(الأرض عربة «عريانة» حوذيها العدم) ص 5. ثلاث سنوات، تفصلنا عن صدور ديوان «للريح أسماء أخرى»، حيث طبع سنة 2013، عن بيت الشعر في المغرب. هذه معاناة الإبداع المغربي، في كل الأجناس الأدبية، دون تخصيص، على مستوى النشر أو المتابعة النقدية النقدية، اللهم إلا حث الطلبة الجامعيين، من لدن أساتذتهم، على إنجاز البحوث، ويكون الاهتمام أقوى بالمجال السردي، مع غياب شبه تام للشعر المغربي، ولحد الآن لم تعالج هذه المسألة، إلا بشكل لا يسمن ولا يغني من جوع . مما يبعث على تراكم المخطوطات، ووقوف المبدع حائرا وقلقا، ينتظر ضوء المنارات، علها ترشده، أو تتركه مذهولا، يصارع عدمه "داخل عربة عريانة"، وينتج عن هذا: - عدم تشكل رؤيا للشعر المغربي، تحسم في تقاطع مرحلة، وامتدادها، أو عدمه، إلى مرحلة آنية أو مستقبلية، مما ينتج عنه، الهجرة إلى الشرق، وخير مثال على هذا، الشعراء الرواد في البدايات. اجتهاد كل شاعر وحده، سواء على مستوى الشعر العمودي، أو التفعيلي، أو الشعر المرتبط بالأحداث والوقائع، لأن المبدع يبحث عن ملجأ، يحتمي به، لمواصلة سحر التشبث والاقتناع بهذه اللغة الكيميائية. حرمان الجيل الجديد، وإن كنت أتحفظ من هذا التحديد، فالشاعر الحق، يبقى مواكبا لكل مرحلة، وإلا ما الداعي لخوض غمار الإبداع، فكم من شاعر شاب، ولكنه ينتمي إلى «جد النمل". وفق هذه الإشارات أقارب ديوان «للريح أسماء أخرى»، للشاعر عبد العالي دمياني. البدايات ستكون من محطة: ظلال اللغة، وعبورها من شاطئ إلى شاطئ، سواء غضبت الأمواج أو هدأت، فهي تنطلق من الإشارات والتلميح إلى الاستعارة، أو مساءلتها عبر عبورها، أي جانب طاغ؟ علها تنصاع، أو تتمرد، مما يجعلك ظلا من غبش تستظل بكيمياء لغتك دون تأثر، هكذا يبحث دمياني عن صياغة لغته، فهو المهووس دائما وأبدا بعجن لغته، وإن كان أحيانا، يبدو لك هادئا، ولكن في أعماقه مرجل، من الشك والقلق، والحذر، كيلا تداهمه الرياح، فعل تمرد أو غبار أو تيار، يسميه، ويركبه، بدءا من «خيول دالي»، حيث تمتزج اللغة بسرياليتها، وتستظل بعبق عبثية الوقت، واسترخائه حسب أهواء دالي، وفلسفته. ويتجلى ذلك في: "أخلع بندول ساعتي الذي لا يشبه بالضرورة رأس بومة أو حافر بغل أخلع سلسلة الذهب التي تشدني بها عشيقتي المنرفزة باستمرار من عرقوبي الغض أخلع قبلتها الزنانة مثل نحلة تقرص أذني أذني التي تشبه أذن حمار أنهكته طواحين الحب فدلى لسانه من أغنية لسه فاكر» ص 9. هذه السريالية، التي تخلق علائقها اللغة، بشكل يصالح المتناقضات، وتؤسس عبر اللغة معرضها التشكيلي، وهنا تكمن القوة الإبداعية، لدى دمياني، فهو يلولب صوره، التي تستمد عجينها من المتخيل الواقعي، وتصبه "منطقية"، أي تجمع بين لا ونعم، تبعا لجرعات المشابهة والمجاورة، ثم:: "أخطو مرتبكا نحو سفن محطمة في رأس بحار قديم وفي حنجرتي غصة من الفولاذ» ص 13. هذا التمازج يؤكد عدم اكتفاء الشاعر باللغة وتركيبها، بل يسمها بمرجعيات وخبرات