كيف هي الحياة تحت حكم القذافي؟ كان ذلك قبل شهرين فقط، ولكنه يبدو بعيدا جدا. الحياة في بنغازي أصبحت كل أيامها تتولى على منحدرات الحياة والموت دون توقف، الحياة في ظل القذافي؟ زياد يفرك رأسه مبتسما. على بطاقة هويتي كتب أنني ولدت سنة 1973، ولكن عمري شهران، كل يوم يساوي سنة جديدة، كل صباح لا أعرف ما يخبئ لنا الليل. أين سأكون؟ هل سأكون حيا، أنا، عائلتي أو أصدقائي؟ ثم تعود الصور متقطعة مثل حلم - كابوس- يقبض عليها من الطرف - عيناه تتراقصان عدة مرات، جبينه يتشكل بين رأسه الأصلع ولحيته الداكنة، ومضات تخترق عينيه العسليتين، يتكشف اللوح شيئا فشيئا. »أتذكر أنه عندما كنت تلميذا في الابتدائي، نظمنا مظاهرة لإحراق الكتب الإنجليزية واللغات الأجنبية. كانت فترة ر هيبة سنوات 80، حتى الآلات الموسيقية العربية، القيتارة، البيانو..تم إحراقها. كل أسبوع،وعوض دروس التربية البدنية، كنا نتابع تمارين شبه عسكرية وكنا نتعلم كيف نتعامل مع الكلاشينكوف. لم يكن عمرنا يتجاوز عشر سنوات«. حريات تتقلص الحياة في ظل القذافي تشبه حلما غريبا يجد سكان بنغازي اليوم صعوبة في تذكره. عن سؤال »كيف كانت الأمور تسير؟« كل هذا الخليط يتضبب، ينفلت، الليبيون لم يتعودوا على الكلام, فبالأحرى الحديث في السياسة أو في النظام. تفكيك نظام القمع، تفسير آلياته ودواليبه، كل هذا ينتمي لثقافة سياسية ماتزال غائبة، لابد من سنوات لتتضح الأمور أكثر. وهضم وفهم ما جرى، وكيف كانت الأمور تتم، لأن الدكتاتورية التي أرساها القذافي مازالت تستعصي على الفهم، دكتاتورية شاملة لكنها ليست كلية، صارمة دون أن تكون ممنهجة، ليبيا القذافي لم تكن تشبه لا العراق ولا صدام حسين- أقل دموية وأقل تأطيرا - ولا الاسبانيا أنفر هودجا أو كوريا الشمالية - أقل انقطاعا عن العالم الخارجي - و لا كوبا - الصحة والتعليم فيها أقل جودة. على أقصى تقدير رومانيا بشاوشيسكو, لكن ليس مثلها تماما. ومحاولة فهم كيف كان يشتغل نظام القذافي رهين بنسبة كبيرة بسن الشخص الذي نتحدث إليه. عموما، بالإمكان التمييز بين فترتين في هذه الأربعين سنة من حكم العقيد، قبل وبعد 1990. عبد الله الهنيد كان عمره 10 سنوات عندما وقعت الثورة »ثورة 1969«. في الواقع يفضل استعمال لفظة »الفاتح »بدل الثورة الذي يخص به انتفاضة 17 فبراير ضد القذافي, »كنا سعداء لأن الشعب كان يحب جمال عبد الناصر ولا يقبل القواعد الأمريكية والبريطانية في البلاد. كان الناس يرغبون في شيء مغاير، الليبيون أناس بسطاء جدا، لا يفهمون شيئا في السياسة، ومن يفهمون فيها إما تمت تصفيتهم أو استقطبهم النظام«. عبد الله الهنيد ابن فلاح من درنة في قلب الشرق الليبي. البلد كان و قتها غارقا في التخلف، بعد حصوله على الباكالوريا تم إرساله إلى مالطا لإتمام دراسات عليا في الإلكترونيات, قام بتداريب في الولاياتالمتحدة وبريطانيا، عندما عاد سنة 1979 تم إلحاقه بالإذاعة الوطنية في بنغازي. »وقتها كانت الدولة هي التي تختار لك تعيينك، لم يعد للقطاع الخاص وجود.