا يأتي تنظيم هذا الملتقى، في سياق تنفيذها لبرنامجها العام الذي يشمل عدة محاور، تمتد من طرح الملف المطلبي للمتقاعدين، إلى تنظيم محاضرات وندوات لمناقشة قضاياهم المختلفة، إلى الاهتمام بالجانب الترفيهي لكسر سكونية الرتابة المهيمنة على حياتهم، دون إهمال الانفتاح على المسنين غير المتقاعدين، والذين لا يتوفرون على أي معاش بحكم طبيعة العمل الذي كانو يمارسونه، حيث تم في هذا المجال توقيع اتفاقية التدبير المشترك لفضاء المسنين بالمركب الاجتماعي «ابتسامة» . أحمد لمباركي رئيس الجامعة الوطنية لجمعيات المتقاعدين والمسنين بالمغرب، وعضو المجلس الإداري للصندوق المغربي للتقاعد، من جهته أكد على أهمية موضوع هذه الندوة، معتبرا أن على كل الفاعلين، سواء في المجتمع المدني أو السياسي، أن يولوه اهتماما خاصا، ذلك أن أعداد المسنين في المغرب تعرف تزايدا مضطردا، حيث ستبلغ نسبتهم خمس سكان المغرب مع حلول سنة 2040 ، وهذه الفئة المجتمعية لها احتياجات متنوعة وتعاني إهمالا فظيعا، حيث يعيش 50 في المائة منهم على عتبة الفقر، بعضهم يعيش عالة على أسرهم المعوزة أصلا، وبعضهم يعيش بفضل المحسنين الذين يتكفلون بتلبية حاجياتهم، أو بفضل تضامن الجيران وتعاطفهم، وهناك من يعيش في الشارع أو في الخيرية، وأوضاعهم جميعا في غاية السوء، حيث يعانون من مختلف المشاكل، ومن تفاحش أمراض الشيخوخة من سكري وضغط وبروستات، والمؤسف أن المسؤولين يتعاملون مع قضاياهم بكل إهمال ولامبالاة، رغم أنهم قد أعطوا الكثير للمجتمع وقدموا كل ما يستطيعونه لخدمته، لكننا نراهم يحرمون من كل رعاية أو حماية. وفي الوقت الذي تستعد فيه منظمة الأممالمتحدة لسن قانون يتعلق بحقوق المسنين في العالم، نجد أن الحكومة والفاعلين الاجتماعيين، يعملون على إقصاء المتقاعدين من الاستفادة من نتائج الحوار الاجتماعي، الذي أسفر عن زيادة في الأجور لكافة الفئات، لكنه استثنى المتقاعدين من الزيادة في المعاشات، رغم سوء أوضاعهم الصحية والأسرية وارتفاع مستوى المعيشة بشكل عام . وتطرق إفقيرن الحسين ممثل الصندوق المغربي للتقاعد، للحديث عن تطور عدد المسنين ونسبتهم داخل الساكنة المغربية، مشيرا إلى أن ظاهرة الشيخوخة تستفحل بالمجتمع المغربي كغيره من الدول، وذلك لعدة أسباب وتطورات اقتصادية واجتماعية وديمغرافية، وقد أصبح المسنون يشكلون شريحة لا يستهان بها داخل المجتمع المغربي، حيث انتقلت نسبتهم من 6.3 في المئة سنة 1982 إلى 8 في المئة سنة 2004 وينتظر أن تشكل هذه النسبة خمس السكان مع حلول سنة 2040 وفي ظل هذه الزيادة المتسارعة لمعدلات الشيخوخة بالمغرب ، يبرز مؤشر في غاية الأهمية، ويجب أخذه بعين الاعتبار، لأن له تأثيرا مباشرا على أنظمة التقاعد ، بسبب ارتباطه بما يسمى بالمعامل الديمغرافي، الذي يتجلى في العلاقة القائمة بين المتقاعدين والنشيطين ، هذا المعمل الذي سجل تدهورا ملموسا خلال العقدين الأخيرين، حيث انخفض من 12 نشيطا مقابل متقاعد واحد سنة 1982 إلى 5 نشيطين مقابل متقاعد سنة 2004 ، وحسب نتائج الدراسات المعتمدة ، فإنه سيصل في أفق سنة 2025 إلى نشيط واحد مقابل متقاعد واحد، حيث سيتعادل النشيطون مع المتقاعدين، وهذه الوضعية ستكون لها نتائج وخيمة