1 بعض من وهج قلبها: التقيتها أول مرة في نادي الاتحاد بتطوان، فأبهرتني رقتها الأخاذة، ولفت انتباهي جمالها الهادئ، وكانت بساطتها بداية المشوار في علاقتي بها، التي أتوقع أن تبلغ الألف ميل. قدمها لي الدكتور الطيب الوزاني، بأسلوبه الأنيق: - سعيدة أملال، شاعرة لها صوت إبداعي طراز وحده. ثم قدمها لي الزجال الماهر مصطفى مشبال، بطريقته المحببة: - سعيدة أملال، إذا استمعت إلى شعرها، ستعرف أن الشعر في تطوان ما يزال في صحة جيدة. حين استمعت إليها لم أعد كما كنت. أحسست أنني وجدت الشعر الذي كنت أبحث عنه، وعثرت على الشاعرة التي طالما تطلعت إلى لقائها لتجعلني على قيد الإبداع الجميل، ووجدت الأنثى التي تجعل دواخلي مشدودة إلى مفاتن إلقائها، وعذوبة صوتها. عند مدخل نادي الاتحاد كنا: هي تشجيني بروائع شعرها، وأنا مشدود إلى صورها اللعوب، التي تفعل بمشاعري الأفاعيل. هي تفضي بمخبوء وجدانها على الهواء الطلق، وأنا أنتظر لحظة صمتها لأجهر بإعجابي: قولي شعرا لتزداد دقات قلبي. هي تبوح، وتبوح، وتبوح، وأنا أذوب، وأذوب، وأذوب. هي تقول الشعر الذي به حياتها، وأنا أسمع الشعر الذي به أموت لأدمن الحياة. إثر هذا الإبداع السخي، الذي وضعني على تماس شعري مع الجميلة سعيدة أملال: جلست وإياي في فضاء يعبق بالتاريخ، تحدثنا عن الشعر، والحب، والحياة، فاكتشفت فيها محدثة بارعة، تعرف كيف تزرع ابتساماتها المضيئة بين عبارة وأخرى، وكيف تجعل المصغي إلى صوتها الهامس الفتان، والناظر إلى وجهها الآسر، يحرف غناء فريد الأطرش، ويردد بالآهات: «أدي الربيع عاد من ثاني، وسعيدة هلت أنوارها» كانت تحدثني بتلقائية موسومة بوهج القلب، عن أمالها، عن حياتها، عن مكابدات الأيام، عن حنين العمر. ولم تكن تدري ? كما بدا لي ? أنها تتحدث بلساني، وتحكي عما بي: فحنينها حنيني، وأشواق عمرها أشواق عمري، والمكابدات واحدة، والقواسم المشتركة بيننا نعد منها ولا نعددها. كنت محظوظا للمرة الثانية، حين سعدت بجلسة أخرى، بطعم مغاير، مع المبدعة الرائعة سعيدة أملال، وهذه المرة صحبة شاعرين آخرين، هما عبد الغفور الفتوح، وعمر البقالي. في هذا اللقاء البهي : جاءت سعيدة آنق ما تكون، هنداما وإحساسا وحضورا طاغيا. أسمعتنا نحن الثلاثة آيات من شعرها الصبوح، مما أضفى على صباحنا نكهة منعشة، وفي المساء استحضرناها هاتفيا، فقلت والصدق حليفي: ما أروع أن تلتقي أنثى: اسمها سعيدة، وشعرها يسعد، وحضورها الإنساني هو السعادة عينها أمام مستشفى «سانية الرمل»: ودعتها بكف لايود وداعها، وعين لا تريد غيابها، ونفس تطلب حضورها. وتأكيدا، لم تكن سعيدة تدرك ? وهي تجتاز الشارع نحو مدخل المستشفى بحيويتها التي تستدعي الأنظار إليها ? أنني سأعود إلى طنجة تاركا بعضا مني في تطوان. ..ولقد منحتني سعيدة ? دون أن تدري ? بعض العزاء، حين حققت لي أمنيتي: أن يكون وجهها المشرق آخر ما أراه وأنا أغادر مسقط حضورها تطوان. 