لقاء يجمع وهبي بجمعية هيئات المحامين    نهاية أزمة طلبة الطب والصيدلة: اتفاق شامل يلبي مطالب الطلبة ويعيدهم إلى الدراسة    الحكومة: سيتم العمل على تكوين 20 ألف مستفيد في مجال الرقمنة بحلول 2026    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    هولندا.. إيقاف 62 شخصا للاشتباه في ارتباطهم بشغب أحداث أمستردام    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا ابتداء من 11 نونبر الجاري بالرباط    الطفرة الصناعية في طنجة تجلعها ثاني أكبر مدينة في المغرب من حيث السكان    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    امستردام .. مواجهات عنيفة بين إسرائيليين ومؤيدين لفلسطين (فيديو)    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    هذه الحصيلة الإجمالية لضحايا فيضانات إسبانيا ضمن أفراد الجالية المغربية    المغرب يشرع في استيراد آلاف الأطنان من زيت الزيتون البرازيلي    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    "إل جي" تطلق متجرا إلكترونيا في المغرب    الأمانة العامة للحكومة تطلق ورش تحيين ومراجعة النصوص التشريعية والتنظيمية وتُعد دليلا للمساطر    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر        نقطة واحدة تشعل الصراع بين اتحاد يعقوب المنصور وشباب بن جرير    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين    طواف الشمال يجوب أقاليم جهة طنجة بمشاركة نخبة من المتسابقين المغاربة والأجانب    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    مجلة إسبانية: 49 عاما من التقدم والتنمية في الصحراء المغربية    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    تحليل اقتصادي: نقص الشفافية وتأخر القرارات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية تُضعف التجارة في المغرب        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    الأمازيغية تبصم في مهرجان السينما والهجرة ب"إيقاعات تمازغا" و"بوقساس بوتفوناست"    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مخرجون نجوم ... إنغمار بيرغمان.. «سينما الغرفة»

امتدَّت حياة إنغمار بيرغمان المهنية الحافلة على مدى ستين عاما وشملت أعماله أربعة وخمسين فيلما بين السينما والتلفزيون ومئة وستة وعشرين انتاج مسرحي وتسعة وثلاثين مسرحية اذاعية، وقد سعى بارغمان الى تخطي طفولته التعسة بأعمال سينمائية متميزة دارت معظم مواضيعها حول العذاب الجنسي والبحث الذي لاجدوى منه عن معنى للحياة.
أول لقاء لإينغمار بيرغمان مع عالم الأفلام بدأ سنة 1944 حين عمل بارغمان على كتابة سيناريو فيلم هاتس الذي حصل على الجائزة الكبرى لمهرجان كان وأثار جدلا حادا عن المنظومة المدرسية في السويد.
أما الإنطلاقة الفعلية على المستوى الدولي فوقعها إينغمار بيرغمان بإخراجه فيلم إبتسامات ليلة صيف سنة 1955.
ومن الطبيعي أن يسجل إينغمار بيرغمان إسمه في سجل جوائز الأوسكار للسينما العالمية ليس مرة واحدة فقط، حيث حصد أربعة تتويجات من الأوسكار لأربعة من أفلامه هي:
صيحات وهمسات، «عبر المرآة»، «يونغفريشالان»، وأخيرا فيلم «فاني وألكسندر» الذي أخرجه بارغمان سنة 1982.
إينغمار بيرغمان كان قد وضع حدا لمسيرته الإخراجية سنة 2003 حيث كان الفيلم التلفزيوني ساراباند آخر فيلم يحمل توقيع إينغمار بيرغمان، ففي آخر يوم من تصوير الساراباند باستوديوهات «آس في تي» أعلن بارغمان أنه أيضا آخر يوم في مسيرته ككل وقال أن اليوم الأول من المسيرة ذاتها كان ذات يوم من سنة ألف وتسعمئة وخمسة وأربعين وهو تاريخ سينما بأكمله على حد تعبيره.
لبيرغمان الكاتب له إصداران: «صور عام 1999، وقبل ذلك في 1987»المصباح السحري» تناول فيه بيرغمان وبصراحة حياته الخاصة والفنية،وطرح لآرائه وتجاربه الفلمية والمسرحية ومناحيه في الكتابة والتفكير.
ومثلما كان عمل إنغمار بيرغمان من وراء الكاميرا كانت حياته كذلك، حيث لم يكن بيرغمان يحب أن يكون تحت الأضواء ولم يكن يكثر من الحوارات الصحفية، وربما يعود ذلك إلى طبيعته الشخصية، وليس إلى حجمها إذ سبق وإن إعترف بيرغمان ومن إحدى منصات تتويجاته العالمية في بداية رحلة الإخراج السينمائي والتلفزيوني بطبعه الخجول.