على التوازنات المالية لأنظمة التقاعد، مما يفرض التفكير بجد في إيجاد الحلول الملائمة لهذه الوضعية. ومما تجدر الإشارة إليه ، أن الدولة قد اتخذت مجموعة من الإجراءات التي تصب في هذا الاتجاه، وسيتم في المستقبل القريب اتخاذ كل التدابير الكفيلة بضمان ديمومة أنظمة التقاعد المختلفة، وفي انتظار ذلك، فقد تم اتخاذ مجموعة من الإجراءات الجزئية، التي همت بعض الصناديق ذات الطبيعة الخاصة . ومن ناحية أخرى ، فقد اعتبر الدكتور عبد الإله هلالي، الأخصائي النفساني ورئيس جمعية « أصدقاء المريض النفساني» أن مكانة الشيخ وصورته في عصرنا هذا تختلف كثيرا عما كانت عليه في العصور السابقة، فإلى حدود أواخر القرن الثامن عشر كان الشيخ هو صاحب القرار في المجتمع، وكان يحظى بمكانة اجتماعية عالية، حيث كانت المجالس التقريرية تسمى بمجالس الشيوخ (احتفظ بهذا الإسم لكنه أفرغ من محتواه الأصلي) ولا غرو في ذلك، فالشيخ يراكم طيلة مسيرته الحياتية تجارب وخبرات يصبح معها رأسمالا ثقافيا وعلميا وسياسيا، وقد كان تقسيم العمل يراعي مكانة الشيخ ، فالأعمال التي تتطلب الجهد العضلي تسند للشباب ، أما الأعمال التي تتطلب الحكمة والرصيد العلمي والمعرفي فقد كانت حكرا على الشيوخ ، وبعد القرن التاسع عشر، وفي ما يعرف بعهد التصنيع ، تغيرت ظروف العمل، حيث أصبحت تعتمد على القوة العضلية، وأصبح الإنسان يبيع طاقته الجسمانية أكثر من أي شيء آخر، وبذلك أصبحت الأهمية للشباب، وفي أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين، أصبحت هذه الظروف تفرز فئة اجتماعية غير قادرة على مسايرة سرعة هذا الحراك ، وأصبح الحديث عن فئة خاصة من الناس ، يصل أصحابها إلى سن العجز، ويصبحون في حاجة إلى رعاية خاصة، وبذلك أصبح لهذه الوضعية ثقل بيولوجي وسيكلوجي ، على أن الذي يؤثر على المسن، هو طبيعة العلاقة الجديدة التي بدأت تتشكل بينه وبين الآخر بعد مرحلة التقاعد ، مما يشعره باللافائدة وبإهمال الآخرين له ، و يساهم في تقلص الجوانب النفسية العلائقية لديه ، الشيء الذي يدفعه في الأخير إلى الانعزال والتمركز حول الأنا واستغلال الطاقات الخيالية لديه ، مع نزوع نحو جلب الاهتمام بمختلف الأساليب ، كتوهم أشكال من مختلف الأمراض ، وبذلك يدخل بوابة الاكتئاب الصريح والمقنع بمختلف تمظهراتهما. ومن أهم أساليب الرعاية التي ينبغي للدولة أن تتيحها أمام المسن ، هو أن تعمل على إعادة استغلال قدراته الشخصية في مهام خارج الوظيفة العمومية ، لكونه قد راكم تجارب ويتوفر على قدرات تعتبر رأسمالا هاما ، يجب إعادة استغلاله ولو في مهام تطوعية ، ففي ذلك قيمة كبرى للفرد وللمجتمع . وفي اتجاه متكامل ، أكد الدكتور محمد الغرماوي ، الأخصائي والمعالج النفساني ، أن موضوع الشيخوخة لا يهم المسنين وحدهم بل يهم حتى الصغار ، لأن الشيخوخة ليست مرضا ، بل مرحلة في مسار حياة كل إنسان ، وهذه قضية أساسية يجب أن تدفعنا جميعا للمطالبة بتحسين أوضاع المسنين في مجتمعنا ، لأننا حين نهملهم ننسى أننا في الطريق إلى نفس الوضعية التي هم فيها ، وفي هذا الصدد طرح الدكتور الغرماوي مجموعة من الاحتياجات التي يجب على الدولة أن تلبيها خدمة للشخص المسن ، من ذلك توفير بطاقة