مرت شهور حين غادرت عالية منزلها العتيق، كان الرجل الذي اشترى المنزل قد أحضر كلابا صغيرة، وأخبر الجميع بأنه مغرم بكلاب الصالونات. كان لطيفا جدا، مهذب الطباع، وفي مشيته الكثير من الهدوء. كان كل صباح يغير ربطة عنقه المتعددة الألوان، ويحمل في يده عصا مزركشة، ويضع السيكار في فمه حتى ولو لم يكن يدخنه، وكنت أشعر بأن نظامه قد أتعب ذاكرتي... لم أكن حينها قادرا على أن أستيقظ من الإغماءة الثقيلة التي وقعت فيها، وكنت أعرف أن السيد قد اشترى المنزل بكل أشيائه المتعددة، ومع أنني أكره المجاملة، فقد بدأت أطلب ود الكلاب الصغيرة حتى أدخل إلى المنزل... كان السيد قد ترك آثار عالية في المنزل، وقال لي بهدوئه المنظم، بأنه لا يريد أن يمحو نبضها من البيت، فهي تشبه اللوحة. كانت عيونها الدمعة في كل مكان، لم أستطع أن أمحو طيفها من ذاكرتي، وكنت أخاف أن يراني السيد وأنا أسرق إحدى صورها وأهرب إلى مخدعي الخاص وأبدأ بتقبيل وجهها الغريب، كنت كمن يستعيدها من مخبئها السري. كانت تختلف تماما عن السيد. كانت كلها فوضى، فلم يحدث أن رأيت شعرها المتماوج يتخذ شكلا هادئا، ولم يحدث أبدا أن رأيتها وقد ارتدت ملابس رسمية، وكانت كلما رأتني حيتني، ونظرت إلي، لكنني لم أكن أحتفظ من وجهها إلا بمساحة العينين، وكنت في كل مرة أعود إلى المنزل، أتيه حين أرغب في أن أستعيد خارطة وجهها، وكثيرا ما كنت أحاول أن أقف على التفاصيل الصغيرة الأخرى، لكنني لم أكن أعثر عليها في ذاكرتي، كانت تنمحي تماما، لتطوف العينان الدمعتان أمامي، وأنا أمسك بالدموع الصغيرة المالحة وأشربها. أضع أمامي الصورة، وأعيد نفس الأشياء، ألتصق بالعينين الدمعتين، وأحاول أن أجد لهما معنى، فلا أعثر على شيء. شيء غريب كان يحدث، كنت أشعر بأن عينيها تضمران نوعا من الإرهاق الغريب، ولكنهما كانتا تمتلئان بالحزن والسعادة في نفس الآن، فقد كانت عيناها تبسمان كلما رأتني، فتقف بداخلهما دموع تستحيي أن تنزل، وكنت أظل عالقا بين تعطل الدمعة من النزول وتراقص الرموش التي تظل ممسكة بالدمعة في تلك اللحظة... كان شيء يحدث بداخلي، شيء يجعلني أخبئ صدري، ويضعني على حافة الفهم... كانت الصورة التي سرقتها من بيتها قد غيرت عالمي الصغير، فقد بدأت أهرب من الأصدقاء باكرا كي أعود إليها، فقد صار لي عالم آخر. كنت أحاول أن أحييها لأنني لم يحدث أن سألتها عن ذلك الشيء الذي كان يقف في عينيها. كانت تمر بكل زوبعاتها الصغيرة. لم يحدث أن غادرت دموعها عينيها، حتى أنني وددت لو استطعت أن أضع يدي كي ألمس الدموع وهي تتحرك دون أن تسقط، ما زلت أراها الآن حين حضرت ووضعت شالها البنفسجي على الأريكة وسحبت نفسا خاصا، ثم قالت لي بكل تلقائية: - أريد أن أشرب فنجان قهوة، ولكنني أريد أن أهيئه بنفسي... كنت كما النائم، أومأت إليها بإشارة من رأسي، وبدون أن أخبرها عن مكان القهوة والسكر، كانت قد وضعت يديها على الملاعق والفناجين وكانت القهوة تتبخر في الآلة، والسكر يتخذ مكانه في السكرية، والمناديل تسحب من الدرج، كانت تصل إلى الأشياء وكأنها تعيش معي، وكانت تتحدث دون انقطاع، دون توقف وبلا