طوال حياته، ظلّ إنغمار بيرغمان يضع رجلاً وراء الكاميرا وأخرى على الخشبة. إلى جانب أفلامه، وقد ترك إنتاجاً مسرحياً فاق الأربعين عملاً. و كان لهذا «الانفصام الفني» تأثيرات جذرية في سينما برغمان، مما جعل أفلامه التي اتسمت بمنحى نفسي يسعى إلى تفكيك العلاقات الإنسانية وسبر أغوار الطبع البشري، ورصد ما يحركه من مكبوتات اجتماعية وميتافيزيقية، تستلهم فن المسرح وروح التراجيديا والمنحى المينيمالي والفضاء المغلق.
لم يكن مسعى المعلم السويدي بيرغمان الهادف إلى «مسرحة السينما» هيناً. فباكورته «أزمة» (1945) مُنيت بفشل نقدي وجماهيري. لكنه لم يأبه، بل واصل المنوال التجريبي ذاته. ثم سرعان ما بدأت سينماه تلفت النقاد ببصماتها الأسلوبية المغايرة ومضامينها الصادمة. وفد ساعده في ذلك النجاح الذي حققه مسرحياً في عمله المقتبس عن «كاليغولا» ألبير كامو، مما دفع بعض النقاد إلى اعتبار أعماله تلك المرحلة «معادلاً شمالياً» للسينما الاجتماعية التي نشأت في فرنسا الثلاثينيات عبر أعمال جان رونوار ومارسيل كارنيه. هذا الأخير عدّه برغمان من أبرز معلّميه. وقد تُرجمت تلك التأثيرات الفرنسية في فيلميه «نحو الفرح» (1950)، و»أسرار النساء» (1952) اللذين اتسما بنبرة نقدية للدين والقيم المحافظة.
بعد ذلك، استعاد الروح التجريبية التي طبعت بداياته وعمق أبحاثه الأسلوبية التي خوّلته ابتكار صنف غير معهود من الأفلام القائمة على «سينما الغرفة» ذات الإيقاع البطيء التي يحتل فيها الصمت مكانة بارزة.
برز هذا المنحى للمرة الأولى في «صيف مع مونيكا» (1953) ثم تكرس عبر «درس الحب» (1954) و»ابتسامات ليلة صيف» (1955) الذي قُدِّم ضمن المسابقة الرسمية في «كان»، إذ منحه النقاد جائزة «الفكاهة الشاعرية». ثم عاد برغمان إلى الكروازيت ليفتك «جائزة لجنة التحكيم» برائعته «الختم السابع» التي أبهرت نقاد السينما بمنحاها التأملي حول الحياة والموت والقيامة. حتى إنّ بعضاً عدّ برغمان «وجودياً قبل الوجوديين». تتويج برغمان ب»الدب الذهبي» في برلين عن فيلمه الأشهر «الفراولة البرية» كرّسه نهائياً في مصاف الكبار، وانهمرت عليه العروض من أميركا وفرنسا وإيطاليا. لكنه فضل البقاء في «القلعة الشمالية» التي صنعت فرادة أفلامه المشبعة بالروح النقدية، والفكاهة الباردة للإسكندينافيين.
صار كل عمل للمعلم السويدي يُستقبل كحدث. توالت روائعه من «عتبة الحياة» (أفضل إخراج في «كان» 1958)، و»الوجه» (1958) إلى «عين الشيطان» (1960). ثم جاء «عبر المرآة» (1961) ليعكس كل عبقرية برغمان. أبهر الشريط النقاد بأسلوبه التأملي في مساءلة قضايا ميتافيزيقية شائكة كماهية الحياة ووجود الله (أو عدم وجوده).
كان «عبر المرآة» الجزء الأولى مما سماها برغمان «ثلاثية الغرفة» («ضوء الشتاء» و»الصمت») التي تدور في فضاءات مغلقة وتصوّر شخصيات معزولة وعصابية. قبل 4 سنوات من رحيله، قدّم «ساراباند» ثم اعتزل متأثراً بوفاة زوجته الأخيرة إنغريد فون روزن. عاش معزولاً في بيته في جزيرة «فارو» لغاية رحيله في صيف 2007.
من الأمور المهمة لدى بيرغمان أن الفيلم ينبغي أن يحتوي على رسالة يوصلها صانع الفيلم للمشاهدين، رغم أنه في بعض الأحيان يتوه بإيصال رسالات أفلامه لمشاهديه، بسبب خطورة الأفكار التي يريد إيصالها. أفلام بيرغمان غالبا ما تمثل نقاشا فكريا دسما لعشاق الفن السابع، فهي غنية فنيا وتحمل إشباعا فلسفيا للمشاهد، بحيث تجعل لكل مشهد من المشاهد أكثر من فكرة وأكثر من رأي في تحليله. دائما ما تبحث أفلامه في الأسئلة الوجودية، عن وجود الإنسان على هذه الأرض، ما هي مهمته، وإذا كان هناك سبب أصلا لوجوده. ورغم إلحادية اسئلته وقسوتها الظاهرة، إلا أنها تحكي لنا عن أوروبا وتاريخها المخزي في النصف الأول من القرن الماضي، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية وحصدها لملايين الأرواح البريئة. وبيرغمان كإنسان عاصر تلك الأحداث العظام يطرح هذه الأسئلة بنفسه لعله يجد الجواب أو يظل في تيهه يبحث عن النور في الظلام المطبق. ولعل هذه الأحداث الكبرى هي التي أوحت له بفيلمه العظيم «الختم السابع»، الذي أطلق شهرته للعنان.
