«عندما يتقدّم المرْءُ في العمر، يبدو/ أن للماضي نمطاً آخر، ولا يبقى مجرد تسلسل-/ أو حتى تطوّر: فهذا التطورُ وهْمٌ لحدّ/ تشجّع عليه آراءُ النّشوء والارتقاءِ السّطحية،/ ويغْدو، في عقولِ العامة، وسيلة لانكار/ الماضي.» ت.س. إليوت. برغم قراءتي للنص أكثر من مرة، لا أزعم أنني أملك جواباً/ كلمة تُحيط ديوان الذهبي مشروحي وتُضيء مغالقه. فهو عمل مكثّف، ولا بد أنه كلّف صاحبه جهداً مضاعفاً: جهدٌ للتأمل وجُهْدٌ للكتابة. وإذا جاز القول بوجود «لغة شعرية»، فنحن نرى بأن هذه اللغة وَحْدَها، قادرة، كجرعة مورفين، على عتْقِ هذا الكائن البشري من ربْقَةِ وعيه بشقائه وبواقع كونه كائن منذور للموت وبواقع تصوراته وأنماط تفكيره وتقاليده... التي يتوارثها دونَ فَحْصٍ ودونَ أسئلةٍ عن أسباب حُدُوثها وكيف سارت إليه وكيف عَجنَتْهُ. لذلك فسؤال التاريخ حاضر في هذا العمل، ليس في شكل أحداث ووقائع ولكن كتراكم كارثي وساخر، عن سيرورة الإنسان في مصيره مع تاريخ أسماءٍ ورموز وأحكام (جائرة)، تسرّبت مع الوقتِ أو فيه، حتى باتت سماء. فعلى مساحة خمسين صفحة، ظل الذهبي يحفر في الذات من حيث هي خليّة كلماتٍ، يحفر بشغفِ العطشانِ، يحفر بأظافره، يكتب بأسنانه، يكتب وهو على جَنْبهِ أو على ظهره... وكما يقول نيتشه: «أنا لا أكتُبُ باليد وحدها، الرِّجْل أيضاً تريد على الدّوام أن تكتب. صلبة، حرّة وشُجاعة، تُريد أن تكون، مرّة على الحقول ومرّة، على الورقة»؛ يحفر بلُغَةٍ تارة، تجدها مبنية بإحكام فرعوني، ومرة تحسها كانفجار، أو كمن قدَفَ في وجهك حفنة رمل أو تراب، لا تتلمس المعنى إلا وعينيك مغمضتين تتحرّقان من الألم. النص يضم أكثر من 300 شذرة، موزعة على خمسة أقسام بدون عناوين. شذرات: بناءات، تُطلُّ منها على الآخر وهو ينشد حيرته أمام المجهول. يقولُ في شذرة من الدّيوان: «البراغي التي تَشُدّ صباحي إلى بعضه تنسلّ من مواضعها، تنسلّ من قوة الذكريات التي تَرُجّ صرح ذاتي. لا توجد ذات خارج الكلمات، تاريخي مكتوب بالإشارة، ولأُطلّ من لغتي على ذاتي، أشرعت نوافذي على هذا الغياب». وأنت تتنقل كفراشة من شذرة إلى أخرى لا تنفك تتساءل: ألا يعدو أن يكون هذا العالم مجرد غيبوبة؟ وإذا كان كذلك، فمتى نخرج من هذه الغيبوبة؟ يقول في شذرةٍ أخرى: «الأيام بين يديك، وليلٌ يدنو من سرير الكلمات. وراء المتاريس صمت وألم يُداعبان الأعضاء بالرُّعاش. الفراشات والعشب والسفر، الجحور والزواحف والترقّب، يطول الأمد، يقصر شبراً والعين تأكل من الجسد... الجسد والتفتّت والتعريّة، يا صاحبي فالعين سراب، وُجُوهُ الأمس ترمم أقنعتها، تخيط بكلمات مهترئة صباح الأيام الباقية، وأنا هنا من قبل ما أولد، أنظر للكأس، أنصت لمائها المعتّق، وبقدر ما احتملتني أشرب، بدون لجام أشرب، بدون صفير أشرب.». وأنا أقرأُ وأعيدُ القراءةَ، وجدْتُ أنّه من الصعب، إحاطة اللاّشيء الذي يقترحه هذا المنجز الشعري، فمن أين لي أن أتصوّرَ نفسي خارج اللغة؟ أنا كائن لغوي، والقارئ الحصيف ينتبه إلى عدم وجود جُمَلٍ مُفيدةٍ (ليس هناك ما يفيد خارج هنا والآن). ويقول «الطاهر أمين»، ناقد وباحث تونسي: «جاهزية الأجوبة هي حيلة المثقفين لحجب أسئلة الواقع التاريخي الذي يثقب العين والقلب معاً. والحجب هو العجز المكشوف عن قراءة الحاضر المرمي في الهامش». الذهبي مشروحي شاعر هامشي، آثر أن يبقى في الظل في وقت يتهافت فيه الكثيرون على الواجهة. يقرأ ويكتب ويرسم ويهيم على وجهه في الأرض... يتابع ما جدّ في سوق البلد من جديد، وبصفته رجل تعليم مازال يساهم في إنعاش حياة المدرسة، وبصفته كاتباً ورسّاماً فهو يساهم في تحريك المشهد الثقافي من خلال جمعيات ومجلات وجرائد... برغم معرفته الرّاسخة من أن السلطة حسمت ورسمت المساحات المعرفية اللازمة لقضاء حوائجها. ولأنه واع بدوره كمثقف، وبرغم شعوره العميق بالغبن، ظل ينشد مع محمود درويش قوله: «سمائي فكرة، والأرْضُ/ منفايَ المفضّل». مناضلٌ يساري، غيّبهُ السجنُ لسنواتٍ زَمَنَ الرّصاص، وكباقي المعتقلين السياسيين أذاقوه ما لذّ وطاب من صنوف التعذيب. توطدت علاقتي به في يوم دفْنِ المناضل الحقوقي «إدريس بنزكري»، كنا نتسلل من بين القبور ونحن نتحدث عن (حقّ) هذا (الشعب) في الذاكرة، عن الحرية والإبداع والموت، عن قسوة السجن ورُهاب الزنزانة... وكبدايةٍ لعلاقةٍ تُنشد الإبداع، مَدَّني بكتابِ «نبش في الحائط»، عمل شعري كتبه في معتقل «اغبيلة» وأصدره عند منشورات الموجة، سنة 1999، ثم تلاه «ماء الأفق» شعر، منشورات الموجة، سنة 2000، و»شُبهة الطين» شعر، صدر عن منشورات اتحاد كتاب المغرب، سنة 2008. كلّ نصوصه تتساءل، بشكل أو بآخر عن - هذا / ذلك الشيء- الذي يُعَدُّ الأكثر ترْويعاً في الحياة، وهو: ألاّ يعرف الإنسان دوره فيها، في الحياة. وفي هذا العمل الأخير، الذي وسمه الشاعر الذهبي مشروحي بعنوان: «بقدر ما تحتملني الكأس أشرب»، نجدُ نفَساً آخر، لا يختلف من حيث المبنى عن سابقيه، لكنه مُغايرٌ من حيث الشرفة التي باتَ يطل منها الشّاعرُ على العالم. ونظرا لما يكتسيه العنوان من أهمية دلالية في كل نص، ارتأينا أن نَنْظُرَ منه، قليلاً، على عالم الذهبي المَعْمِي في ثنايا جملة: «بقدر ما تحتملني الكأس أشرب»، عنوان بمثابة سُلّمٍ يربط، بين أسفلٍ وأعلى، داخل وخارج... بين التحمُّلِ والاحتمال، إذ الكأس في العنوان هي لحظة مرغوبة ومطلوبة بشدّة، لحظة لها سقف ولها مزاج، وعلى امتداد النّص هي مواضع مختلفة وصور متنوعة يتبدّل فيها الوقت ويتمايز عن بعضه ويتماوج بقدرة الشارب على ابتداع الحياة. والكأس هنا هي عكس كأس الخلود، وهي ليست مجرد أداة، لكنها ذلك السرّ الذي كلما تكشَّفَ تخفّى، إنها أمزجةٌ ونظراتٌ تُلْبِسُ اللحظات والأشياء معنى، وقد تُعرّيها.. لذلك، فالإتيان عليها رهينٌ بقدرة الجسد