« في السنة الموالية تم إرساله إلى فرنسا من أجل التخصص. قضى بها 15 شهرا وعاد من إقامته بها. يحب اللغة الفرنسية والقبعات التاريخية على طريقة جون غابان. »»عندما عدت أصبحت الحياة صعبة. نفذ القذافي تصوره بحلم الشعب »الذي وضع مبادئه في الكتاب الأخضر، الناس لم يعرفوا أي وجهة يأخذون. المحلات التجارية الخاصة اختفت, الملكية الخاصة أسقطت ومن كان يسكن دارا أصبح صاحبها. الحياة صعبة حتى الخضر و اللحوم أصبحت نادرة، كل شيء أصبح معقدا و يصعب اقتناؤه، معجون الأسنان، الصابون..« حتى خطابه الشهير في الزاوية سنة 1974، الذي اعلن فيه المبادئ التي ضمنها في الكتاب الأخضر، كان القذافي يلهب اللبيين. بعد ذلك حدث الشرخ، اكتشف المثقفون القلائل بقلق أن الحريات تتقلص. اضطرت الجرائد الخاصة للإغلاق, رفاق الدرب في الانقلاب يتعرضون للإقصاء الواحد تلو الآخر. ولإرساء »حكم الشعب« وضع القذافي اللجان الشعبية. عبد القادر قدورة، أستاذ القانون العام في جامعة غربون بنغازي. وبهذه الصفة، كان هذا الأستاذ البالغ من العمر 60 سنة، والذي يتحدث الفرنسية، يدرس القانون الدستوري وهو أمر غير معقول تماما في بلد ليس له دستور, » وبطبيعة الحال، لم أكن أتكلم عن الطريقة التي تسير بها الأمور في ليبيا. كنت أفسر كل نظام, النظام البرلماني، النظام الرئاسي، الفرنسي والأمريكي والإنجليزي والسوفياتي إلخ.... وفي النهاية دائما كان لابد من تأكيد مساويء وفشل كل واحد من هذه الأنظمة، ونظرية الجماهيرية وهي كلمة ابتدعها القذافي تعني جمهورية الجماهير - يفضل قدرة ترك شرحها لأتباع النظام ,بعض المختصين في شرح الكتاب الأخضر »إنهم أساتذة لا يعرفون تدريس شيء آخر ولا يعرفون إلا الكتاب الأخضر، وبطبيعة الحال كانت كل الامتيازات ومناصب المسؤولية مخصصة لهم«. اللجان الثورية في الجامعة يتم تعيين العميد من طرف اللجنة الثورية، التي هي نفسها منتخبة من طرف الأساتذة »ولكن ذلك لم يكن يتم كما يجب. في الواقع كل شيء كان مزورا، كل شيء معد مسبقا. من يتم انتخابه يكون قد عين من فوق. و لا يتم اختيار شخص لا كفاءة له ومن يتحكمون في الخيوط يظلون والامتياز الوحيد في عهد القدافي هو أنك لست مجبرا على قبول مناصب المسوؤلية», يقول قدورة. نظام اللجان الشعبية لم يكن يتماشى مع رغبات القذافي. وعندما واجه موجة من الاحتجاتع في الجامعة سنة 1977 و1978، رد بقمع شرس وبتسريع وثيرة ثورية على طريقة ما وتسي هونغ تقريبا »عندما شكل اللجان الثورية، عشنا ما يشبه الثورة الثقافية في ا لصين» يتذكر قدورة، كانت هذه اللجان مثل الحرس الأحمر« للنظام، شباب بدون تكوين، كلهم ولاءات لشخص معمر القذافي, يهم كل السلطات للتدخل والمطاردة والاعتقال وتحويل حياة أي شخص يشبه في ولائه للثورة، إلى جحيم »شرطة سياسية أصبحت مع مرور الوقت فئة من المنتفعين والمحظوظين«. زياد يتذكر كيف تم اعتقاله وهو في الجامعة «عن طريق معارف »كانوا يقترحون