نظم (مركز تواصل الثقافات) الذي يديره الباحث والروائي عبد الحي المودن، يوما دراسيا عن رواية (القوس والفراشة) بحضور المؤلف وعدد من النقاد المتميزين، استهل الأستاذ عبد الحي المودن مداخلته بسؤال ذكي من وحي اللحظة العربية الثائرة، ماذا يستطيع الأدب والرواية تحديدا أن يقدما لهذا الحراك الديمقراطي الممتد من الخليج العربي إلى خليج طنجة؟. ولقد ثمنت في حينه (بالرغم أن هذا السؤال يتطلب لوحده أن تخصص له ندوات دراسية) دور الرواية لما تستقطبه من أقلام تنتمي إلى مختلف الروافد الفكرية ( مؤرخون ، فلاسفة، شعراء، أدباء) حتى صارت الرواية في العصر الحديث، الخطاب البديل عن مثقف عصر الأنوار نظرا لقدرتها على التشخيص واحتضانها لعوالم وسجلات غير روائية وتوظيفها للغات والأصوات الفئوية المتنافرة. لقد جرت العادة أن تقرأ رواية (القوس والفراشة) كامتداد خطي لرواية (جنوب الروح) نظرا لوجود خيط ناظم، ممثلا في الاسم العلم الذي يتكرر في الروايتين (آل الفرسيوي) وإذا تعاطينا مع هذا الاسم كشخصية متخيلة، بإمكاننا القول إنه لا يوجد تلازم حتمي أو سببي بين الروايتين بل هناك علاقة طباقية حسب تعبير ادوارد سعيد، تجعلنا ننظر إلى رواية (القوس والفراشة) كرواية مضادة ليست امتدادا خطيا من حيث الرؤية ودوافع الشخصيات ومصائرهم. إذ كانت رواية (جنوب الروح) تبحث عن جذور (آل الفرسيوي) من خلال النزول هبوطا إلى قاع الجنوب، وبئر الذاكرة الأولى من أجل التنقيب عن شجرة النسب في قبيلة (بومندرة) فإن الرواية الأخيرة (القوس والفراشة) تتجه في مسارها السردي صعودا إلى الشمال، لكي تعانق جاذبية الكوني وأطياف التحولات الكبرى، بعد أن فرقت بين (آل الفرسيوي) دروب الهجرة في زمن (القرية العالمية الصغرى). في رواية (جنوب الروح) يتغيا السارد تطبيع العلاقة بين الذات والبحث عن المعنى الأول والهوية الأمازيغية المنسية، أما في رواية (القوس والفراشة) فإن وقع الرجات العنيفة التي عرفها العالم (شمالا وجنوبا) بعد أحداث 11 سبتمبر، والإختيارات التي فرضت علينا وطنيا في العشرية الأولى من الألفية الثالثة، أدت إلى ضياع القيم المثلى، وتوتر علاقات التواصل، نتيجة الإختلالات الكبرى على مستوى التربية والتعليم، وهيمنة الفساد المتوحش، والفوضى العمرانية والمضاربات العقارية في المدن التاريخية، الذي أيقظ عند الجميع ضرورة إعادة صوغ الأسئلة المتعلقة بالذاتية المطمئنة إلى حقائقها المطلقة (والتأمل في هذا الوضع الذي أصبح آلة لإنتاج الألم ص 97) والإحساس بالضياع والخسارة وانحباس الأمل في الحاضر، الذي يجعلنا نخاف على مستقبل المغرب (وهل يسير المغرب نحو ديمقراطية حقيقية أم أن، هناك من يحن إلى الحكم الحديدي ص 39). لهذه الأسباب التمهيدية نعتبر (جنوب الروح) رواية الهوية الصلبة، المتيقنة من حقائقها والمتفائلة بزمنها، المحفزة على فعل الطموح، وذلك شيء مبرر في المرحلة التاريخية التي صدرت فيها، أما رواية (القوس والفراشة) فإنها تنتمي إلى زماننا، بل إنها رواية استشرافية عندما لم يعد للزمن المعاصر مذاق المعنى. لن نجد في رواية (القوس والفراشة) تلك الهوية الأصلية، بل هناك هويات (لجماعات متخيلة) حسب تعبير بندكت أندرسن عن طريق هجرة محمد الفرسيوي إلى ألمانيا (الذي تلتصق به الهجرة كدودة تأكل الروح ص 69) وزواجه من ألمانية (ديوتيما)، ثم عودته إلى الوطن للاستثمار في مشاريع تجارية وسياحية . وقد قضى الفرسيوي زهاء خمس سنوات يشيد هذه المعلمة الرائعة وخاض حروبا شعراء من أجل الأرض، ثم من أجل الكهرباء، ثم من أجل تعبيد الطريق المؤدية إلى الهضبة، حتى استوى الفندق شرفة مطلة على المعالم الأثرية لمدينة وليلي، حيث تغرب الشمس كل يوم، متوارية خلف أعمدة المعبد وقوس كراكلا ( ص 69) لكن الفرسيوي الذي يمثل (حجر الزاوية) في شجرة انساب العائلة سيتعرض لأحابيل البيروقراطية وللاعتقال التعسفي (فيما عرف بقضية سرقته لباخوس ص 67) لينتهي به المطاف (دليلا أعمى في أطلال المدينة ص 51) ينقب عن (شيء لا يعرف أحد ما هو، ص 63). أما ابنه يوسف الذي عاش في ألمانيا، فانه يشبه يوسف الصديق، يزاوج بين العقل والبصيرة، يكتب عمودا يوميا في جريدة وينجز تحقيقات يفضح فيها صفقات الأراضي العمومية في مراكش، ينتمي إلى صفوف اليسار (المعتدل)، محاصر بموت أمه الغامض، وانتحار ابنه ياسين، الذي يذكرنا بالآية الكريمة، التي أساء تفسيرها، فاختار التشدد الديني الذي أدى به إلى الجهاد في أفغانستان (ومقتله في ظروف لها علاقة بالطالبان ص 18). يمكن ترسيم المبنى السردي في رواية (القوس والفراشة) بالنص المتشعب أو Rhizome أو محكي الجذمور، الذي يميزه دولوز/ غواطاري عن (النص الجذر le Livre - Racine ). إن الفرق الفلسفي بينهما (أن الريزوم أو الجذمور، هو جذع تحت الأرض، لكنه ليس جذرا لأي شجرة، إنه يقطع مع النموذج التمثيلي للجذر والشجرة، حيث لا بد من نقطة ونظام واحد. فتحيى المسكيني، الفيلسوف والإمبراطورية ص88). يمثل النص الريزوما طيقي أو الجذمور نموذج محكي الحداثة الجديدة، أما نص الجذر Racine فهو الكتاب التقليدي، الذي يحاكي العالم ويمثله. تتمظهر خاصية الجذمور المتشعب، في كل مستويات نص (القوس والفراشة)، تتفرغ هوية (آل الفرسيوي) التي لم تعد محددة في أصلها الريفي الأمازيغي (لأنها عندما نولد تكون أمامنا احتمالات لا نهائية لحيوات مختلفة ص 21) وهكذا يتحول المسار الشخصي لآل الفرسيوي، نتيجة لاختراقه لأفاق الهجرة وعودته إلى الوطن إلى ذات سديمية، مركبة من جذور متفرعة، وأمكنة متقاطعة، وسلالات جذمورية أو فسيفسائية. (عين الإمبراطور أغسطس على هذه المملكة، أخي وحبيبي جوبا الثاني الأمازيغي الحر، الذي تربى في روما وتزوج على سنة ذلك الزمن بنت كليوباترا. قبل أن يجلس على العرش، تماما كما فعلت أنا عندما تربيت في ألمانيا، وتزوجت بنت قيصر جرماني، قبل أن انتهي في هذا الجحر ص 188). يتمظهر مبدأ الحكي الريزوما طيقى / الجذمور في الرواية، من خلال توظيف المؤلف لسيماء الحواس، فإذا كان يوسف نموذجا للمثقف الملتزم (أكثر إقبالا على الحياة وأكثر غزارة في الإنتاج. ص13)، فإنه نظرا لإحساسه بالخسارة والفقدان، نتيجة لعمى والده وإفلاسه، وموت والدته، وانتحار