2 نسيم من عطرها الشعري: في زجل سعيدة أملال? من منطلق تفاعلي معه? حساسية شعرية من نسيج خاص ومتفرد، لم أستشعرها في نص إبداعي أنثوي آخر، على كثرة ما قرأت، وسمعت، وتفاعلت. أتقصد هنا الحساسية التي تسري في أوصال شعرها، وتصل حثيثا إلى دواخل المتلقي ? السامع، لتخلق دوائر التقاء تفاعلي مثمر بين الشاعرة وقرائها، بين مخيلة تبث وقلب يتلقى. سعيدة أملا للا تكتب زجلها بالقلم، ولا تصيغه بالحروف، بقدر ما يأتيها على السجية، فتحسن قطف أزهاره، وتعانق حضوره، دون أن تجعل الحبر وسيطا بينها وبينه. إنها تستقبل الشعر بإحساسها الأنثوي المرهف، وتلقيه على المسامع بنفس الإحساس، فيكسب المتلقي نصا فيه وهج الاحتضان الأول، وفيه بصمة التجاوب الثاني. سعيدة، هذه المبدعة التي عاهدت الشعر على أن لا تشرك به شيئا، تكتبها القصيدة قبل أن تكتب هي القصيدة. وحين تلقي واحدة من روائع نصوصها، موظفة صوتها الذي يبعث الحياة في الحروف، وحركات جسدها التي تمنح للهجة إيقاعها الراقص، تكون قد أعادت إنتاج قصيدتها من جديد، بعد اقتناص ذبذباتها في ذاكرتها الحية. تحفظ سعيدة أشعارها عن ظهر روح، لا عن ظهر قلب فقط. لذلك هي دائما على استعداد للقول الشعري، سواء كانت الريح غاضبة في تطوان ?هكذا كانت في لقائنا الثاني?، أو كانت سماء المدينة مختالة بنجومها المضيئة ?هكذا كانت ليلة لقائنا الأول?. إن الشعر عندها لا زمن له. فهي تزف أعراسه إلينا أينما كنا، وأنى رجونا، وهي لا تبخل به، وإنما تسخو بكرم وجود، لأنها ? ببساطة ? تتنفس شعرا، وتتنسم شعرا، وتتعطر شعرا، ولا تنام إلا على وسادة محشوة بآهات الكلام. لذلك لا أستغرب حين تهاتفني في المساء لتقول: تمسي على شعر، وحين تهاتفني في الصباح لتقول: صباحك شعر. وأنا أكتب الآن هذا البورتري، عثرت على إجابة مقنعة لسؤال رددته في قرارة نفسي حين كنت في حضرتها: لماذا قرأت في عطرها، وهو يغزو حاستي السادسة، قصيدة تقول لي: إقرأني قبل تحملني النسمات إلى حواس أخرى تقدرني حق قدري ! قالو لي غير نساه غادي يعذبك ويذلك هواه ما غادي تعرفي تسبحي ف أعماقو ما غادي تعرفي طيري ف سماه ما غتهيجي أشواقو ما غتنولي رضاه. 3 شاعرة تشهق بالأشواق: الشعر لا يعطيك بعضه، حتى تعطيه كلك. هذا ينطبق على سعيدة أملال، ويبدو مفصلا على قدها. من أمائر ذلك: أ?- لأنها جعلت من حياتها، الظاهر منها والمستتر معا، صلة وصل بين العمر الفتي، والقصيدة المحلقة. ب?- لأنها تذهب يوميا إلى الشعر، وتواجه مخاطر الطريق المؤدي إليه، مرددة: قل لن يصيبني إلا ما كتبه الشعر علي. ج- لأنها لم تصبح واحدة من رعايا مملكة الشعر، إلا بعد أن آمنت أن النوايا لا تكفي للقبض على قصيدة تشهق بالأشواق. مع ذلك، إن سعيدة أملال شاعرة مقلة: لا تكثر من التغزل في الشعر حتى لا يجافيها الإبداع، وحتى تظل مصابيح زجلها مضيئة، لا تخبو لها شعلة، وحتى تكون في الموعد المناسب واللائق، حين يزف إهلال القصيد. ليس مهما عندها أن تجهش بشعر كثير. المهم عند سعيدة أن تقبض على جوهر الشعر، ولو في قصيدة واحدة. المهم عندها أن تجهر بالحب عبر صوت عال، وتحول مفرداته إلى عصافير ملونة ترتاح فوق أغصان القلوب. من تم فإن سعيدة ? هذه المبدعة ذات الأرومة الشاونية ? تودع في أشعارها الوجدانية جمرات بها تشتعل مكابدات الهوى، وعبرها ينداح طريق الغرام أمام خطوات عباراتها الفاتنة. وشاعرة بهذه الخصال، وبهذا الجمال، إذا افتخرت بالشعر يوما، صدقها الشعر دائما ! إحساس جميل جمعنا ولا كان على بالنا ف لحظة سكن قلوبنا و بصفاه غلبنا. 4 ما الحب إلا لحبيبها الأول: إذا كان لكل شاعرة أشواقها، التي بها تتسمى، فأشواق سعيدة أملال كلها مأخوذة بعشق الحياة، ومراودة الوجود والفناء فيه. الحياة - بما هي شكل وجود - تصرخ في زجل سعيدة قائلة:«وما الحب إلا للحبيب الأول». الوجود - بما هو شكل حياة - يتشامخ في أشعار سعيدة، فلا نعرف: هل تهواه لذاته، أم تهوى شعرها المستكن فيه؟ رغم عذاباتها، رغم قسوتها: تتحول الحياة عند سعيدة إلى حياة كاملة الأوصاف، تستحق المكابدة من أجل احتضانها بالشغاف. رغم إسرافه في النأي، رغم التباساته المحيرة: يغدو الوجود عند سعيدة ذلك الضامن لاستمرار خفقان قلبها، الذي به، وعبره، وفيه، يصبح للعمر طعما مستساغا، ورائحة زكية. في رسالة هاتفية، تقول لي سعيدة بوثوق كامل:«سعادتي لا تكمن إلا في حبي الصادق للحياة، ولولا الحياة لما وجدت، يا صديقي المميز». سعيدة أملال تكتب الشعر بمزاجها الخاص، وتقوله بطريقتها المميزة، فيصبح الشعر قطعة من نفسها التواقة إلى الحياة، ويغدو الإبداع هواء تتنفسه لتحقق وجودها الكياني. وبالتأكيد: سعيدة أملال لا تقترف غواية الزجل، ليقال عنها إنها شاعرة، وليرتفع منسوب غرورها الأنثوي ساعة تلتهب الأكف تصفيقا لشاعريتها. إنها تهوى الزجل، وتدخل معه في وصال حميم، لأن الإبداع يجعلها تعيش بعمق، ويضعها في موقع ترضى فيه عن نفسها، ويهبها الإحساس بأنها أقوى من مكابدات القدر. ثم إن تعاطيها للشعر، بهذا الزخم العاطفي، وبذاك الإحساس المشبوب، وبذلك القلب النابض بالأشواق، هو الذي يخول لها أن تكون في قلب الحياة، لا بالقرب منها، أو بمحاذاتها، أو عند أطرافها. قالولي غير نساه غادي يعذبك ويذلك هواه قلتلم كنبغيه وراضية بكل ما فيه ويدا طلب عمري عمري نهديه ويدا مرض حبي يشفيه ويدا عطش بحناني نرويه كنبغيه كنبغيه كنبغيه. 5 عيناها وقلبي والزجل: حين التقيت سعيدة انسقت توا إلى عينيها. عندما سمعت زجلها أعجبتني فيه الرؤية. عيناها فيهما بريق ينبض بالإيقاع الشعري، وفيهما نداء ملح من ملكوت الإبداع يأتي، وفيهما ضوء منير مساحته بحجم الآقاصي، وعمقه من عمق المحيطات. رؤيتها الشعرية لا تنام على تخوم المفردات، وإنما تستيقظ على بعيد البعيد، وترى إلا الآقاصي، وتستكشف مضامين اللحظات في ثوابتها وفي تحولاتها أيضا. بين العين والرؤية ثمة وشائج متعددة تلتقي في شخصية سعيدة: - سعيدة تكتب الزجل من عينيها الجميلتين، وتجعل من بريقهما صهوة تركبها لتصل إلى براق الشاعرية. العين هنا مدخل إلى القلب، وعنوان للروح، وسبيل إلى الهوى المعتق. - سعيدة تنتج رؤية مستوحاة من منظور القلب قطعا، فتجيئ الرؤية وهي محمولة بشغف الاستبصار، ذلك الاستبصار الذي يلمح ما وراء الأشياء، ويرسل طرفه رائدا للمناظر. - سعيدة ترى بعين قلبها، وتقرأ بنور إحساسها. هكذا تصبح العين رافدا للشعور، وتغدو الرؤية مفتاحا لما وراء الأبواب الموصدة: من أشياء، علامات، ومن حنين، إلى آخر أبجديات أحكام النظر. كان على صواب نابليون بونابرت حين قال: «الرجل نثر الخالق، والمرأة شعره.» 6 شهقات بالأخضر والأزرق: سعيدة أملال شهقة موزونة من شهقات الشعر النسوي، الذي يوقظ في مكامننا ما لا نتوقعه، ويجعلنا نصهل بالمواجيد، ونقاوم تشظيات الزمن الرجولي. سعيدة أملال أيضا: نبتة خضراء في زرقة، زرقاء في خضرة، إيناعها في مشاتل الشعر التطواني، بحجم عباد الشمس، وبرائحة الخزامى، وفي بهاء النرجس. لو قدر لي أن أرى سعيدة أملال، مرة أخرى.. لو أسعفني الحظ بسماع همسها الشعري، أو شعرها الهامس.. لو أني ألتقيها، إذن لقلت لها بجهارة الصوت، وبعلانية الإحساس، ما قاله الشاعر محمد بن وهيب: ما لمن تمت محاسنه أن يعادي طرف من رمقا لك أن تبدي لنا حسنا ولنا أن نعمل الحدقا طنجة: 8 أبريل 2011