مرسوم جديد لتعزيز الاستثمار.. إصلاح المراكز الجهوية وإحداث اللجان الموحدة    بايتاس يطمئن المغاربة بشأن مراقبة المواد الأساسية ويؤكد على الوفرة في المنتجات    على عتبة التسعين.. رحلة مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني في دروب الحياة والثقافة والفن -06-    مؤسسات الإيواء السياحي المصنفة بالمغرب تسجل 2,04 مليون ليلة مبيت عند متم يناير    قمة الدول العربية الطارئة: ريادة مغربية واندحار جزائري    السلطات تمنع تنقل جماهير اتحاد طنجة نحو فاس لمؤازرة فريقها أمام "الماص"    مانشستر يونايتد يدخل التنافس على خدمات نايف أكرد    "الفيفا" يدرس توسيع كأس العالم لكرة القدم لتضم 64 منتخبا    أفضلية إنجليزية وتفوق واضح للضيوف في ذهاب ثمن نهائي دوري أبطال أوروبا    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال 24 ساعة الماضية    بنخضرة تستعرض تقدم إنجاز خط أنبوب الغاز إفريقيا-الأطلسي بواشنطن    جون ماري لوكليزيو.. في دواعي اللقاء المفترض بين الأدب والأنثربولوجيا    فصل تلاوة القرآن الكريم في شهر رمضان    الدريوش.. المحكمة الإدارية تقضي بتجريد 9 أعضاء بجماعة بن الطيب ورئيس وأعضاء بجماعة أزلاف    الأداء السلبي ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    توقعات نشاط قطاع البناء بالمغرب    أخبار الساحة    الكاف: إبراهيم دياز السلاح الفتاك لأسود الأطلس وريال مدريد!    إيرلندا تدعم جهود المبعوث الأممي    تأجيل العطلة البينية بين مرحب ورافض    تساقطات ثلجية وزخات مطرية قوية مرتقبة اليوم الخميس بعدد من مناطق المملكة    ارتفاع عدد ضحايا حادثة السير المروعة على الطريق الساحلي باتروكوت    تأجيل ملف الطفلة "ملاك" إلى 13 مارس وسط مطالب بحريتها    اتفاقية شراكة بين وكالة بيت مال القدس ووزارة التنمية الاجتماعية الفلسطينية للتكفل بالأيتام والأطفال مبتوري الأطراف ضحايا الحرب على غزة    شركة لإيلون ماسك تفاوض المغرب لتوفير الإنترنت عبر الأقمار الصناعية في الصحراء المغربية    قصص رمضانية...قصة الصبر على البلاء (فيديو)    سكينة درابيل: يجذبني عشق المسرح    الملك يهنئ رئيس غانا بالعيد الوطني    السمنة تهدد صحة المغاربة .. أرقام مقلقة ودعوات إلى إجراءات عاجلة    عائلات محطمة بسبب مآسي الهجرة سباحة إلى سبتة مع تزايد أعداد المفقودين    "مرجع ثقافي يصعب تعويضه".. وفاة ابن تطوان الأستاذ مالك بنونة    الفاتنة شريفة وابن السرّاج    تسرب الغاز في حقل "تورتو أحميم" يهدد مستقبل مشروع ضخم بين موريتانيا والسنغال    مؤشر الإرهاب العالمي 2025    السعودية تدعم مغربية الصحراء وتعتبر مبادرة الحكم الذاتي حلا وحيدا لهذا النزاع الإقليمي    كأس العرب قطر 2025 في فاتح ديسمبر    خبير يدعو إلى ضرورة أخذ الفئات المستهدفة للتلقيح تجنبا لعودة "بوحمرون"    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    تقارير تنفي اعتزال اللاعب المغربي زياش دوليا    إحباط تهريب مخدرات على متن شاحنة في الميناء المتوسطي    بريظ: تسليم مروحيات أباتشي يشكل نقلة نوعية في مسار تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين المغرب والولايات المتحدة    أمطار رعدية في توقعات طقس الخميس    اليابان.. قتيل وجريحان في انفجار بمصنع لقطع غيار السيارات    البيض ماكلة الدرويش.. تا هو وصل لأثمنة غير معقولة فعهد حكومة أخنوش.. فين غاديين بهاد الغلاء؟ (فيديو)    المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني يعقد اجتماعا برئاسة شي جين بينغ لمناقشة مسودة تقرير عمل الحكومة    قمة أوروبية طارئة بمشاركة زيلينسكي على ضوء تغير الموقف الأمريكي بشأن أوكرانيا    المغرب حصن عزة وتلاحم أبدي بين العرش والشعب أسقط كل المؤامرات    الأمم المتحدة تحذر من قمع منهجي لنشطاء حقوق الإنسان في الجزائر    صرخة خيانة تهز أركان البوليساريو: شهادة صادمة تكشف المستور    وزارة الصحة : تسجيل انخفاض متواصل في حالات الإصابة ببوحمرون    عمرو خالد: 3 أمراض قلبية تمنع الهداية.. و3 صفات لرفقة النبي بالجنة    مسؤول يفسر أسباب انخفاض حالات الإصابة بفيروس الحصبة    «دلالات السينما المغربية»:إصدار جديد للدكتور حميد اتباتويرسم ملامح الهوية السينمائية وعلاقتهابالثقافة والخصائص الجمالية    أمن طنجة يحقق في واقعة تكسير زجاج سيارة نقل العمال    مكملات غذائية تسبب أضرارًا صحية خطيرة: تحذير من الغرسنية الصمغية    عمرو خالد يكشف "ثلاثية الحماية" من خداع النفس لبلوغ الطمأنينة الروحية    في حضرة سيدنا رمضان.. هل يجوز صيام المسلم بنية التوبة عن ذنب اقترفه؟ (فيديو)    عمرو خالد: هذه أضلاع "المثلث الذهبي" لسعة الأرزاق ورحابة الآفاق    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ونستون تشرشل: الحلم

لا يعرف أغلب القراء عن ونستون تشرشل غير جانبه العسكري المرموق باعتباره واحدا من صناع نصر الحلفاء، ذلك الرجل الذي وقف أمام مجلس العموم البريطاني في جلسة ظلت تاريخية خريف سنة 1939 ليعلن، «لن نستسلم، يجب أن ننتظر المعاناة ولكنننا مستعدون لتبيانها» وهو نفس الزعيم السياسي, سليل أسرة محافظة من التوري [حزب المحافظين] الذي ظلت مقولته المحبوكة حول الديموقراطية مشهورة ومتداولة الى الآن.
يعود هذا النص النادر لونستون تشرشل إلى سنة 1947، سنة النهاية المعلنة كما يتبدى من خلال مجريات الحوار بين الإبن ونستون والأب راندولف للعالم الفيكتوري بتوازناته ونظمه وقيمه، وهو العالم الذي صنع وأطر الحساسية السياسية والثقافية والأخلاقية لجيل ونستون، قبل أن يستفيق هذا الجيل على هول الكوارث ومشاهد الحطام المبعثر من بقايا المدن المدمرة خلال الحرب العالمية الثانية.
لا يعرف أغلب القراء عن ونستون تشرشل غير جانبه العسكري المرموق باعتباره واحدا من صناع نصر الحلفاء، ذلك الرجل الذي وقف أمام مجلس العموم البريطاني في جلسة ظلت تاريخية خريف سنة 1939 ليعلن، «لن نستسلم، يجب أن ننتظر المعاناة ولكنننا مستعدون لتبيانها» وهو نفس الزعيم السياسي, سليل أسرة محافظة من التوري [حزب المحافظين] الذي ظلت مقولته المحبوكة حول الديموقراطية مشهورة ومتداولة الى الآن. «»إن الديمقراطية هي أسوأ النظم السياسية مع استثناء كل النظم الأخرى»« في هذا النص الذي أبان فيه الكاتب عن صنعة أدبية رفيعة وعن تحكم في المادة حول مجمل التطورات التي أعقبت نهاية العهد الفيكتوري الى حدود نهاية الحرب العالمية الثانية: تطور الملكية البريطانية، تطور مجلسي العموم واللوردات توسع حق الاقتراع، دور النساء في العمل السياسي والمؤسساتي، الحروب الجديدة، تعاقب التشكيلات السياسية، الوجه الجديد للاشتراكيين وهم خصوم التوري التاريخيون. تطور العلاقات الدولية وتشكل القوى الجديدة وقضايا أخرى كثيرة.