ابنه، يميل إلى التعاطي مع حقائقه المطلقة التي كان يؤمن بها، وكأنها (ليست سوى أثر آخر للأثر، ثم أثر آخر لأثر الأثر ص 40)، لهذا السبب سيتجه يوسف إلى معانقة الرغبة في إعادة كتابة حياته (وإخراجها من عنق القراءة الواحدة ص 42)، من خلال الانفتاح على باقي الحواس الأخرى، التي كانت معطلة، والاحتفاء بطريقة ديمقراطية بوظائفها الحيوية، حتى تكون هذه الحواس في نفس المرتبة الاعتبارية، للعقل والفكر، الذي يعجز أحيانا عن تفسير ما حدث له ولآل الفرسيوي (وأنا أفكر بما كان سيجيب به شخص آخر، لو طرحت عليه هذه الأسئلة، وكنت عاجزا تماما عن إبلاغ شيء له علاقة بالإحساس ، لأنني ببساطة لم أعد أحس بأي شيء ص 9). لن يجد السارد خلاصه الوجودي، إلا برد الاعتبار لصوت الحواس (ومن الاقتناع أنا نفسي، بأن الأهم في اللغة، هو التقاط تفاصيل تشكلها، وإذا شئت الدقة، هو تأبيدها في مسار لأنهائي، والأهم مثلا في لغة نبيذ ما، ليس هو الواقع الحسي، الذي يحصل للمتذوق المتمرن، بل الكيمياء التي جعلته يكون كذلك ص 19). كما أن القرب من الزوجة والتعرف إلى الحبيبة، صار من خلال حاسة الشم (تخيلت عبير جسدها وتذكرته ص 86) بل إن موضوعات العالم والأماكن، صارت تصنف من خلال روائحها (أنا أيضا أتخيل الروائح وأشمها، بل أستطيع أن أشم الروائح في التلفزيون وفي السينما ص 26). وقد يستعيض عن حاسة الشم، عن طريق الألوان (أصبحت أميز الروائح بالألوان والأشكال التي ألمسها، فالتبغ له رائحة بنية اسطوانية، والسمك له رائحة صفراء والشاي له لون قرمزي مربع، والقهوة نصف دائرة أزرق ص 27). كما يتم تبجيل حاسة النظر، فهي حاضرة من خلال تضادها مع (عمى) ساراماغو وعمى الفرسيوي، الذي صار رائيا ودليلا، موجها للسياح، لامتلاكه طاقة تخييلية، تذكرنا (بالعمى) الثاقب للكاتب خورخي لويس بورخيس. يتم الإعلاء كذلك من وظيفة الذوق والذواقة، التي تعلمها يوسف من والدته الألمانية (قالت إنها فكرة عملية ولطيفة، أن يكون المطبخ كله مفتوحا على غرفة الجلوس، فالمفاجاءات عندئذ تتركز في مذاق الأشياء، وليس عن أي شيء آخر، لقد رأيت مند البداية تضيف ليلى، أنك كنت تهيئ سمكا، لكن ذلك ضاعف مفاجأتي بمذاق الزعفران الحر في شرائح الدوراد، المنقوعة في زيت أركان، والليمون الدق، لدرجة أن المكان والأكلة سيظلان إلى الأبد وجهين لعملة واحدة ص 278). حتى الإحساس العاطفي، لا يستقر على امرأة واحدة، لقد تعددت العلاقة الغرامية ليوسف مع الزوجة بهية التي يجمعهما (المبرر الشرعي والوحيد للزواج ص 118)، وبقية العشيقات العابرات اللواتي التقي بهن يوسف (ليلى، فاطمة، زليخة، الغالية) و يتحولن إلى أطياف نساء، يرتاح إليهن يوسف من رتابة الزواج الرسمي، وإلى مجرد (رسائل إلى حبيبتي) يكتبها السارد إلى امرأة توجد في اللامكان، ولا نعرف عنها إلا أنها الحبيبة التي يفضل السارد أن يناجيها عندما (تبدو حياته مثل صفعة ظالمة ص 184). يتعالق مفهوم النص الجذمور (الريزوما طيقى)، مع مبدإ متفرع عنه وجوبا، تسميه الناقدة دومنيك فيار dominique viart بالتحقيق enquête الذي يعني المعنى