ليس ثمة أكثر مأساة من الإنصات للحقيقة حين تتحدث عن الشعب الشقي، الذي لا يستطيع أن يخضع لجدلية العبد والسيد، لأنه بإمكان هذه الجدلية أن تنجح في جميع البلدان، ماعدا هذه البلاد، لأن براديغم العبودية تحول إلى وعي مغلوط، وعي للعبد بسيده، ومباركة هيمنته، والرغبة الممتعة في الخضوع لطاعته، لأن هذه المتعة بالألم من الصعب تحرير الشعب منها. وربما يكون هذا المبرر الذي عجل بغروب الحقيقة عن العالم الشقي، وما دام أن الروح لم تتحول إلى ذات فاعلة، فإنه لا جدوى من الفكر السياسي المتنور، الذي لا ينتشر إلا عندما يشفى المجتمع من تلك الأمراض القاتلة، التي تأخر وصول الوعي التاريخي، لأن مقاومة سياسة الإنهاك لإرادة القوة، قاد إلى قداسة الأفراد، فعدو الضعف تقود إلى إثبات ذاتي للانحطاط، فكيف يستطيع المنهكون أن يصوغوا من القيم قوانين؟، وكيف يمكن لمن تحطمت إرادته أن يناضل من أجل حريته؟، وهل استطاعت السلطة أن توزع السموم والترياق بواسطة خطاب الحقيقة؟، وأي حقيقة هذه التي تحكم على المجتمع بالعبودية والقهر؟. ومن الحكمة أن نتعقب خطى هذه الأسئلة، لا من أجل الاحتفال بنجاحها، بل لمشاهدة انكساراتها وغروبها قبل الأوان، ذلك أن الإنسان الذي يطيع، لا يستعمل عقله، يتحرك بوجدانه، ولذلك فإنه يكون إنسانا ساذجا يقبل كل حقيقة تقدم إليه في قالب خرافي وأسطوري، والسلطة تصنع الحقيقة في الأسطورة لتهزم الشك في الأرواح، لأن البحث عن الشريعة يبدأ من الهدم لكل مقاومة، فالجسد المقدس الذي يسود هو الحقيقة ولا يستطيع أياً كان الشك فيها . يتعلق الأمر إذن بشريعة الحقيقة التي ستمكن السلطة من الحكم بالشريعة، حتى ولو كانت غير قانونية، فكل شيء مباح، الظلم، القهر، الاستغلال الحرمان من الحقوق السياسية، لأن ما يهم هو أن تحافظ السلطة على شريعتها. ولكن الأشكال المختلفة للهيمنة، والاخضاعات المتعددة كلها دروب تقود إلى الصمت، هذا الصمت الأبدي يفسر بأنه علامة على الرضا العام. فالشعوب العربية متفائلة بماضيها، ولذلك لم يعد يهمها الحاضر، هكذا تحقق غايات السلطة التي تزرع الرعب والطمأنينة في نفس الوقت، لكي يكون حصادها وافراً. إنها تترك آثارها على الجسد الاجتماعي، كما يترك حداء الفلاح آثاره في الحقل، ومع ذلك نتساءل مع فوكو عن طبيعة الذي يملك السلطة، وبعبارة أخرى: من يملك السلطة؟ وكيف استطاع أن يملكها؟، هل بالإرادة الشعبية؟، أم بواسطة العنف والخداع؟، وما الذي يريده من السلطة؟، ولماذا أن هناك من يرغبون في الهيمنة؟. مديد هو الطريق الذي ينتظرنا، لأن تفكيك الاعتقاد في السلطة يضعنا أمام خطر الضياع في دلك اللغز المحير الذي يحدد إشكالية الهيمنة السياسية، انطلاقاً من إشكالية الخلافة في الإسلام، ولذلك فإن الذات العربية قد تشكلت فعليا في مناخ هذه الإشكالية، ومن الصعب أن نوجه عين الذات نحو الفكر السياسي المعاصر، وبما أن الأجساد تتحرك حسب إرادة الروح المطلق، فإن السلطة تنتشر وتتداول كالسلاسل التي تكبل الأجزاء من أجل الطاعة للكل، لأن البعد الديني غير قابل للحوار، عبارة عن قواعد يتم تطبيقها على مدى الحياة. هاهنا يجد الإسلام السلفي تربته الخصبة، حيث استطاع أن يستنبت الأرواح فيها، بدعوى ابتعاد السلطة السائدة عن الشريعة الدينية، تماشياً مع المبدأ الذي يقول: كل ما يِخذ بالقوة يسترجع بالقوة، نحن مجبرون على تحمل أخطاء السلطة وأداء فواتير مصلحتها، لأنه لا فرق بين تراكم الديون، وانتشار الإرهاب، فكلاهما يقود نحو الإفلاس، ومن الطبيعي أن الشعوب التي تعيش الإفلاس المادي، ستنهض، أما الشعوب التي تعيش الإفلاس السياسي ، فإنها لن تنهض، وهذا هو قدر العالم العربي. الذي أصبح لعبة في يد الزمان: وهكذا يا سقراط نجت القصة من النسيان ولو أمعنا التدبر فيها ، لأنقذتنا نحن أنفسنا، ولعبرنا بطمأنينة وسلام نهر النسيان، ولما نسينا نفوسنا، وإذن، فلو آمنت معي بان النفس خالدة قادرة على تحصيل كل خير واقتراف كل شر، لاستطعنا أن نلتزم دائماً الطريق المؤدي إلى الحكمة والعدل، والخير...