خاصة للنقل ، وتحسين مستوى المعاشات التي لا تساير في غالبيتها متطلبات الحياة وغير ذلك من الإجراءات . وإذا كانت مرحلة الشيخوخة تتزامن مع مجموعة من الأمراض الجسمية والنفسية ، فإن عوامل الوقاية تصبح ذات أهمية كبرى قبل استفحال هذه الأمراض ، ولن يكون الأمر مجديا إلا إذا توفر الاهتمام بأوضاع المسن ، من طرفه شخصيا أو من طرف الأسرة أو الدولة أو المجتمع المدني ، فهناك طرق وتمرينات تساهم بفعالية في المحافظة على القدرات الشخصية ، ويجب اعتمادها مبكرا ، وهناك معايير لقياس الحالات غير المحسوسة ، بحيث يمكن التبؤ ببعض الأمراض قبل حصولها ، وعلى الإنسان عندما يحس ببعض الاضطرابات أن لا يهمل نفسه وينتظر حصول المشكل ، بل عليه أن يبادر باتباع طرق الوقاية ، ومما يؤسف له أن العامل المادي يعتبر حاسما في مثل هذه الحالات ، إذ كثيرا ما يقف ضيق ذات يد المسن دون اهتمامه بأوضاعه الصحية ، ويدفعه إلى إهمال حاله ، مما يفرض تدخل المجتمع أو الدولة في مثل هذه الحالات ، لأن المسن يعتبر رمزا داخل أي مجتمع ، فشباب اليوم هم مسنو الغد ، ولذلك يتحتم على سائر الجهات المعنية أو المهتمة أن تتحمل كامل مسؤولياتها تجاه معاناة المسنين وإحباطاتهم . ومن منطلق آ خر ، أشار حمادي لمنور ، عضو المجلس الوطني للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان وباحث في علم الاجتماع ، إلى أن الثقافة المغربية كانت تخصص للشيخ مكانة رفيعة داخل الأسرة ، حيث كان على رأس كل أسرة شيخ يتخذ القرارات الحاسمة في حياتها ، من بيع وشراء وزواج وغير ذلك ، ونظرا للتغيرات التي طرأت على التشكيلة الاجتماعية في المجتمع المغربي ، فقد اختفى ذلك النوع من الأسر العضوية التي كان الشيخ يلعب فيها الدور الأساسي ، وظهرت نماذج جديدة من الأسر ، تعيش أنماطا جديدة من الحياة ، تراجعت فيها مكانة الشيخ لعدة عوامل متداخلة ، ثم أسهمت الهندسة المعمارية داخل مدننا في ترسيخ هذا التوجه ، باعتمادها لتصورات لا تفسح ضمن اهتماماتها أي حيز خاص بالآباء والأجداد ، وبذلك أصبح وضع هؤلاء هامشيا داخل الأسرة ، حيث أصبحوا يعانون الكثير من الاضطرابات والأمراض التي يحملها تقدم السن . ويجب التأكيد في هذا الصدد على أن المسؤولية الأساسية في رعاية المسن مازالت تقع على كاهل الأسرة ، لأن اختصار حياة المسن داخل دار العجزة ، يعتبر قتلا مسبقا له ، ولاسيما في ظل الظروف التي تعيشها دور العجزة في بلادنا ، ومع ذلك فإن مسؤولية الأسرة لا تلغي مسؤولية الدولة والحكومة ، خاصة حين نستحضر ظروف الخصاص والعجز اللذين يعيشهما الكثير من أسر المسنين ، فعلى الدولة أن تهتم بفتح فضاءات المشاركة أمام الأشخاص المسنين ، وأن تحفزهم على المساهمة في الإنتاج والإبداع ، من أجل تحقيق ذواتهم واستعادة إحساسهم بالجدوى ، سيما وأنهم في غالب الأحيان يكونون متوفرين على إمكانيات وقدرات تمكنهم من تقديم الكثير من العطاءات ، والجدير بالتأكيد أن المسؤولين حينما يتعاملون مع المسن بذلك الشكل من الإهمال الذي نلمسه في مجتمعنا ، فإن ذلك يعتبر مسا بكرامتهم وسلبا لحقوقهم ، التي أقرتها الأممالمتحدة في مختلف مواثيقها ، ولاسيما ما يتعلق منها بمبادئ الرعاية والكرامة وتحقيق الذات .