الحرفي للتحقيق الصحفي، وكذلك التحقيق كبحث مؤجل عن السر الملغز، بالنسبة للمعنى الأول، نجد أن السارد يوسف يمتهن مهمة القيام بإنجاز تحقيقات صحفية (وكنت في مراكش أواصل التحقيق في قضايا الأراضي العمومية، والاستثمارات الأجنبية في مجال السياحة، ولوبيات الإنعاش العقاري، ومراكز النفوذ ص 149) يفضح فيها الفساد والرشوة والمضاربات العمرانية، التي صارت حديث الصحف السيارة، لكنها بقيت دون محاسبة من طرف الدولة (بالفعل لقد طارت مراكش حقيقية ومجازا، في السنوات العشر الأخيرة، طارت أثمنة عقاراتها إلى عنان السماء، وطارت الدور القديمة والرياضات والفنادق من بين أيدي أصحابها الأصليين ص 130) ويرتقي التحقيق الصحفي، الذي يجيد يوسف ترويضه، إلى نوع من التوثيق للأحداث الاجتماعية الكبرى والصغرى، التي عرفها مغرب العهد الجديد، منقبا عن خلفياتتها الماورائية، دون مجاراتها في تجلياتها السطحية، كما عرضتها صحافة الإثارة الصفراء، (لأن الواقعية - حسب منظور يوسف- ليست دائما بالبساطة التي نتوقعها ص 259) بل تتطلب الغوص في البحث عن السر الدفين، الذي يكمن خلف الوقائع والأحداث، من خلال طرح الأسئلة الإنكارية، المرتبطة أحيانا بالاختيارات غير المتوقعة للأشخاص المحيطين بيوسف (كيف نفهم الإقدام على تفجير النفس، في مطعم آو في مسجد أو أمام مدرسة أو في موكب جنائزي؟ ص 140)، وربما يتعلق الأمر بصيغة السؤال الشاك، عن مصير والدته وسبب وفاتها، هل كان قتلا متعمدا، أم انتحارا، أم مجرد حادثة (ورغم كل ما رأيته في والدي من انهيار ويأس وعذاب وغضب، فإنني لا أعرف حتى الآن لماذا تصورت بكثير من اليقين والألم، أنه هو الذي قتلها ص 66)، ويتشعب التحقيق عن السر المكنون، ليطول ما كان يخبئه الفرسيوي، (هذا باخوس، ظل مدفونا لقرون طويلة... تقوم أنت، فتسرقه لتدفنه من جديد ؟ ص 68)، كما يتنوع سؤال السر الضائع، ليقتفي أثر ياسين، وسبب التحاقه بحركة طالبان (هل ترك ياسين شيئا في أوراقه، أو رسومه، فأنكرت بهية ذلك، ص 108). أسئلة كثيرة، لن نجد لها جوابا شافيا، وأسرار غامضة تبرر صدقية المسار الحكائي في الرواية. تنزاح الرواية عن المقاربة المباشرة للواقع، بالرغم من توظيفها للتحقيق الصحفي، الذي يعري خبايا الفساد الإداري، والسطو على الثروات، والربح السريع للمقاولين الجدد، نتيجة للاختيارات البيرالية الهجينة، التي تجعل يوسف نموذج الوعي السياسي المتقدم، أن يصاب بانكسار إرادي ونكوص شارد عن جدوى الاستمرار في المواجهة (لم يتبق لي حماس لأية قضية ص 96). أمام هذا الوضع الكارثي الممانع، الذي أدى بالشباب المغربي أن يجد خلاصه في الاختيار بين التفكك الأخلاقي المغترب، أو الانتماء إلى ايديولوجية الإرهاب المتوحش، وهما معا وجهان لعملة واحدة لهذا الواقع المتردي، الذي يسعى يوسف أن يطوّعه ويراوده عن طريق الحلم والأمل (عندما يتم التعود على إعدام الخيال ص 110) فلا يبقى أمامه إلا مناجاة ومحاورة تلك النصوص العليا (ديوان المراثي، ساراماغو، هولدرلين) في فرصة أخيرة، من أجل تجميل بؤس الواقع ، لا يدعي تغييره، وإنما إدراكه وفهمه.