صدرت مؤخرا ترجمة « من قال أنا»(1) باللغة الفرنسية،أنجزتها الباحثة والشاعرة سهام بوهلال(2) التي بذلت مجهودا محمودا لنقل ماعاناه وقاساه عبد القادر الشاوي من تجربة وجودية ونفسيه جراء مرض عضال ألم به، وأحس - من خلاله -كما لو كان يسير على جفن الردى . وما يسترعي الانتباه في الترجمة هو تغيير العنوان والاستغناء عن التعيين الجنسي المثبتين في النسخة الأصلية. وهو ما أفقد القارئ مفتاحين أساسيين لاستكشاف متاهات النص وأبعاده الدلالية والرمزية. وقد راهن الشاوي عليهما سعيا إلى لفت انتباه القراء إلى طبيعة النص وخصوصيته، وحفزهما على اختيار طريق وسط بين الرواية والسيرة الذاتية تفاديا للإفراط في المطابقة بين الهويات السردية أو الفصل التعسفي فيما بينها. من خلال عنوان النسخة الأصلية يتضح أن عبد القادر الشاوي يشكك في وجود مطابقة بين أناه وذاته، ويهيئ القارئ للتعامل مع طرف ثان لا يمت بصلة إلى نفسه إلا من باب الصدفة والاحتمال. ولما نقرأ النص يتضح أن الشاوي يتحدث عن ضعفه (صورته الخادعة Simulacrum) إما بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وهذا ما يربك القارئ ويثير ليديه ترددا وشكا متزايدين يعسران عليه مأمورية تعرُّف هوية السارد وإيجاد ما يماثلها أو يطابقها في الواقع. في حين ينتفي هوس التشكيك والتردد في الترجمة إذ ركزت سهام بوهلال على شبح الموت الذي هدد الكاتب في لحظات عصيبة من عمره، وهذا ما أكدته في التقديم الذي صدرت به الكتاب « لم يركز عبد القادر الشاوي في هذه الرواية على تجربته المريرة في السجن التي تحملها على مضض، وإنما على تجربة أكثر قسوة لا يتحمل البشر أية مسؤولية فيها؛ وهي تجربة مفضية إلى الموت وقريبة منه يتناوب على سردها صديق حميم للبطل وعاشقته السابقة والبطل نفسه» ص6. وما يعضد، في الترجمة، هذا التباعد بين السارد وضعفه المحتمل هو تأكيد المترجمة على السجل الروائي واستبعاد الطابع التخييلي الذاتي الذي حرص عليه الشاوي باعتباره إستراتجية في إعادة تشخيص الماضي الشخصي وتغيير الهويات السردية. كان الكاتب سباقا إلى تصنيف بعض أعماله ضمن ما يصطلح عليه بالتخييل الذاتي، وذلك وعيا منه بملاءمة المفهوم وقدرته، رغم اعتياصه وزئبقيته، على استيعاب تجاربه الحقيقية والمفترضة، واستيعاب مطامحه المنفلتة وأحلامه الوهمية. جرب المفهوم في « دليل العنفوان( نشر الفنك،1989 )» قبل أن تتحدد معالمه وتتضارب الآراء حول هوتيه ومنزلته، ثم جنس عمليه ( دليل المدى(الفنك، 2003) ومن قال أنا) الفنك ،2006)) ضمن التخييل الذاتي سعيا إلى إبراز كيف يتداخل الواقع والتخييل في صنع « الحقيقة الداخلية» للمؤلف، والنفاذ إلى أعماق اللاشعور لزحزحة ما تراكم فيه من أحلام محبطة واستيهامات مغفية، ومحاكمة الذات والآخرين في غفلة من سلطان العقل وتوجيهاته الصارمة. لم يتحدث الشاوي عن ذاته بطريقة مباشرة إلا في الفصل الأخير مبينا سر انجذابه إلى كتابه « دليل العنفوان» ( يجد فيه راحته المؤقتة) وإلى الفتاة الشقراء المشرفة على ترتيب زيارات المتوافدين على المصحة لمعاينة حالته الصحية عن كثب، ومعترفا بأنه لم يجن من الحياة الدنيا إلا الإحباطات والخيبات التي صيرته، مع الزمن، عليلا ومصابا بمرض خطير، وداحضا تفسير منار السلمي لنهاية علاقتهما المعقدة، ومرهصا بنهايته بسبب إجراء عملية لاستئصال ورم السرطان« لم يبق أمامي إلا الموت الزؤام أو الحياة الكريمة، لأنني كنت على مشارف المرحلة الأخيرة التي يستسلم فيها الطبيب الجراح، بكل ارتياح، بدنك المتهالك» ص103. أما في الفصول الأولى ، علاوة على المقدمة، فقد أشرك السارد أصواتا محتملة لمكاشفة ذاته، ومساعدته على فهم ما غمض واعتاص في سجل حياته، ومحاسبة التجارب السلبية