علي الإلتحاق باللجان الثورية، كانووا يقولون لي» »لن نقوم بأي شيء، فقط الاخبار بما ترى وما تسمع، بالمقابل، سيتم تسهيل الامتحانات وسيكون بإمكانك الحصول على منح الدراسة في الخارج، وبغرفة في الحي الجامعي، ستحصل على أجر صغير، ولن تكون حتى مضطرا لحضور المناسبات العمومية الكبرى، لم أقل، لأن ذلك لم يكن يهمني«. الحكم من خلال الفراغ في بنغازي أصبح بعض قادة اللجان الثورية مشهورين، بدءآ بهدى بن عمور التي تميزت ذات يوم بكونها التصقت بأرجل أحد المشنوقين في بداية سنوات 80 لتتأكد أنه شنق ومات. منزلها الواقع في أحد الأحياء الراقية في المدينة أحرق من طرف المتظاهرين منذ الأيام الأولى للانتفاضة في فبراير. وبشكل أقل إثارة ترك مسؤولون آخرون في اللجان التورية ذكريات سيئة. صلاح ، مفتاح بكار باستثناء الرؤساء لم يكن من هم أقل يصلحون لشيء، كانوا مثل الطفليات عندما كان القذافي يزور بنغازي، كانوا يأتون إلى مكتبي بالاذاعة ويصادرون كل السيارات يتذكر عبد الله الهنيد. في نهاية الثمانينات عندما خفت المدى الثوري وبدأ القذافي يرخي قبضته أصبحت اللجان الثورية طبقة من الانتهازيين والأغنياء، فقد كان النظام قد خرج من 8 سنوات حرب مع الجيش التشادي المدعوم من فرنسا بدون انتصار أو شرف وتحت الضغط الدولي بعد تفجير طائرة لوكربي 1988 وطائرة دي سي 10 في النيجر 1989 والضربات التي أمر بها رونالدرديغان التي كادت تودي بحياة القذافي. بدأ النظام يخفف من ضغطه على المجتمع خاصة وأنه لم يكن هناك شيء مهم يمكن مراقبته أو تفكيكه، كل شيء كان مدمرا، يقول الأستاذ عبد القادر قدورة, »القذافي حكم بالفراغ، لقد دمر كل المؤسسات الدينية، الجامعة عالم الأعمال, لقد قلب قيم المجتمع وكان يريد إسقاط كل ما كان قائما قبل مجيئه.خمسة من اخوانه السبعة يعيشون في الولاياتالمتحدة، حيث يدرسون في الجامعات وكذلك أخته التي تعمل طبيبة كل الذين فهموا وتمكنوا من ذلك فروا من البلاد وبنغازي ثاني مدن البلاد ظلت في حالة عدم اكتمال دائم, ولم يتحرك النظام وبدأ في بناء مستشفى ومساكن ومرافق رياضية إلا قبل سنتين أو ثلاث سنوات، لكن كان الوقت قد فات لمحو سنوات الإحباط. عمليات تمشيط واسعة يقول سكان بنغازي كل الاموال تذهب إلى طرابلس. رمضان جبرو67 سنة وينتمي للبورجوازية القديمة. في المدينة يستقبل الوفود في بيته الفاخر يقول, القذافي كان يريد تحويل كل الليبيين إلى موظفين يبلغ عددهم اليوم مليون, لم يكن اشتراكيا حقيقيا ما كان يريده هو تفجير المجتمع حتى يبقى تحت سلطته عائلته التي تنتمي إلى البورجوازية البنغزية, فقدت شركاتها وأراضيها يتكلم الانجليزية والفرنسية بشكل جيد، فتح مكتبا خاصا للترجمة »في كل الاحوال لم يكن القذافي يحب بنغازي، يحتفظ بذكريات سيئة من مقامه سنتين في الاكاديمية العسكرية الملكية بالمدينة.