من الأسئلة الساذجة التي تُطرح اليوم على الممارسة الفنية نجد سؤال: لمِ َيصلح الفن؟ وما الفائدة منه؟ هذان، بحق، سؤالان أكثر من ساذجين، لأنهما يضمران خلف براءتهما المزعومة عُنفا رهيبا ينبع من السؤال «التقني» الذي صارت حياتنا في مجموع تفاصيلها خاضعة له، والذي ينكشف كلَّما سألنا عن الفائدة التي يمكن جنيها من وراء أي فعل نقوم به. إن الأفعال، والأشياء، والكلمات، والزمن قد فقدت اليوم استقلاليتها؛ أي فقدت ماهياتها وحقيقتها، وصارت محكومة بالخدمة التي تؤديها؛ لذلك فهي تخضع للحساب، والتكميم، والتقويم، لأنها تدخل في منطق المبادلة والمتاجرة والمفاضلة. هاهنا، تصير قيم السوق صاحبة الكلمة الفيصل في كل مانقوم به. لكن، هل هذا حال يليق بمقامنا الإنساني؟ أليس الإنسان اقتدارا على التجاوز والتعالي؟ أليس في ماهيته حرية؟ إن الوثْبَ جهة الإنسانية يشكل الحدث الذي يستلزم حسّا غير اعتيادي بالتجاوز، واقتدارا هائلا على تحويل العالم، وجعله طوع يد جبروت الكائن المرعب (الإنسان)، وإن الحس والاقتدار كليهما هما ما لا يستطيعهما إلا فنان ملهم، يمكن العثور عليه وهو يتحرك بيننا خلسة، رشيقا أنيقا، عندما يحدث لنا حال الوعي بما ليس نحن. هكذا، ليس غريبا أن يكون ذاك الفنان الملهم هو حسن فتح الدين. يقيم حسن فتح الدين حاليا في مدينة الدارالبيضاء بعد رحلة تكوين طويلة بدأت بتخرجه من مدرسة الفنون الجميلة بالمدينة نفسها (1974-1977)، وسفره إلى بلجيكا لاستكمال دراسته بالأكاديمية الملكية للهندسة والفنون الجميلة ببروكسيل، وحصوله على دبلوم في التواصل السمعي البصري وشهادة السلك الثالث بمؤسسة فن الدراما بلوفين. بعد إقامته سبع سنوات في بلجيكا يعود حسن إلى المغرب ليشغل منصبا في دار الإذاعة مابين 1983 و 1985 إلى جانب بلامين والحامدي، ثم بعدها سيشغل منصب المدير الفني ل SHEM'S PUBLICITE مدة سبع سنوات، كما اشتغل بتدريس مادة التواصل بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك بالدارالبيضاء. تعد تجربة الفنان والمبدع حسن غنية جدا، ولعل شغفه بالتمكن من التقنيات الصباغية والغرافيكية لاحدود له، لذلك فهو غير قابل للتصنيفInclassable؛ إذ في الوقت الذي يُصرّ فيه على أنه غرافي Graphiste خالص، يبقى صاحب ريشة ولمسة متفردتين، ومن ذلك يمكن التمييز في عمله وأسلوبه بين بعدين إبداعيين اثنين، أولهما تقني– فني، وثانيهما فني خالص. يتجلى البعد الأول عند حسن فتح الدين في كونه، رجل حرفةArtisant ، وفنانا Artiste، وصاحب صنعة Technicien، ولذلك نجده متمكنا من كل العناصر التي تجعل الفن جزءا من الحياة الاقتصادية، بل وشرطا لها من خلال الإشهار والتواصل السمعي البصري الجمالي. هنا تجده في مقاولته Artisteam يحمل إلى الفن رؤية أخرى تجعله متاحا للناس كافة، ويخاطب الشرائح الاجتماعية كلها؛ إذ في الوقت الذي تُستهلك فيه المنتجات، وتكون موجَّهة إلى أن تصير من المهملات، فإنها تُقَدَّم في إخراج فني يحمل إليها الجمال ويحملها إليه، بل أكثر من ذلك، فإن الأيقونة أو المغلَّف الذي يقدَّم به المنتج يصير بديلا له في عالم الرموز والعلامات، وشرطا من شروط مبادلته، وتحريكه في باحات العرض والطلب والإنتاج. ولهذا فإن الاقتدار الذي تتملَّكُهُ فنية حسن فتح الدين في مجال المبادلة والمتاجرة لا يجعل الفن خديما للتقنية، بل يُخرجه من الأفول الذي تعرَّض له بسببها حسب