التي اكتنفت ماضيه الشخصي. واضطر إلى توزيع الأصوات المختلفة على النحو الآتي: أ- أسند كتابة المقدمة إلى صديق حميم ( ضعفه أو شبيهه) لإبراز الاعتبارين اللذين تحكما في كتابة المؤلَّف برمته. يتمثل الاعتبار الأول في كون عبد القادر الشاوي عود قراءه على المغامرات الجميلة. وفي مقدمتها مغامرة سرد جزء من تمزقاته الوجودية بكل اللغات والأحاسيس الممكنة. ويتجلى الاعتبار الثاني في كون عمله يشكل نقدا نابعا من مرارة خاصة في رؤية الأشياء ومقاربتها والتعليق عليها، ومتحللا من جميع القيود المفترضة كأنه يكتب مرثاة وداعه الأخير. ب-ينطلق عبد القادر الشاوي من تجربة مرض السرطان لمساءلة وجوده وتجربته في الحياة. وقد اضطر إلى إشراك أصوات أخرى ( الصديق الحميم أحمد الناصري، العاشقة السابقة منار السلمي، زوار المصحة) لمعاينة ذاته من زوايا ومنظورات مختلفة، واكتشاف أوهام الوجود إبان استكانته إلى ذاته ( استراحة المحارب) وتأمل قوتها وضعفها قبل الانخراط في تجارب ومغامرات جديدة. فكل صوت يشكل مرآة تعكس جانبا من ذاته (النضال والحب والواجب والاستيهام والصراع بكل أشكاله النفسية والاجتماعية والوجودية). ولما نعيد تركيب شظايا هذه المرايا تبرز بعض إرهاصات حقيقته الداخلية، وتتمثل في خجله وانعزاله وإحجامه وحبه لذاته. وهي تدحض الصورة التي يتوهمها الناس عنه أو توحي لهم بتكبره المصطنع « لم يكن، بالطبع، تكبرا مصطنعا بل هي نفسيته على تلك الحالة من الابتعاد والانكفاء فقط» ص26. ج-يزاوج الشاوي في عمله بين الواقع والخيال، والذاتي والموضوعي لتوجيه النقد للأوساط التي تناصب العداء للصوت المختلف والمتنوع باعتباره خارج الجماعة، وممارسة النقد الذاتي بكلمات وأحاسيس تستمد نسغها من جراحه وكبواته وآلامه. فهو، لما يسترجع صورا متشظية من حياته تحت وقع تألمه من المرض الذي استبد بجسمه عام 2005، يعاين التصدعات التي تشق كيانه، وخسائر الأيام التي خلفت آثارها في نفسيته. د-يتحرر الشاوي من مواضعات الميثاق السيرذاتي لإطلاق العنان لخياله واستيهاماته واستبطاناته، والكشف عن آلامه وأحلامه المحبطة، والصدع بالمشاعر المرهفة التي انتابته وهو على مشارف توديع الحياة، وتوجيه اللوم لمن يهنأ برحيله المفاجئ. وهو، بهذا الصنيع، يتعامل مع ذاته كما لو كانت شخصية خيالية تتفاعل مع أصوات مفترضة لفهم سر الوجود وفك ألغازه المحيرة. لم يكن غرضنا فحص الترجمة وإنما بيان ما يمكن أن يترتب على بعض إجراءاتها (وخاصة ما يتعلق بالاستغناء عن بعض المؤشرات أو استبدالها) من تغيرات وتحويرات دلالية وتداولية. وهذا لا ينفي - في حال تسرب مؤثرات ثقافية وتلفظية وتخمينات تأويلية- من اعتبار الترجمة قراءة من القراءات المشروعة والممكنة شريطة عدم معاكسة المعنى أو التصرف في مقاصده. ويمكن، مما تقدم، أن نستخلص ما يلي: 1-قد تنقل الترجمة العمل من محفل تداولي وثقافي إلى آخر، وهو ما يؤثر، لا محالة، في مقروئيته، ويفرض تعاملا مغايرا معه. لم أنسق وراء الترجمة، رغم ما بُذل فيها من جهد فكري ولغوي، وإنما ظللت وفيا للنسخة الأصلية التي تجلى مدى وعي الشاوي بألاعيب الكتابة وخدعها للتعبير عن تجربة يتقاطع فيها الحقيقي بالوهمي، وينحسر فيها ميثاق الحقيقة ليفسح المجال لتوطد استراتجية الإبهام. 2-استعان السارد بالحكي لمقاومة شبح الموت، واسترجاع نكهة الحياة ومتعة اللحظات الهاربة والتأملات الموحية. وهكذا أضحت للكتابة سلطة سحرية تبعث أحلاما من مراقدها، وتزرع طاقة جديدة في الروح وتحفزها على استعادة التوازن في الحياة، والبحث عن النغمة المفتقدة. 1 - عبد القادر الشاوي، من قال أنا تخييل ذاتي، الفنك، 2006. 2 -Abdelkader Chaoui, Le marchand de la mort, édition Altazor, Chilé,2010.