والمثير في الموضوع والذي برز خلال الفقرات الأخيرة للحوار بين الابن، السياسي المحافظ اللامع والمنتصر العسكري في الحرب، والأدب راندهولف الشبح، هو استعادة و نستون تشرشل لذلك الجرح الغائر الذي لازمه جراء احساسه في فترات سابقة من حياته بأن أباه كان يعتبره فاشلا وغير قادر على إعالة نفسه, ناهيك عن القدرة على الإتيان بأعمال جليلة أو بطولات.
يقول تشرسل في تفسير قساوة أحكام الآباء على الأبناء، ولكن هذه المرة، ليس على لسانه هو بل على لسان أبيه الشبح «إن الأشخاص المسنين هم دائما قليلو الصبر مع الشباب، يود الآباء أن يكون لأبنائهم كل فضائلهم، دون عيوبهم»
وتلك إشارة إلى قيمة التأني عند اطلاق الأحكام المصيرية، وهي القيمة التي قد يفقدها حتى المحافظون المقتنعون والمجبولون على التأني، ذلك هو الدرس الفلسفي في حوار تشرشل مع شبح أبيه.
قل لي ونستون ما الذي جرى لقصر بيلنهايم، لقد قال ذات يوم بلاندورد [عم ونستون] أن هذا القصر يصلح لأن يتحول الى متحف لأوكسفورد- لازال الدوق والدوقة مارلبورو يعيشان هناك.
[للإشارة فإن قصر بيلنهايم غير البعيد عن أوكسفورد كان قد قدم هدية من قبل الملك والبرلمان إلى جون تسرشل أول دوق لمارلبورو جزاء النصر الذي حققه بمعية أوجين دوسافوي سنة 1704 ضد فرنسا وبفاريا]
توقف الأب مرة أخرى عن الكلام ثم قال:»لقد أكدت دائما وقلت للجميع ضعوا ثقتكم في الشعب، وحدها الديموقراطية المحافظة، دموقراطية ا لتوري بإمكانها أن تقيم تلك الرابطة بين الماضي والحاضر.
- إن الدوق والدوقة لا يحتلان سوى جزء من القصر، أما الباقي فهو مقر لل م5I.
- ما هذه الرموز؟
- - جهاز حكومي أنشئ بعد الحرب
- الحرب، أقلت الحرب، سأل كمن صعق، هل كانت هناك حرب؟
- لم نعرف غير هذا مذ استقرت الديموقراطية.
- اسمع، ونستون، أتقصد حروبا كبيرة، وليس مجرد مناوشات على الحدود، حروب يفقد خلالها عشرات الآلاف من الناس أرواحهم - أهذا ما تقصد؟
- نعم أبتي - هذا بالضبط هو ما حدث بدون توقف. الحروب وانتظار حروب أخرى.
- احكي لي ما الذي حدث؟
- كنت هناك أولا جرب البوير
- آه تلك الحرب كان بإمكاني وقفها، لم أتفق أبدا على تلك الصيغة «»انتقموا لمقتل ماجوبا«« لا يتوجب أن تتملكنا الرغبة في الانتقام، خاصة حينما تكون لنا القدرة على ذلك، لقد كان لي دائما انشغال، بما كان يفعله جو.
- تقصد السيد شامبرلاين [رئيس الوزراء السابق]؟
- نعم ليس هناك سوى جو واحد من تلك الطينة، ليس هناك أخطر من راديكالي حينما يتحول الى شوفيني. لكن أخبرني ماذا حدث في حرب البوير؟
- لقد قمنا بغزو واحتلال الترانسفال ومنطقة الأورانج.