« نخبة المدينة اقصيت, سوق الذهب اغلق مثل الابناك الكبرى, حتى قبر عمر المختار بطل الكفاح الوطني ضد المستعمر الايطالي ثم نقله خارج المدينة على بعد 50 كلم. جمال غزالي يؤكد, هو حفيد الرجل الكبير ومن ضمن حلقة اصدقاء الاستاذ مثورة, يزوره باستمرار, في عهد حكم القذافي كان يلتزم الصمت. في نهاية سنوات 70 تم القضاء نهائيا على التجارة الحرة وتم تعويضها بنظام التعاونيات التشاركية [المنشئات] لكن لا شيء كان يسير بشكل جيد وهذه المنشآت كان ينخرها الفساد, »كان والدي ملزما ببيع بضاعته بثمن تحدده الدولة. تطور نظام السوق السوداء, يتذكر عبد الله الهنيد في كل سنة، وقت الحصيلة السنوية،، كانت الحرائق تندلع في المخازن كما لو ان ذلك تم بالصدفة, وكان مدراء التعاونيات من خلال ذلك يغطون على سرقاتهم«,تم تعويض المنشئات بمجمعات، محلات كبيرة للدولة. لكن لم يطرأ اي تحسن يتذكر زياد ان ملابس الاطفال لم تكن متوفرة الا في نوعين, قياس كبير او قياس صغير. في بعض الاحيان تجد زوج احذية بمقاسين مختلفين وهو ربما ما حفزه على فتح متجر خاص بملابس النساء كلها مستوردة. هذا الانفتاح الاقتصادي لم يحدث على الفور. كان لابد من عشر سنوات حتى ينتعش فعلا هذا التحرير وكانت سنوات 90 كلها تتميز بالحاضر المفروض من طرف الاممالمتحدة في اعقاب رفض القذافي تسليم المسؤولين عن تفجير طائرة لوكربي. «لقد وضعنا تحت جلبابه بهذا الحظر, يقول عبد القادر قدورة. والواقع أنه لم يكن حظرا على الطريقة العراقية, لم يكن بإمكاننا استخدام الطائرة لمغادرة البلاد لا غير. و بما أن القطاع الصحي كان في وضع كارثي, فإن الأمر كان مكلفا لجميع من كان يذهب للاستشفاء في تونس أو مصر». «هذا الحظر كان يغضب القذافي و أدى جميع الليبيين ثمن هذا الغضب» يقول رمضان جربو.انهارت قيمة الدينار أمام الدولار بينما كان زبناء النظام يتاجرون في العملة بالسوق السوداء, و هكذا حلت أساليب المافيا محل الدكتاتورية المحض. و بفضل الأموال و العلاقات, كان من الممكن إيجاد تواطؤات مع النظام, باستثناء الإسلاميين و المشتبه في انتمائهم لهذا التيار. و انطلاقا من تسعينات القرن الماضي, أصبح الإسلاميون العدو اللدود للنظام, و حلوا في الزنازين التي أفرغها القذافي من المعارضين السياسيين سنة 1989 . و أصبح شرق البلاد,المرتبط بالملكية السنوسية و المتمرد, مستهدفا بالقمع الممنهج. و خلال سنتين,تحولت بنغازي بشكل مطرد إلى مسرح لعمليات تمشيط واسعة تتحول في بعض الأحيان إلى مواجهات مدينية. يتذكر زياد أحد رفاقه بالجامعة, الذي أطلق لحيته و أصبح يقصد المسجد فاختفى بين عشية و ضحاها. «علمت بعد ذلك بوقت طويل أن رفيقي توفي في سجن أبو سليم». في 1996 تم القضاء على 1200 معتقل بهذا السجن في بداية تمرد. لم تعرف عائلات الضحايا أي شيء,إلى غاية الإعلان الرسمي عن ذلك سنة 2003 من طرف سيف الإسلام. هذا الأخير الذي كان يحب أن يظهر كليبرالي حداثي, هو من أعطى الزخم للإصلاحات التي حدثت في العشرية الماضية. دكتاتورية عبثية: في العام 1999 , غادر عبد الله الهنيد الإذاعة و التلفزة الرسمية من أجل إنشاء