لم يتحقق التخلي عن اقتصاد الريع، ولكن تحقق ترسيخه اعتمادا على تقنيات جديدة تساير مستجدات الوضع وتؤمن للمستفيدين تكديس المزيد من الثروة والهيمنة على الأنشطة التي صارت، باسم التحرير والشفافية والمنافسة، تخضع لمعايير يكون المتحكم فيها هو الرخصة الإدارية, استمرار التعامل باقتصاد الريع بعد مرور أكثر من 50 سنة عن الحصول على الاستقلال، فضح خرافة تكريم المقاومين ومن أسدوا خدمات جليلة للوطن، وتوالت الوقائع لتؤكد أن هذه الخرافة أساءت للمقاومة وأساءت في نفس الوقت للمهنية في القطاعات الحيوية وخاصة منها النقل واللوجستيك والصيد البحري ومقالع الرمال. ما أكثر المقاومين الذين وافتهم المنية بعد أن قضوا مرحلة الشيخوخة في البؤس أو الاتكال على مساعدات أهلهم وذويهم، وما أكثر الذين لا يزالون في ريعان شبابهم، وربما يجهلون كل شيء عن المقاومة وجيش التحرير، ومع ذلك يتوفرون على رخص «كريمات» تجعلهم من «علية القوم» وتحولهم إلى مصادر تمويل قادرة على التحكم في الانتخابات وفي نتائجها، وإلى مراكز نفوذ قادرة على التحكم في المشهد السياسي. لم تعد الانتقادات الموجهة لاقتصاد الريع مقتصرة على الحالات التي كان فيها «تكريم» مجموعة من المقاومين الحقيقيين ب «كريمة» لخط واحد لنقل المسافرين عبر الحافلات، بينما الشغالات في بيوت بعض الوجهاء ومجموعة من «الشيخات» يحصلن على رخص متعددة مقابل الخدمات التي «يسدونها»، ليس للوطن وإنما للوجهاء، لقد صارت هذه الانتقادات تتجه بشكل خاص إلى الرخص التي سلمت للمستفيدين من الحق في مزاولة بعض المهن التي «غلفت» مساوئ تحرير قطاع النقل الطرقي وخففت من الضغط الذي واكب المصادقة على مشروع مدونة السير، كما صارت تتجه إلى الصيغة التي اعتمدت في توزيع أراضي «صوديا» و «صوجيطا»، أما قطاع العقار فتحول، بدون منازع، إلى «منجم» يكون الحصول فيه على «الرخص» أشبه بالعثور على «أحجار كريمة», أيهما أحسن؟ الحصول على «كريمة» أم الحصول على شهادة عليا؟ الجواب على هذا السؤال لا يحتاج إلى صرف المزيد من الوقت في الساعات الإضافية المؤدى عنها كما أنه لا يحتاج إلى تعميق المعرفة والتكوين في المراجع الورقية والرقمية، فتجربة حملة الشواهد المعطلين لا مثيل لها في سجلات حملة «الكريمات»، لأن من يقضي كل وقته في إنفاق الأموال التي لم يقم بأي مجهود من أجل الحصول عليها، ليس كمن يفني شبابه في التحصيل العلمي ليجد نفسه في آخر المطاف في مواجهة القوات الأمنية لمجرد أنه يطالب بمنصب عمل يسخر فيه ما تلقاه من معرفة في خدمة الوطن, لا يمكن للمرء أن يكون حاميا لاقتصاد الريع ومساهما في ترسيخه وتطويره، ويكون في نفس الوقت ساهرا على تكريس علاقات التحرير والشفافية وتكافؤ الفرص، فبعد أن التحقت الأغلبية الساحقة من «المقاومين» بالرفيق الأعلى، لم يعد من المقبول التذرع بمنطق مكافأة من يسدون خدمات للوطن لفرض علاقات ترهن مستقبل قطاعات إستراتيجية، ذلك أن منطق تكافؤ الفرص يفرض مكافأة كل المغاربة كل حسب نوعية الخدمات التي يسديها لوطنه، وحتى إذا كانت هناك استثناءات فإن المكافأة يمكن أن تكون نقدية أو عينية لا تخل بمعايير المنافسة الشريفة والتحفيز على المزيد من العطاء والمثابرة. كان من المقرر أن يكون تحرير النقل الطرقي للبضائع منطلقا لتحرير قطاع نقل المسافرين، ولكن التناقضات الصارخة القائمة بين مضامين القانون وبين تصريفها في التطبيق، أفلحت في التقليص من قيمة «الكريمة» الخاصة باستغلال الشاحنة، ولكن ذلك كان على حساب المقاولات الصغيرة والمتوسطة التي تهاوت الواحدة بعد الأخرى كأوراق الشجر في فصل الخريف، فعوض أن تتجه إستراتيجية النقل واللوجيستيك نحو تمكين المقاولين الصغار والمتوسطين من جني ثمار الاستثمار العمومي في الأوراش الكبرى للنقل ما بين 2008 و 2012 بحوالي 120 مليار درهم منها حوالي 51 مليار للطرق، ونحو بلوغ الأهداف الاقتصادية والاجتماعية فإن منطق العصرنة