الشاعر مما يقرأ ويحيا. هذا التعدد في الممرات والأزقة، يبرع الشاعر في حمله إلى دماغه وشعوره ولاشعوره، وتداعيه على مستوى الذات، فهو لا ينام حتى في الحلم، أو حلم اليقظة، حتى في القطار، ففي قصيدة "بار ليلي في المقصورة السابعة"، تأتي، وتداهمه الريح ذات سبعة أبواب: "أقصى حلمه ألا تتسلل الفئران من حلكة الساكسوفون وتربك حذاءه في غاشية الطريق. أقصاه أن يوقف القطار عند منتصف الحلم، ويسامر بجعات الليل. غير أنه يتنحنح. يتحسس ريشهن. ويفرك صمته كمن غافلته زعانف الدهشة» ص 21. إن اللغة بمقدورها أن تساير الحلم وتحقنه بسريالية تضمن له تحقق اللامتحقق حسب مقتضى الحال، عند البلاغيين، إلى "عشاء أخير"، وملامسة جوارب الواقع، دون نسيان مخالب اللغة، فهي قطة، تجمع بين الوداعة والدفاع عن النفس: "أهتف في سرك الحرب والحب توأمان» ص 28 ما يجعل الريح تتأهب ل«خروج القراصنة»، وهنا يتأكد بأن الشاعر عبد العالي دمياني، شاعر مشاء، أي أنه يكتب، يبدع قصيدته في الهواء، مخالفا عددا من شعراء جيله، مما يجعل الصور البلاغية من مجاز واستعارة، والتراكيب النحوية، تراعي قياس ملحها، حسب إشارة عبد القاهر الجرجاني، النحو ملح اللغة، وتسهل صياغتها أثناء مكابدة ألم الكتابة: "حاذر خروج القراصنة الصخرة في قاع الكأس والسر في بقايا دمك علي موائدهم» ص 43. تصبح اللغة مطواعة، أينما قادها الشاعر تنساق، حسب الأشرعة، وحسب الرياح، التي وسم بها الديوان، وتتوسط الرياح السبعة، فهي بين بين: "الجسد يلملم أعضاءه تحت دش بارد والسيجارة السابعة تثبت الوجه المبعثر في المرأة تدوزن القلب النشار..» ص 68. مرورا ب"عدمية بيضاء" و"لا شيء يشبهنا"، وصولا إلى "بئر". هذه البئر اللامتوقعة هي الحقيبة السوداء، في اختمار اللغة، وصياغتها "بالأبيض والأسود": "هناك بين سندان ومطرقة يسحق ذكرى نفسه كيرقة أرق قديم ثم يهوي في صحوة نسيان سحيق هناك وحده" ص 135. هذه اللغة التي تنثرها الريح، حسب الأحوال الجوية، حسب سرعتها، هي التي تلقح باقي الأدوات التي يبدع ويصنع، أي الإبداع والصناعة، مما يميز اشتغال الشاعر، حيث تفرض قصيدة النثر إيقاعها دون خجل، وتفرض طريقة قراءتها وتأويلها. إن النثر «يبني علاقته بالآخر على جسور أعمق غورا في النفس، أقل تورطا في الزمن المؤقت والقيمة العابرة، أكثر ما تكون امتلاكا للقارئ، تحريرا له، وانطلاقا به، بأكثر ما يكون من الإشراق والإيحاء والتوتر (...). القصيدة، لتصبح هذا، يجب أن تقوم على عناصر الشعر، لا لتكتفي بها، وإنما لتعيد النظر فيها بحيث تزيد من اختصارها وتكريرها، وشد حزمتها" 1 إن قصيدة النثر، لكي تبتعد عن البرود الجنسي للشعر، ينبغي أن تراعي بكارة اللغة، والرقص على إيقاعها، وإعادة النظر في أي شيء، دون خجل أو وجل، وقصائد دمياني، توفرت فيها هذه المميزات، مما أهلها لضمان خلودها، وتدفق تأويلها لمقاومة النسيان. 1 - أنسي الحاج: لن. دار الجديد. الطبعة الثالثة 1994 ص ص 9- 10