لم يكن على بريطانيا أن تفعل ذلك أو تسعى من أجله, أقصد الهجوم على جمهوريتين مستقلتين. لقد أضعف هذا موقعنا في العالم كما أتصور. لقد حرك ذلك, بدون شك الكثير من الأمور, أنا على يقين بأن البوير حاربوا بشكل جيد . حينما كنت هناك رأيت العديد منهم، أشخاص على حالة الطبيعة يحملون بنادق ويركبون الخيول. أتصور يا ونستون أنه كان علينا توفير عدد هائل من الجنود لمواجهتهم. أربعون ألف بدون شك.
- لا يا أبتي، مائتي ألف جندي.
- يا إلهي، مائتا ألف، يا لها من تكاليف باهظة بالنسبة للدولة
لقد ارتفعت الضرائب.
بدا الرجل مضطرباً لسماع خبر ارتفاع الضرائب، فطمأنته على الفور بالتأكيد أنها انخفضت مؤخراً.
من هو الجنرال الذي هزم البوير؟
إنه اللورد روبرتس.
لقد كنت دائماً معجباً بمواهبه، لقد سبق أن عينته قائداً عاماً للقوات في الهند، حينما كنت وزيراً. كان ذلك خلال الفترة التي قمت بها بإلحاق بريطانيا بمجال نفوذنا. لقد عرفت تلك المنطقة فوضى عارمة، اقتتالات وفتن. لقد اضطرنا للتدخل، وبشكل سريع، تم تكوين حكومة متحضرة تحت رقابة مجلس العموم. كانت تخترق عيناه ومضات خاصة وهو ينطق كلمتي مجلس العموم.
لقد كنت يا ابني من المدافعين المتحمسين عن مجلس العموم، وأنا على نفس الحماس بخصوص هذه المؤسسة التشريعية الآن.
أنت محق تماماً في هذه الحماسة يا ونستون، لأن إرادة الشعب لابد أن تسود وتنتصر. إن توازنا جيداً للسلط، واقتراعاً عاماً شاملا وانتخابات حرة هي أكبر الضمانات، في كل مرة سيصحح طرف أو جزء من بريطانيا، الطرف أو الجزء الآخر، تلك هي الديمقراطية.
نعم ابتي، ذلك ما كنتَ قد علمتني إياه.
لا ياونستون، أنا لم أعلمك هذا، لم يكن من الممكن أن أتحدث في السياسة مع طفل في سنك، خاصة وقد كنت في الصف الأخير من الاستحقاقات الدراسية.
لم تحصل على أية نتيجة مشرفة في أية مدرسة ماعدا في مدرسة الخيالة، كنت تكتب لي رسائل مليئة بالأخطاء، لم يكن لدي أية فكرة عن الطريقة التي ستتمكن من العيش بها بعد مماتي، بالنظر لمحدودية ما بوسعي تركه لكما كميراث أنت وأخوك جاك، بعدما تأخذ والدتكما نصيبها. لقد فكرت أن أوجهك للمحاماة، ولكنك لم تكن ذكيا بما يكفي، بعد ذلك، فكرت في أمر ذهابك الى افريقيا الجنوبية، ولكنك كنت يافعاً وقتها ولم أقدر من خوفي عليك أن أتحمل فكرة ابتعادك.
إن الأشخاص المسنين هم دائماً قليلو الصبر مع الشباب. يود الآباء أن يكون لأبنائهم كل فضائلهم دون عيوبهم. لقد كنت شديد الولع باللعب ذات الصلة بعالم الجنود، ولذلك قررت إرسالك إلى الجندية. أتمنى أن تكون قد حققت نجاحاً في مسارك العسكري.
لقد كنت رئيس فرقة ضمن الخيالة.