وإدخال مهن جديدة خدم مصالح مقاولات كبرى متخصصة في اللوجيستيك مثل ماييرسك لوجيستيك ، جيوديس، كرافلو بالإضافة إلى الشركة الوطنية للنقل واللوجيستيك، كما خدم مصالح الذين تحولوا من معارضين شرسين لمشروع مدونة السير إلى مدافعين عنه، فمنطق «الشفافية» الذي بخس قيمة «الكريمة» الخاصة بالنقل البري عبر الشاحنات لم يكن له أي انعكاس على قيم حافلات النقل الطرقي التي حافظت على مستوياتها إلى أن أفرزت تظاهرات شباب 20 يناير مناخا يوحي بأن التحولات المرتقبة قد تضع «الكريمات» في مقدمة المجالات التي سيشملها التصحيح. الصيغة التي اعتمدت في تطبيق الخيارات الإستراتيجية قلصت من قدرات المقاولات المغربية على خوض غمار المنافسة وبذلك تراجعت حصة المغرب من النقل الدولي فيما صار المستفيدون من رخص مزاولة المهن الجديدة يجنون أرباح طائلة على حساب مستعملي الطريق وعلى حساب مجموعة من المهن التي كانت تمارس بشكل تقليدي، وخاصة منها الفحص التقني الذي استهوى بعض «النقالة» الذين كانوا من قبل معارضين لسياسة الوزارة الوصية، فرغم أن إدخال تقنيات رقمية على نمط الفحص، فإن المناخ الجديد الذي اغتنى منه الوافدون على ميدان الفحص، لم يغير من الواقع شيئا، إذ ما أكثر العربات التي تتعرض لأعطاب ميكانيكية خطيرة مباشرة بعد اجتيازها بنجاح للاختبار المعتمد على تقنيات عصرية باهظة القيمة، فتعويض الكفاءة المهنية بالكفاءة المالية «الكافية للحصول على رخصة خطين أو أكثر للفحص التقني» شكل امتيازا من الجيل الجديد ومصدرا للحصول على مداخيل تفوق بكثير القيم المعتاد تحصيلها من «الكريمة» التقليدية. مهما اختلفت أوجه الامتيازات فإن المستهلك هو الذي يتحمل كلفة الخلل، وهذا الوضع ينطبق على أسعار كل السلع التي تعتمد على النقل الطرقي مثل الخضر والفواكه، كما ينطبق على نقل المسافرين، أما المثال الصارخ فيتجلى في النقل عبر سيارات الأجرة حيث يعاني الركاب من الفوارق الشاسعة في مستوى الخدمات بين السائقين الملاكين للسيارة و «الكريمة» وبين السائقين الذين يكون عليهم أن يحصلوا أولا على «مستحقات» مالك الكريمة والسيارة وكلفة المحروقات ليشرعوا بعد ذلك في تجميع القسط الذي سيؤول إليهم، وبعد أن قوبلت مطالبهم المتكررة بتعويض نظام «الكريمة» بنظام ضريبي شفاف يؤمن للدولة تحصيل مبالغ مالية تزيد بكثير عن حاجياتها لتمويل العيش الكريم للمقاومين ولمن أسدوا خدمات جليلة للوطن، ويؤمن للزبون كذلك التنقل في سيارات جديدة مجهزة بعدادات توفر خدمة تسليم الفاتورة، فإن نسبة كبيرة من السائقين تحولوا إلى «شناقة» يتخذون من محطات القطار بكبريات المدن سوقا للتهافت على نقل أكثر من زبون في نفس الرحلة، علما بأن القانون يقنن هذه العملية ويعطي للزبون الحق في استعمال أول سيارة لتنقله إلى الاتجاه الذي يقصده عوض أن ينتظر داخل السيارة إلى أن تمتلئ بزبناء يؤمنون للسائق مضاعفة المداخيل المستحقة عن الرحلة. الجيل الجديد من الرخص التي تغني المحظوظين والمقربين يشمل كذلك القطاع العقاري، ذلك أن مجرد تحويل الوضعية القانونية للعقار من خانة الفلاحي إلى الحضري يترتب عنه البيع بالمتر المربع عوض البيع بالهكتار وحتى داخل الوسط الحضري فإن التحول من منطقة خاصة بالفيلات إلى منطقة خاصة بالعمارات يضاعف قيمة العقار بعدة مرات ونفس الشيء بالنسبة للرخص التي تسمح للمستفيدين الجدد بالزيادة في عدد الطوابق بعدما تم حرمان من سبقوهم من الحق واستدرجوا للبيع بأسعار بخسة, فما يجنيه المنعش العقاري من رخصة إضافة طابق أو طابقين عن التصميم الأصلي يؤمن تحقيق أرباح تتفاوت قيمها حسب تفاوت قيمة العقار بين المناطق المعنية. لقد شكل اقتصاد الريع عرقلة حقيقية أمام توفير المنافسة الضرورية لتطوير المهنية ولتمكين المستهلك من جني ثمار التحرير، وبعد أن تفشى واستفحل فإنه كون لوبيات تستنزف القوت اليومي لمن يستحقون تحصيل ما يؤمن لهم الحد الأدنى من العيش الكريم