بدا "إعلان تونس" لدعم وتعزيز التسوية السياسية الشاملة عشية إطلاقه في مؤتمر صحفي مشترك بالعاصمة التونسية، والذي جمع ثلاثة وزراء من مصر وتونسوالجزائر، يتيما، أمام ما شهدته العاصمة الليبية طرابلس من تصعيد مصحوب بإطلاق النار على موكب رئيس حكومة الوفاق الليبية فائز السراج، وهو الموكب الذي ضم أيضا رئيس مجلس الدولة عبد الرحمن السويحلي، وقائد الحرس الرئاسي نجمي الناكوع، خلال مرورهم بالقرب من قصور الضيافة، التي تسيطر عليها قوات موالية لحكومة الإنقاذ. كان الخبر كالصاعقة فور تداوله إبان المؤتمر الصحفي ، الذي سوق على هامشه عبد القادر لمساهل الوزير المكلف بالملف المغاربي والاتحاد الافريقي في الحكومة الجزائرية ، كون بلاده الأقرب إلى الحل الواقعي في الأزمة الليبية. كتب الخبر بالبند العريض في مواقع إخبارية تحت يافطة «عاجل» والتي لم تستطع أن تخف مقالات مستعجلة تستهدف المجهودات التي قام بها المغرب في هذا الصدد، وهي المجهودات التي لم تكن تسعى إلى تميز أورغبة في قيادة ملف شائك ومعقد، ولا أن تنتقم-كما ذهبت بعض الكتابات المغرضة- لتداعيات ملف يعود إلى عقود طواها الزمن في الانقلاب الفاشل الذي رسمت معالمه الكبرى، منطقة الصخيرات. إن أهداف المغرب واضحة وصريحة في بعدها الاستراتيجي الدولي، والتي تهدف المملكة من خلالها إلى تحقيق السلم والاستقرار في ليبيا ومنها استقرار منطقة بكاملها، بقناعة أن خط الرباططرابلس لن يكون إلا خط التنمية والديمقراطية في إطار مصالحة وطنية شاملة تجمع كافة الليبيين بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم السياسية على وحدة وطنهم، سواء كانوا في الداخل أو الخارج. وفي وضع مضاد لهذا المنحى اصطدم «إعلان تونس» بواقع الملف المعقد في ظل وضع يحتاج إلى توحيد الجهود ودراسة كافة المبادرات قبل إطلاقها، من منطلق أن مفهوم « الجوار» اليوم لا يعني دائرة مغلقة في حدود جغرافية ضيقة، بل إن للأمر أبعاده الإقليمية والجهوية والدولية ، وهي أبعاد تحتاج إلى الخروج من الحسابات المبنية على منطق الأمس في الحروب الباردة. ولهذا، فعندما دافع المغرب على استقرار ليبيا في بعد دولي كفيل باستصدار قاعدة مسطرية وقانونية أممية في مرور البلد إلى برالأمان ، لم يكن -كما تفسر التحليلات المغرضة- يسعى إلى دعم حكومة محمولة على دبابة للقفز فوق شارع المختار بطرابلس، بل إن المغرب يدعم جهود السلام وتوفير الشروط لممارسة الديمقراطية التي لن تحققها إلا إرادة الليبيين في اختيار من يسير شأنهم العام بمنظومة شكل النظام الذي يختارونه وبدستور كفيل بالتوجه للمستقبل، بناء على الاعتراف بصعوبة الانتقال في ظل غياب الدولة، وهو الفراغ الكفيل بتعقيد المشهد في تصاعد مفتوح على المجهول. لقد وضع عقلاء البلد علامات استفهام كثيرة إزاء حقيقة وجود مبادرة ثلاثية عربية، متسائلين عن شكل هذه المبادرة، وتفاصيلها، و التي لم يتمّ الإعلان عنها، وعمّا إذا كانت ترقى إلى أن تكون مبادرة في الأساس، أم أنها مجرد «مساعٍ عربية» لجمع أطراف الأزمة. وهي الأسئلة المشروعة في ملف تسال يوميا الدماء في مشهده الأليم، وتشرد فيه الأسر وتهجر بالفعل والقوة إلى أزقة البؤس في دول مختلفة بما في البؤس من إهانة تعرض لها أحفاد وحفيدات المختار في ضرب كرامتهم وكرامتهن حد الدفع ببعضهم وبعضهن إلى الانتحار على جسر بدون هوية، كي لا نوضح أكثر. ولعل المجتمعين في المبادرة الثلاثية اليتيمة يعون جيدا أن تفاصيل مبادرتهم ستظل غير ذات جدوى، في ظل الموقف الدولي الغامض، كالاجتماع الذي عقد على هامش مؤتمر الأمن أخيرًا في ألمانيا بين قادة أوروبا ووزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، مما يؤكد أن الملف الليبي لايزال محل اختلاف دولي كبير، بالتوازي مع عدم وضوح الموقف الأمريكي حتى الآن. وعودة إلى الأطراف العربية، فمصر التي استقبلت مؤخرا ، وفدًا من أعضاء المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، باتت تدرك أن عليها التواصل مع أطراف أخرى في طرابلس، ناهيك عن الأطراف الموجودة على ترابها والمنظمة في هيئات وتنظيمات تعمل خارج البلاد وداخلها والمرتبطة بدول كبرى لها مصالح أيضًا في ليبيا، كما يبدو أن الجزائر، تتوجه إلى الاقتراب من رئيس حكومة الإنقاذ، خليفة الغويل، في حين تعمل تونس على خط اللواء حفتر، في كونه قام بطرد تنظيم الدولة «داعش» من سرت، و بات يملك قوة عسكرية كبيرة مكنته من السيطرة على «الهلال النفطي»، فضلًا عن سيطرته على شرق البلاد، وانتشاره جزئيًّا في الجنوب. إلا أن رسم خرائط بهذا المقاس المحدود في رمزية الأشخاص يصطدم بواقع الانقسام على الأرض والانفلات الأمني الكبير ، فكلما برزت مبادرة لدفع تسوية سياسية للأزمة يقابلها تصعيد ميداني يهدد بصراعات جديدة، مما يتجه صوب تدخل أجنبي وشيك، لم يخفه الناكوع الذي أبلغ الحضور في اجتماع أمني عقده السراج إثر نجاة موكبه من حادث إطلاق النار في العاصمة طرابلس، بوعود قادة دول غربية بسرعة التدخل لإجبار قوات رئيس حكومة الإنقاذ خليفة الغويل على مغادرة طرابلس ، علما بأن الاجتماع المذكور أسفرعن تأجيل المواجهة المسلحة مع كتائب حكومة الإنقاذ إلى حين ظهور نتائج الاتصالات الكثيفة التي تجري مع مجالس مصراته والزاوية وزليتن وغريان العسكرية التي طُلب منها ضرورة سحب مجموعاتها المسلحة التي وصلت إلى طرابلس أخيراً للانضمام إلى جهاز الحرس الوطني الموالي لحكومة الإنقاذ. وهو ما يؤكد خطورة الوضع وتعقيده، وهو الوضع الذي يواجه كافة المبادرات السلمية ، كما يضيق مسافة المصالحة الليبية-الليبية ، ويوجه دعوة مستعجلة للقوات الأجنبية للتدخل . ولهذا نقول إن ما يحدث في ليبيا اليوم، هو نتيجة طبيعية لمسار أعوج اتبعت فيه سياسة الهدم بإرادتين، دولية ساهمت فيها أطراف داخلية بوعي وبدونه.