لم يبد أبي أي شعور بالرضى ولم يعر الأمر اهتماماً كبيراً، ولكنه قال:
على كل حال، ها أنت ذا الآن، سنك الآن يتعدى السبعين بدون شك. لديك بيت وسقف تحتمي إليه، ويبدو أن لك وقتا كبيراً تصرفه في الرسم. لقد تمكنتَ من العيش وتخطي الصعاب. هل أنت متزوج يا ونستون؟
منذ أربعين سنة.
ولديك أولاد؟
أربعة
وأحفاد
أربعة
إنني مسرور لسماع ذلك، لكن حدثني ياونستون عن تلك الحروب التي تكلمت عنها قبل قليل.
لقد كانت حروباً بين الأمم، تسبب فيها ديماغوجيون ومستبدون.
هل انتصرنا في تلك الحروب.
نعم لقد ربحنا كل حروبنا, لقد دحر كل أعدائنا، بل إننا اضطررناهم الى الاستسلام بدون قيد أو شرط.
علينا أن نتفادى ذلك، علينا أن نتفادى الإذلال دائماً، فالشعوب الكبيرة قد تنسى المعاناة والآلام، ولكنها لا تنسى أبداً الإذلال والمهانة.
لقد تم الأمر على هذا النحو يا ابني، حاولنا تفادي الإذلال ما وسعنا المحاولة؟
ماذا بعد تلك الحروب، هل لازلنا القوة الأولى في العالم، كما كنا على عهد الملكة فيكتوريا؟
لا يا ابتي، لقد أصبح العالم أوسع من حولنا.
ما هي القوة الكبرى الآن؟
الولايات المتحدة.
هذا لا يزعجني البتة، فأنت نفسك نصف أمريكي، لقد كانت أمك أجمل امرأة حملها الكون. لقد كانت آل جيروم عائلة من أصول أمريكية محترمة.
لقد عملت دائماً من أجل الحفاظ على روابط الصداقة مع الولايات المتحدة، ومع العالم الأنجلوفوني عموماً.
العالم الانجلوفوني تقصد كندا، أستراليا ونيوزيلندا، كل هذه الدول؟
نعم كل هذه الدول.
هل لازالت هذه الدول على نفس الولاء للقيم البريطانية؟
نعم, إنهم بمثابة إخوة لنا.
والهند، وبرمانيا، كيف تتطور فيها الأمور؟
للأسف، لقد فقدناهما.
- عند هذا المستوى من الحوار تغيرت ملامح وجهه، وبدا كمن تملكته الرغبة في البكاء، فإلى حد تلك اللحظة لم يفكر في إشعال السيجارة التي ظلت مثبتة بين يديه، ولكنه بعد سماع ما قلته له بخصوص الهند وبرمانيا، أخذ عود ثقاب من علبة أخرجها من جيبه استعدادا لإشعال السيجارة. ولأول مرة خلال هذا الحديث المطول بيننا أحسست بنوع من الفزع، بدأت بتحريك الفرشاة في قعر آنية الصباغة للتأكد من أن كل شيء من حولي حقيقي، ولكنني كنت أرتعد. ولكي أخفف من وقع الخبر عليه، قلت له «ولكن هذان البلدان (الهند وبرمانيا) قد يعودان للالتحاق بالعالم الانجلوفوني بأننا نفكر في تأسيس منظمة يكون لنا وللأمريكيين فيها دور أساسي.
ورغم تأكيداتي المطمئنة بقي الرجل على حالة الانزعاع التي انتابته فجأة، ثم وجه لي الكلام قائلا: خلال هذه الحروب التي أعقبت حرب البوير، ما الذي جرى للبلدان الاوربية الكبيرة. هل لازال الخطر يأتي من روسيا؟
- إننا قلقون كلنا فعلا بهذا الخصوص، بخصوص روسيا.
- لقد كنا دوما قلقين من روسيا وقد كان ديزي (دزارييلي الوزير الأول) قلقا دائما من هذه الناحية، لكن قل لي هل لازال الحكم بيد القيصر؟
- نعم، ولكنه ليس القيصر رومانوف، إنها عائلة أخرى، هو قيصر أكثر قوة وأشد بأسا واستبدادا من سابقيه (لاشك أن شرشل يقصد هنا ستالين، حتى وإن لم يذكره بالاسم.