وقابليته على الشّراب/ على الحياةْ. والجسد في النص يتجاوز الجسم- البهيمة، إلى الجسد الثقافي أو ما يُطلق عليه بالبُنيان الحضاري الذي يحيا في اللغة، ويعيش أعْطابَ خيالاته وتصوراته فيها. وبرغم حَسْمِ مشروحي لجنس الكتاب/ النص، وإعلان اختياره للشعر، لا نلبث نجد فيه أنواع أدبية أخرى، تتمازج. وهذا التنوع راجع في نظرنا المتواضع إلى اهتمامات الشاعر الفلسفية، ونوعية الأسئلة الوجودية وطريقة تناولها في النّص، بالإضافة إلى الكتابة الشذرية التي تُعتبَرُ كتابة مُضاعفة، فالشذراتُ في النّص هي، لحظات ومواقف، تتحكّم فيها الكأس بما هي حال وإمكان وقابلية الجسد ومدى قدرته على ابتداعِ لُغَةٍ بسقْفٍ يتجاوزُ عُروشَ الآلهةِ التي لجَّمَتِ الكائن البشري بلسانٍ يُعيق انحلاله الهادئ والسلس في الزمان والمكان؛ وهي كتابة مضادة، صخرة يتكسر عليها كل قول ينتصر إلى حتمية القدر ونهائية الأحكام وتمام الأجوبة. فما معنى القدر؟؛ هي شكْلُ يستدعي فيه النّاظر ما تخفّى من أفهامٍ وأسئلة عابرة في الزمن، وتبقى جاذبية اللحظة وحدها، تستحضر وتُجْلي عناصر ما هي عليه صورتها. لذلك، فنحن لسنا ما نحن عليه، نحن كل الاحتمالات التي يمكن أن تفتح عليها الكأس، وكما يقول هيراقليط: «لا دوامَ إلاّ للتغيير». لذلك، فبين شِقَّيْ سؤال: من أين جئتُ وإلى أين سأمضي؟ يضيع العالم ويتخشَّبُ اللسان. وهذا الكائن الشقي، الجميل والمغرور، يعرف دون أن يجد حلاًّ لهذه التراجيديا المسماة: حياة، أنهُ منفيٌ إلى جانب الحيوان والنبات والألوان والحجر... على هذه الأرض. فلا سماء للأرض من دون اللغة. فعاهة هذا الكائن المستديمة هي لسانه، فهو لا يملك صورة على نفسه خارج اللغة. من دون اللسان يحس أنه عَارٍ ومتروكٌ لوحدته وللصمت. من أين جئْتُ ولماذا أليق؟ ما معناي خارج جسدي؟ من أين يأتي الألمُ؟ لماذا أخافُ؟ وتتوالى الأسئلة والصور حارقة بقدر ما يحتمل القارئ. في شذرة يقول: «من شبابيك عالية تطل الغيوم، الأماسي لا تتشابه وأنا لم أولد كبيراً، قالت لي أمي وهي تُشير بإصبعها إلى الصومعة: خوفي عليك من هذه البئر، إنها غدرت بيوسف». وفي أخرى يقول: «فرضاً تدفقت دَوَاةُ حِبْرِ أبي في جيب التاريخ، وتدفقت الرائحة على صدر الرغبة، ومشى الجوع على بطنه حِمَماً إلى الجبل الذي تعرّى من لهيب النار وتفحمت أشجاره وريشه وهجره الظل... فرضاً في الرماد بداية أخرى.. فرضاً أني حي كما تدّعين». ونرى من موقع القارئ العاشق، بأن ديوان «بقدر ما تحتملني الكأس أشرب» هو أثَرُ مغامرةِ الذّاتِ الكاتبةِ في وجودٍ هو وجودها، أثَرٌ شعري مكتوب بقلق من يتطلع إلى خارج اللغة... شذراته هي بمثابة درجات، تقرأ وتحس أنك ترتقي سُلّماً/ دُخّاناً، وتقرأ وتحس أنك تنزل... ماذا رأيتَ من أعلى؟ كلّ القمم تُطلّ على أسفل. وماذا في أسفل؟ قبور/حيواتٌ مرتعبة/ كلمات تتراصف، تتزاحم، تبغي تفسيراً لمصيرها الغامض.