ماقال ذات مرة الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر. إن الفن من هذا المنظور ليس انزواءً في ركن من أركان العالم للتفرج على الكفاءة التقنية- العلمية، وهي تُطوِّع العالم وأشياءه وزمنه، بل هو في ماهيته رديفٌ لهذا التطويع وذاكرتُه المنسية. قد تمثل مقاومة النسيان خلفية لتحديد الممارسة التقنية – الفنية لحسن فتح الدين، لأنه يوقظ وعينا دائما بأن العلاقة الأصلية التي لنا مع الكائن لا يمكنها أن تختزل في الاستهلاك، وفي سرعة الإنتاج والتوزيع، بل إن هذه العلاقة تقوم في أصالتها على مد المنتج بمساحة للتأمل، وفسحة للانفلات من سرعة السوق. هكذا فالفن عند الفنان حرية و مسافة؛ إذ في باحة الحرية والمسافة يحدث التأمل والتخلّص؛ أي يحدث أن نتخلَّصَ من لامبالاتنا بما يحدث حولنا ولنا. إن العمل(Oeuvre) أينما كان وكيفما كان يتحوّل إلى كلام لا نقوله بل يقال لنا، وعندما نخاطَب، فإن عزلتنا التي نحن مجبرون عليها في عصر التقنية تتحول إلى أُلفة وأُنس واستئناس، ولذلك فالعمل بالنسبة إليه فسحة وخروج. ليس هذا بالأمر الغريب على حسن، المشتغل بالتواصل، والذي يعلم جيدا أن شرط كل تواصل يقتضي حضور الإنسان الآخر؛ أي حضور إنسان يكلّمنا ويقدّم العالم إلينا ونقدمه إليه، فنحن لا نكلّم العالم والأشياء، بل نتكلم مع الإنسان حول العالم، والوجه الإنساني هو هذا الفنيُّ نفسه، وهو هذا الكمال الذي تُقدَّم به وفيه الألوان، والخطوط، والنور، والعتمة، والحركة، والسطوح. إن الفن، بدءا، إتقان وكمال؛ وهذا مايكثفه حسن في عمله كله ويقدمه لنا، وما يسعى إلى الاعتناء به على نحو نُسكي يصيب كل مستسهل للفن بالدوران. ولعل هذا الأمر هو ما يجعل الكلام عن البعد الثاني في عمله وأسلوبه ممكنا. هناك فكر معين يحايث أعمال حسن ويصوع تيماتها، وهو الفكر الذي يخاطبنا من وراء بلاغة اللون، والنور، والعتمة، والحركة، والخط... ومحاولة تَجْلِيَةِ هذا الفكر هي المغامرةُ عينُها التي نحاولها تَرَسُّمَها هنا. يرسم حسن بورتريهات لوجوه مغربية معروفة، كما يرسم بورتريهات لأصدقائه ولأفراد عائلته، ويجعلها بالغة الدقة، ومضيئة، وذات واقعية فائقة، وهي كلها عبارة عن هدايا لأصحابها، لأنها بالنسبة إليه لا تقبل أن تباع، ولا أن تقايض بأجر؛ إذ هي العطاء عينه، والجود ذاته اللذان يصنعان العائلة الكبيرة إلى درجة أننا قد نغامر بالقول إن الفن عنده فكر الإنسانية من حيث هي عائلة، وهذا ربما سر كونه يقيم المعارض من أجل غاية واحدة هي مقاسمة عشاق الفن ومتأملي لذته وعمقه ممتنعا بذلك عن جعل لوحاته معروضات للبيع. من بين الأعمال التي أنجزها حسن نجد أبواب شالة، والحضرة الكناوية، ووجوه إميشيل، وعربات تقليدية، وأسواق شمال المغرب... وكلها مشاهد تحيل إلى المأثور المغربي الذي يُعبِّر عن حياة المغاربة قبل أن تصوغها الحياة المعاصرة، و قبل أن تُلبسها حُلل المحدث وأحوالَه. حياة تشهد على أسلوب في العيش يوصف عُنوةً بالتقليدي. لكن لمَ يفكِّر حسن في هذه المشاهد؟ أليست هي ما يمنح لعين الأجنبي الذي يراها غرابة؟ أليست توصف بالفولكلور الذي تقرأ فيه عينٌ متعجرفة أصول حضارة «متقدمة» تُحَوِّلُ المُختَلفَ إلى «مُتخلِّف»؟ إن هذه النظرة المتعجرفة هي مايضعه حسن في زاوية المساءلة، فيرسمها ليجعلها قيد إطار تُسلّط عليها فيه العين والنظرة، ولهذا يضعنا وجها لوجه أمامها. لكن عندما يصورها على نحو فائق الواقعية، يُخرجها من الفولكلور، ويجعلُها ناطقة ومتجلية بالحياة، فهي مشاهد (السوق، والأبواب، وإميلشيل، وكناوة....) لا تمنح أصلا مفقودا بل تمنح حياة مستقبلية، ولسانُ حالها يقول: إن حياة المغربي الذي أبدع هذه الحياة وأشكال تجليها، كان إنسانا عبقريا ومبدعا، وعبقريته وإبداعيته هما ما ينفتح مستقبَلاً ومستقبِلاً ومستضيفاً، ولذلك فهما ما لا يمكن أن يكون قُنْيَةً لعين ترى التقليدي متخلِّفا. تسمح لنا مصبوغات حسن برؤية المشاهد، وكأنه لم يسبق أن رأيناها؛ فالعربة الملقاة أمامنا وقد غادرها حصانها تبقى واقفة هناك في اللا – مكان، وتصدمنا قيمومتها تلك عندما لا تخبرنا إلا بالجمال، فتسائل سذاجتنا التي تراها شقاء. فإذا كانت الحياة تراجيديا نعيشها، فإننا لا نحصل على خلاصنا إلا فيها، وفي عنفوانها، لأن حياة خطيرة مثل هذه، إنما هي أكثر حياة من حياة مترفة ترى الرفاهية خلاصا. يرسم حسن كذلك أبواب شالة على نحو بالغ الدقة وفائق الواقعية، وبهذا يبسط يده على المعمار، ويقاسم المهندس فكرة العمارة. إنه يرسم مشاهد متناغمة للأبواب وللجدران وللأزقة، وكلها عناصر تضع حدودا بين الداخل والخارج، وترسم مسالك للعبور وللعابر. لقد شيد أجدادنا عمارة تعتبر الحياة قائمة في الداخل (داخل البيت)، والزقاق شريان ينجز وظيفة العبور ويبسطها في تمام ماهيتها؛ ولذلك لا يمكنه أن يكون مُقاما للتجار، وللحركة الدائبة للفرجة أو للسلعة، إنه ينمحي أمام السكينة التي تعيشها منازل العباد تحت قبة السماء. هكذا يجعلنا حسن نحاور جذورنا عبر جدراننا التي لم نعد نشيدها على النحو الذي شيدها عليه أسلافنا، إنه يجعلنا وجها لوجه مع ذواتنا في اللحظة التي نغترب عنها. لوحات حسن أو مصبوغاته «مضيئة» ومُنَارة، وهذا أمر يثير الحقيقة المتفرِّدة التي يتجلى بها النور، حقيقة قائمة في كونه ما لا يُرى في اللحظة التي لا تكون الرؤية ممكنة إلا به؛ ومالا يمكن أن يكون شيئا في الوقت الذي تبقى فيه الأشياء التي تُرى «أشياء»؛ إنه الخفي أو الغائب القائم في الظاهر أو الحاضر. يترك الأشياء تظهر، وكأنها تُخلق وتولد من عدم (عتم)؛ يقتادها إلى وعينا ويتركها تلج إليه، ولهذا فوعينا الذي يفارقه النور إنما يصير ظلاما دامسا. إن بلاغة النور هذه هي ما يعتمل داخل جدلية الأسود والأبيض في مصبوغات حسن حول موسيقى كْناوة التي هي الاحتفال بالمقدس، وبالغائب، وباللامرئي، والتي تسمى حضرة. ولذلك فهي استحضار واستدعاء لهذا الغائب.الأبيض، إذن، لون خِرقة خادم الحقيقة / الجلال/ الله، ولذلك فالكناوي هو هذا العبد الضعيف الفقير إلى الله، الذي يلبس الأبيض. أما الأسود فهو هذا الوجود المعتم، وهذه الكثافة التي تحجب هاته الحقيقة / الجلال / الله. في الأبيض يتجلى المقدس ويصدم العين رغم أنف الأسود وكثافته. فإذا كان هذا الأخير في الكتابة هو من يكتب اسم الجلالة على الورق الأبيض كما تفعل السلطة المحتكرة للنصوص المقدسة، فإن الأبيض هو من يكتب اسم الجلالة على الوجود المظلم كما تفعل حضرة الكناوي. ومن هنا، يكون الأبيض والأسود هما بلاغة المأدبة، التي يستضاف إليها المقدس، والتي كانت منبعا للآداب التي يتربى عليها الفقراء إلى الله. ولعل هذا ما تُسِرُّ به اللوحة إلينا على نحو باذخ الجمال. يجتهد حسن فتح الدين في تخريج فنية غير مسبوقة، لأنه وهو يصوّر مشاهد من الحياة المغربية إنما يصدر في ذلك عن مقام