- وألمانيا، وفرنسا؟
- إنهما محطمان معا، وكل أملهما أن ينهضا معا.
- أتذكر حينما ذهبنا معا إلى ساحة الكونكورد، وكان سنك لا يتجاوز التاسعة، وكنت قد سألتني عن إحدى معالم ستراسبورغ، وكنت بالتحديد قد سألتني لماذا هي مغطاة بالزهور وبعض الأقمشة السوداء، وكنت قد حدثتك عن الأقاليم التي خسرتها فرنسا في الحرب، ماهو العلم الذي يرفرق في سماء سترسبورغ الآن؟
- إنه العلم الثلاثي الألوان [يقصد الفرنسي].
- لقد ربحوا المعركة إذن في هذا الموضوع. لقد انتقموا من مهانات الماضي، لابد أنه كان انتصارا كبيرا بالنسبة لهم.
- نعم، لقد أدوا الثمن من دماء أبنائهم.
-حروب من هذا النوع، ومن هذا الحجم لابد أنها كلفت أوربا مليون قتيل.
- أبتي، في كل حرب من هاتين الحربين، سقط ما لا يقل عن ثلاثين مليون قتيل في ساحات المعارك، وخلال الحرب الأخيرة، تم قتل 7 ملايين شخص بدم بارد، خاصة من طرف القوات النازية التي أقامت في مناطق متعددة من أوربا وروسيا مذابح جماعية. أوربا الآن هي حطام. لقد تم تدمير العديد من مدنها بواسطة القنابل، عشر عواصم في أوربا الشرقية هي الآن بيد الروس، هي الآن بلدان شيوعية، تتذكر كارل ماركس دون شك، ومن المحتمل، والحالة هاته، أن تنشب حرب أكثر ضراوة، حرب الشرق ضد الغرب، حرب الحضارة الغربية ضد جحافل المغول إن عالم المرحلة الفيكتورية بنظامه واستقراره وتوازنه ولى وانتهى، لكن مع ذلك فبعد أن اجتزنا كل هذه المحن، ليس هناك ما يدعو إلى فقدان الأمل.
بدا أبي كمن تجمد في مكانه، وحدها يده اليمنى بقيت تشتغل بتحريك علبة عود الثقاب، ثم قال: اسمع يا ونستون، لقد أخبرتني أشياء فظيعة، لم أكن أتصور حدوث مثل تلك الفظاعات التي حدثتني عنها، ولا أخفيك أنني أشعر بالفرح لكوني لم أعش لأرى تلك المآسي. لقد أعطيتني الانطباع خلال هذا الحديث، وأنا أستمع إليك، بأنك تتحكم جيدا في المادة التاريخية الوقائعية التي تتحدث عنها، ولم أكن للحق أتصور أنك ستتطور بهذه الصورة. إنك الآن متقدم في السن كما أرى، لكن وأنا استمع إليك، تساءلت مع نفسي لماذا لم تمارس السياسة. لقد كان بإمكانك أن تساعد الأمة بشكل كبير. لقد كان بإمكانك أن تصنع لنفسك اسما لامعا. عند هذه اللحظة من كلامه رأيته يبتسم في وجهي بشكل رقيق وحنون، ثم أخذ عود الثقاب لإشعال سيجارته، ثم كانت هناك لحظة صمت أعقبت الشعلة المنبثقة من عقود الثقاب، ثم اختفى وجهه عني. كان الكرسي الجلدي فارغا، انتهى الحلم أو الوهم! لقد أخذت من جديد فرشاتي ومددتها على القماش، محاولا إتمام رسم الشارب، لكن المشهد الذي عشته كان في غاية الكثافة الدرامية، بحيث أحسست على إثره بالتعب وبعدم القدرة على إنهاء رسم اللوحة. لقد انتبهت أن سيجاري انطفأ وسقط رماده، ثم غطى على كل الألوان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.