شركة صغيرة للهندسة في مجال الاتصالات بين الإذاعات المحلية, و أبرم بهذه الصفة عدة عقود مناولة . و «بما أن هذا القطاع كان تحت سيطرة محمد الإبن البكر للقذافي, فلم يكن من الممكن القيام بصفقات ذات أهمية دون المرور بواسطة عائلة القذافي». ما يغضب عبد الله الهنيد أكثر هو أن البلاد ترسو فوق «بحر من البترول و الغاز» و من «المفروض أن تكون الآن غنية مثل دبي, في حين أن الشباب يستميتون من أجل الوصول لآخر الشهر و من أجل إيجاد سكن أو أجر كريم بل العثور على عمل». أما زياد فيتذكر خصوصا التسلط الذي يسود عالم الأعمال: «الضربة الأولى,لم أعد أستطيع الاستيراد من لبنان, الضربة الثانية, لم أعد أستورد من تركيا. و ليس مسموحا مطلقا التساؤل عن السبب, و إلا فمرحبا بالمتاعب... فإجراءات تعشير السلع المستوردة قد تستغرق ثلاثة أسابيع كما قد تستغرق ثلاثة أشهر. « و «في النهاية ينبغي إعطاء البقشيش حتى بالنسبة للأمور العادية». و يضيف عبد الله «كل شيء عبثي و معقد. هذا النظام يقوم بكل شيء لكي تصل في النهاية إلى درجة تكره فيها نفسك». و الواقع أن الأمر يتعلق بدكتاتورية عبثية, حيث تعمل فقط الأجهزة الأمنية, التي تجسدها «الكتائب» هذه الألوية المسلحة الشنيعة التي قضمت الجيش بشكل تدريجي و استقرت في الثكنات وسط المدينة.و في المقابل فإن القمع يمكن تفاديه بواسطة شبكة من الروابط العائلية و الاجتماعية, التي تسمح بتفادي إرسال التقارير إلى طرابلس, العاصمة حيث يتقرر كل شيء. لم يتم استدعاء سالم العبار رئيس تحرير «أخبار بنغازي» إلى الأمن سوى مرة واحدة, و في هذه المرة لم ينل سوى إنذارا. أما صحيفته التي تصدر ثلاث مرات أسبوعيا, فهي أول صحيفة خاصة حصلت على الترخيص بالنشر و ذلك سنة 1996. و إذا كان قد استدعي سنة 2007, فبسبب مقال يفسر أن سكان بنغازي غير راضين عن الاتفاق المبرم الذي سمح بإطلاق سراح الممرضات البلغاريات. و يقول سالم العبار «كنا نعالج كافة المواضيع الاجتماعية. لم يكن مسموحا الكلام فقط في السياسة و لا في الدين و لا عن النظام السابق. و كنا نحترم الخطوط الحمراء.أما الممنوع الكتابة عنها منعا مطلقا فهي العائلة الملكية» في إشارة تهكمية لعائلة القذافي. و هذه القاعدة لم تكن تقتضي الامتناع عن انتقاد القذافي و عائلته, بل كانت تقضي بالامتناع أيضا عن إظهار أو تلميع أي شخصية أخرى . «لم يكن سواه هو» تقول خديجة سعيد التي تهتم بتصميم الصحيفة. هذه الصحفية البالغة 41 سنة من العمر امتنعت عن الكتابة «لأني لا أستطيع الكتابة بحرية...