ونتلقى جائزة الحكماء . قالت الحقيقة ذات يوم أن الفلسفة قد ألقي بها في الضياع، ولذلك فإن السلطة وحدها أصبحت تمتلك خطاب الحقيقة، وليس الحقيقة بمعناه إنكشاف المطلق في الوجود: ولو أردت لحياتك أن يكون لها معنى عليك البقاء بعيداً عن السلطة، وأن تكون محباً للحكمة، لأن محبة الحكمة هي حتماً ما سيساعد الوجود العربي على التغير، ذلك أن السلطة تؤجل هدا التغير، مدعية بأن « الحياة الحقيقة غائية»، ولذلك فإن الغاية تبرر الوسيلة، سواء كانت هذه الوسيلة هي الاستبداد، والقهر والعبودية، لأن ما يهم هو حياة العائلة المقدسة التي تحتكر السلطة . لكن لما تكون الأشياء على هذا النحو؟، لما أن المشروع الفلسفي مرفوض في العالم العربي؟، ما الذي يجعل الفلسفة الأولى، وهي أشرف العلوم، تحتل المرتبة الأخيرة عند دولة العوام؟، ألا تكون نهاية الاستبداد السياسي هي ما يبشر بعودة الأمل الفلسفي؟ . بإمكاننا تقريب الفلسفة من هموم الشعب اليومية، عندما نلبسها ثوب النقد السياسي، هكذا ستدخل للدفاع عن الحق في الحق، وإنصاف كل من يشتكي من الظلم، ونصرة الحرية والمساواة، والتحريض على ثورة الكرامة. هاهنا يتحول الفكر إلى مناضل بالنيابة عن الشعب المقهور، بيد أن هذا الشعب حين يقف كعائق ابيسمولوجي وانطولوجي أمام الفكر التنويري، فإنه يدعم موقف السلطة من الفلسفة، ويمنحها المناسبة من أجل اضطهادها. ويظل الشعب هو الشعب، شهيد الفقر والبؤس الاجتماعي، والجهل، والتخلف، ذلك أن الاختيار بين الحرية والكرامة، وبين الاستبداد والشقاء يتأسس على مقياس عدم التكافؤ، المقدس والمدنس، الأعيان والرعايا، الفقهاء والفلاسفة، النخبة وعامة الشعب. فما العمل؟ وإلى أي حد تتدخل الفلسفة في الحاضر؟ وما هي طبيعة هذا التدخل؟، وهل يجب استدعاء الفيلسوف الآن، بعد هذه الهزائم المتكررة؟. نخشى أن نستيقظ ذات يوم، فنجد أن الفيلسوف العربي يمتحن من قبل الغزاة كما وقع لأرخميدس عندما رفض دعوة القائد الروماني مارسيلوس، ذلك أن هذا القائد العسكري شديد الفضول بالعلم، وبخاصة أن أرخميدس كان عالما بالراضيات وبينما هو يرسم أشكال هندسية على رمال الشاطئ صرخ في وجهه أحد الجنود: «يريد القائد مارسيلوس رؤيتك»، دعني أكمل برهاني، فأجابه الجندي ما الذي يهمني من برهانك، ومن دون أن يجيب تابع أرخميدس حساباته، بعد هنيهة يقوم الجندي باستلال سيفه ويقطع رأس أرخميدس، ويسقط ميتاً ليطمس الشكل الهندسي . ربما يكون هذا المحو للبرهان الرياضي، بسيف السلطة يعرف السلطة بأنها عنف، فالعالم الخارج عن فعل السلطة تصبح حياته في خطر، إذ ليس المهم أن ينجز العالم مشاريعه وأبحاثه، لكن المهم أن تنجز السلطة عملها بالعنف، لأنها تملك الحق في الحياة والموت، ذلك أن مشروع أرخميدس في علوم الرياضيات والهندسة قد أثر كثيراً في نيوتن واستمر إلى يومنا هذا، لأن دراسته للانهاية لا يمكن القفز عنها، لم يكن هذا يهم الجندي الروماني، بل كان يهمه هو الطاعة للشرعية الرومانية التي اقتحمت الدولة اليونانية، فالعنف مقابل العلم، وجهان متعارضان للحقيقة.