تأملي مخصوص يكون فيه انطباعيا على طريقته؛ إذ يرسم ذاته التي تنظر إلى هذا العالم، كما يرسم حالة وهو أمام هذا الذي يمنح، لكن هذه ال «ذاته» تبقى مضلِّلة إن نحن فهمناها وكأنها حال حسن نفسه، بل هي حال كل من يقف في مقامه التأملي الذي هو حالنا نحن مغاربة اليوم. يدفعنا إلى مصادر ذواتنا، وإلى منابعها التي لا تنضب؛ فاللوحة تقول أكثر مما تقول؛ إنها مزاج، وكيمياء، وروح. صفاء الألوان، ودقة الخطوط، والواقعية الفائقة للمصبوغ تحملك إلى روائح السوق وأصواته ومزاجه، وإلى وجوه نساء إملشيل، وإلى سكينة المدينة العتيقة وبهائها؛ أي تحملك إلى مالا تقوله كل «مصبوغة «. إن التعبير عن ذلك كله يتطلب من حسن استعمال تقنيات متعددة قد يهمنا منها الآن دلالتها وتعبيريتها. فهو بالأساس يرسم الثيمة لا اللوحة، ولذلك تجده يستعمل اللون نفسه وخلطته في مجموع اللوحات المخصصة للثيمة نفسها، وبذلك فهو ينجز هذه المجموعة من المصبوغات في الآن نفسه، ويرسمها دفعة واحدة، وكأنها لوحة واحدة قِطَعها موزعة على لوحات صغرى. إنها اللحن المتناغم الواحد الذي تؤدّيه جوقة واحدة، ولكل عازف فيها نغمه الذي يعكس الكل على طريقته. هذا سر من أسرار كيميائه الصباغي، وهو العازف المتمكن من آلات موسيقية عدة، فعندما يمسك ريشته، فإن أنامله لا تفقد ذاكرتها الموسيقية. هكذا يعلمنا حسن أن الفنان المغربي يسكنه أستاذ كبير يستشعر (كما قال لي ذات لقاء) ضرورة تشييد أكاديمية للفنون تخرج الفنان المغربي من العفوية، وتحرره من «الرسام» الذي تختزله فيه الثقافة السائدة ذات المنزع السطحي، فتطمس فنّيته. ليس غريبا أن تتوجه أعمال حسن إلى رسم الحياة المغربية ما قبل اللحظة المعاصرة؛ إذ اللقاء الأول بالعمل الأكاديمي كان مع المليحي وبلكاهية وشبعة في انعطافهم بالدراسات الجمالية الصباغية إلى ما بعد البرامج التي نهجتها المدرسة الفرنسية في مدرسة الدارالبيضاء للفنون الجميلة. لقد كانت محاولتهم تلك محاولة لإبراز الشخصية المغربية ومدها بعناصر الثقة اللازمة لها. غير أن ما يميز عمل حسن فتح الدين كونه لا يصدر عن موقف نضالي يناصر الهوية، بل ينطلق من موقف فني كوني يناصر الفن باعتباره لغة كونية. ولذلك لم يتجه إلى الخط أو الرمز أو التجريد أو التجسيد، بل اتجه رأسا إلى الواقعية الفائقة ذات الملمح الانطباعي. وذلك، بحسب اعتقادنا، لأنه يريدنا أن نرى ما لا نريد رؤيته؛ فالغالب على التصنيفات الأكاديمية خلفيتها التي ترانا حضارة كلمة، ومن ثم تبرز شخصيتنا الفنية في الحروفية وفي التزيين بحيث تكون فنوننا (الزربية، والنقش على الجبص، والخشب، والزليج) كلها تلوينات للكتاب ودوران حول اسم الله، بل إن هامش هذه الحضارة (الوشم والمثل...) يتحول إلى نقيض لسلطة الكتاب وهامش له ومفكك للجسد الحمدلي كما يسميه عبد الكبير الخطيبي. ومن هنا يكون هذا اللامرئي بالنسبة لنا هو الحياة ما قبل الصناعية/الحديثة عندنا، فهي ليست مجرد حلم، رغم صعوبة تحريرها منه. ولذلك فهذه الحياة هي نفسها الحدث الفني الذي لا يُختزل في الكلمة أو في الكتاب، وهذا ما لا يجعلها ذاك الأمر الغريب الذي يحدث في بلاد العجائب. إنها بكل بساطة تجربتنا التي مازال في الروح شيء منها. تجربة يجهّز حسن ما استطاع من تقنية لتخريجها ليُسِرَّ لنا بأن المغربي الذي «يرسمها» قد صار يتملكها، ولم تعد تَتَمَلَّكُهُ. لقد صار بذلك ندّا لمن حوله إلى فولكلور.