مبالاة، بحركات انفعالية، هادئة، لكن شيئا ما كان يفور تحت الجلد الكامن. شيء ما كان يلتهب هناك، شيء غريب كان يصاعد إلى المقلتين. كانت تتأمل لوحاتي الغريبة التي لم تكن تصل إلى معناها، ولكنها كانت معجبة بالظلال والألوان والخطوط المبهمة، لم أكن أستطيع أن أقول لها بأنني أنا أيضا لا أفهم ما أخططه، ولكن في صدري الكثير من الزحام والفوضى. كنت مشدوها بهذا الكائن الغريب، فلم يحدث أن رأيتها ترتدي حذاء بكعب عال، أو فستانا يرسم خارطة خصرها النحيل مثل أية امرأة جميلة. كانت شكلا جميلا خاصا سقط الجمال عليه. أمسك بصورتها وأقبل العينين الدمعتين. أمامي عيون عالية، العيون التي لم أسألها لماذا غادرت فجأة هذا العالم بكل قسوة؟ لم أكن أعرف عن عالية سوى فوضاها وعينيها الدمعتين اللتين كانتا تحجبان تقاطيعها الأخرى، وكأنها شكل إضافي في الوجه، أو كأن التفاصيل التي ترسم وجهها ليست لي. كنت أغرق في العديد من الأسئلة، لماذا لم أخبرها بأنني كنت أحترق من أجل عينيها؟ لماذا لم أتمم تضاريس فوضاها؟ لماذا لم أعرف من تكون ؟ ولماذا تغادر عالمنا العادي الذي كان يحفل بضجيجها الصغير؟ كانت الألوان والفرشاة في يدي... مزجت ألوانا كثيرة ورسمتها بكل الألوان والأوضاع، بدأت ألطخ بعنف، كنت أشعر بأنني لأول مرة أرسم وكأنني في جذبة تامة، كان جسمي ينسلخ تماما عني لتناجيها الروح، فتصعد ألوانها الفوضوية وتتجلى على البياض. شهور وشهور وأنا أنسج وجهها بكل الأوضاع والأشكال. لم أعد أستطيع أن أغادر الغرفة بألوانها وفناجين القهوة والارتباك الذي حدث لي وأنا أعيدها إلى الحياة، إلى أن تهاويت تماما... وصعد وجهها الغريب، أفقت على دقات عنيفة، ثم جاء جاري المنظم. كان ينظر إلي بدهشة بالغة، قال لي إنه كان يخاف أن يجدني قد غادرت العالم، لأنه كان سيغادر هذا المكان على الفور. ثم أشعل سيجاره وهو يدخل دون استئذان. كان البيت قد كسته لوحات كثيرة و غطت كل مساحاته. بدأ يفتح عينيه في خوف وروعة وهلع ورأفة وود وهيام... كنت أشعر بأن هذا الرجل المنظم قد عكس كل لوحاتي بعينيه اللتين لم يسبق أن اهتممت بتشكيلهما للعالم الذي يحيط بهما... قال لي وهو يربت على كتفي بأنني أضفت لونا آخر لعالمها الجميل، وبأن بيتها علمه احتراق العيون وأرقها. أفقت على لغته وأنا أعيد رؤية لوحاتي و كأنني أكتشفها لأول مرة، لقد رسمت نصف الوجه فقط، في كل الأوضاع المختلفة، بكل الارتباكات التي أرختها ذاكرتي، نقلت ارتعاشها في العيون، نقلت فوضاها، وأسئلتها الملحة وقلقها الذي لم أفهمه، نقلت حيرتها، وفي عمق ذلك نقلت حيرتي بكل الألوان. لقد صبغت العالم الذي لم ينته، لقد صغت عيونها الدمعة بكل التعب. جاري يقف أمامي، وهو يتمم سحر العيون. قال لي بأنه أحب عينيها كثيرا، حين أعدتها للعالم. ثم أسر لي وهو يناولني سيجاره المفضل، أنني أعدتها إلى الحياة، وأنها لن تموت ما دامت تملك فرشاة تتعقبها بلا نهاية. دخنت السيجار، وأنا أمر من لوحة إلى أخرى، وكنت في كل مرة أراها هنا وهي تعود إلى الحياة... وكنت في كل مرة أشعر بأنني نقلت ما حلمت به فقط وأنني أعانقها بلا نهاية...