فالقذافي كان كل شيء: المهندس الأكبر و الشاعر الأكبر و هو الأول في كل شيء, لم يعد الأمر محتملا» إلى درجة أن المعلقين الرياضيين كانت لهم تعليمات بعدم ذكر أسماء لاعبي الفريق الوطني لكرة القدم حين كان المنتخب الليبي يجري مباراة من المباريات الدولية, ربما بطلب من سعد القذافي أحد أبناء العقيد السبعة الذي قام بمشوار قصير و فاشل في كرة القدم بإيطاليا. و كذلك كان حال الوزراء الذين لم يكونوا يذكرون بأسمائهم بل بصفاتهم. و على غرار باقي دول العالم العربي لم يكن أي أحد يجرؤ على ذكر رئيس الدولة علنا «حتى في البيت كنا نقول هو كما لو أنه سيخرج من الجحيم. كنا نحذر من الجميع, لم أكن أتكلم حتى إلى جيراني. و منذ الثورة,تقول خديجة بحماس, استعدت البصر و الشم. أصبحنا نبتسم في وجه بعضنا البعض و نتبادل التحية و نتعاون..» بالرغم من الرقابة فقد غير وصول التلفون المحمول سنة 2001 و الأنترنت سنة 2005 ,حياة من يستعمل هاتين الوسيلتين, أي الشباب و المثقفين. و المفارقة أن الشباب , و هم الذين قاموا بالثورة هم الفئة التي عانت أقل من غيرها من النظام الذي أصبح أقل قسوة خلال العشرية الماضية بتأثير من سيف الإسلام. و رمضان جربو يعرف هذا الأمر أكثر من غيره لأنه دعي غير ما مرة لكي ينضم لفريق سيف الإسلام, و هو يحكي قائلا : «لقد استغللت جيدا العلاقة التفضيلية التي كانت لي معه , ومنذ 2003 بدأت أكتب مقالات تحت إسم مستعار في مواقع المعارضة بالمنفى» و يعترف رمضان أنه منذ 2007 نشرت هذه المقالات «التي ظلت في حدود المقبول» في صحيفة «كورينا» و هي يومية أسسها سيف الإسلام « لكن في لحظة من اللحظات,استولى عليها مسؤول كبير من اللجان الثورية, فتوقفت». كما شارك رمضان في لجنة من خبراء المالية العمومية و الفساد لكنها أقبرت بسرعة. شيء ما تكسر: يبدو أنه خلال السنوات الأخيرة, بدأ الصراع بين المحافظين و التحديثيين في قمة الدولة. و قد استفاد البعض من هذا الصراع, لكن الكثيرين ملوا من هذه السياسة , خطوة للأمام و خطوتان للخلف. بينما استفاد البعض من ريح الليبرالية هاته: فالاستاذ قدورة أعد كتابا حول القانون الدستوري لم يتمكن من نشره...إلا في عام 2009. لم يكن الكتاب يتضمن أي انتقادات لكن في بلد بدون دستور لا يجوز الحديث عن الدستور. يحكي قدورة :» كنت قد تقدمت بطلبي الثالث و تم رفضه, و في يوم من الأيام, في طرابلس, وضع الموظف خاتم الموافقة الضروري, لم أفهم لماذا فاعتقدت أن الموظف لم يقرأ الكتاب» وباعتباره مراقبا نبيها, شعر رمضان جربو أن شيئا ما قد تكسر, لكنه لم يتوقع أبدا أن تخرج حركة جماهيرية بقوة حركة 17 فبراير. «في 2006 حدثت مظاهرة ضد الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي (ص) أمام القنصلية الإيطالية. حين بدأت الشرطة في إطلاق الرصاص الحي, تحول الشباب إلى شبه مجانين . حطموا كل شيء و طردوا رجال الأمن. أصبحت المدينة تحت سيطرتهم لكنهم لم يعرفوا ما يفعلون بها, بسبب غياب القادة السياسيين» هذه الثغرة جرت وراءها ثغرات أخرى.فقد ألفت أمهات المفقودين في سجن أبو سليم التظاهر مساء كل سبت للمطالبة بالعدالة, و يحكي قدورة قائلا : «كن يبقين هناك, صامتات, تماما مثل أمهات ساحة مايو في الأرجنتين, أمام المحكمة. و كان المارة يتضامنون بصمت أيضا. و في 15 فبراير علمت الأسر أن محاميهم قد تم اعتقاله. و هكذا بدأ كل شيء». عن جريدة «ليبراسيون» الفرتسية