يتحدث فيلم «الختم السابع» عن فارس صليبي يعود من الحملة الصليبية، بعد عشر سنوات من غيابه، إلى بلده السويد الذي كان يحتضر في ذلك الوقت من الطاعون الذي فتك بأرواح الملايين من البشر. يقابل هذا الفارس بطريقه للبيت «الموت»، ويستطيع الفارس أن يتحايل على «الموت» بتأخير موته من أجل أن يلعب معه لعبة الشطرنج. في أثناء اللعب يسأل الفارس «الموت» أسئلة وجودية عن الإيمان، والحقيقة ووجود الرب. إنها الأسئلة ذاتها التي سألها الشبان الأوروبيون بعد الحرب العالمية الثانية، لماذا يدعنا الرب نعاني ونعذب هكذا؟ لماذا يهلكنا الطاعون بينما لم تكن الحملة الصليبية إلا في خدمته؟ أغلب أفلام بيرغمان تتحدث عن ذات الأسئلة التي طرحها بيرغمان بفيلمه «الختم السابع»، بل إننا قد نجده في بعض الأحيان يتأرجح في أفكاره ما بين مؤيد مرة أو معارض. ولأن الأفكار العظيمة مربكة وتربك من يحاول الولوج فيها، فإن شخصية بيرغمان نفسه شخصية مربكة متناقضة. فهو في إحدى المرات يختار أفضل أفلامه، بينما يظهر مرة أخرى ليقول بأن أفلامه لا تستهويه وأنه لا يرغب بمشاهدتها مرة أخرى. كما أنه دائما ما يؤكد حبه اللانهائي لزوجته أنغريد بيرغمان إلا أنه خانها مرارا وتكرارا، وقد أنشأ علاقات حب مع أغلب بطلات أفلامه. رغم أن بيرغمان ليس من أولئك المؤمنين إلا أنه تمنى عندما كبر في العمر أن يصبح متدينا، وأن يجد الإجابات على أسئلته، بالرغم من أن رؤية أفلامه لا تمنح المشاهد فكرة عن رؤية هذا الرجل للدين والمتدينين، فهو تارة يكرههم ويحقد عليهم مثل فيلمه «الختم السابع»، بينما تجده في فيلم آخر يقدمهم على أنهم الملائكة، التي تعيش على هذه الأرض مثل فيلمه الأفضل «صرخات وهمسات». لم يكن الدين الموضوع الوحيد الذي ناقشه بيرغمان بأفلامه، بل إنه تعدى ذلك ليقدم فلسفته عن النفس البشرية ويغوص في أعماقها ليثبت لنا أنه عالم نفسي بقدر ما هو فيلسوف.
يقدم بيرغمان في فيمله العظيم «الصمت» قصة اختين لا يجمع بينهما إلا الوالدان فقط، فهما متناقضتان في كل شيء. الأخت الكبرى تحتضر وترافقها أختها الصغرى لمحاولة رعايتها أو ربما زيادة معاناتها. وبينما الأخت الكبرى امرأة مثقفة ذواقة للفن والموسيقى، شاذة جنسيا تؤمن بأن المرأة يجب أن تتحرر من تبعية الرجل (صورها بيرغمان تبعا للصورة النمطية لجميع النساء اللواتي رفعن شعار حقوق المرأة في الغرب)، فإن اختها الصغرى على النقيض من اختها فهي تحب الرجال وليست بذات الفكر الخلاق التي تملكه اختها وليس لديها ذوقها الرفيع في الموسيقى.
تمحور أفلام بيرغمان السينمائية حول : الحب، الوجود، الكراهية، الدين، الموت.. ففي فيلمه «همسات وصرخات» يسيطر إيقاع الوحدة والموت مع إشارات خاطفة إلى الحروب وما تخلفه من دمار صعيد المشاعر والعلاقات . وفي «الصمت» استحالة التواصل بين أختين، تشكلان في المستوى الرمزي روحاً وجسداً، يدفع برغمان بالأختين إلى أرض غير محددّة جغرافياً ولا تعرفان لغتها، ليكشف فاجعة التواصل وانكسار روح العلاقة بين البشر . وفي الفيلم نلمح دبابة تمشي في ضوء الفجر باتجاه أحد أحياء المدينة. هل يدلل على أن المخرج مسكون بهاجس الحروب العدوانية في كونها سببا من أسباب الخراب؟ وأن همومه ليست ما ورائية بقدر ما تشكل هذا الجدل الذي يصل المرئي باللامرئي..
في أفلام بيرغمان ينصهرالحلمي والخيالي في قلب الواقعي، لا حدود بين هذه العناصر، ففي «برسونا» تقوم الميتة من تابوتها وتتكلم ثم ترجع ثانية من دون تمهيد أو فاصل يهيئ لذلك .
ليس بيرغمان فناناً أو سوريالياً أو وجودياً، إنه تقاطع عناصر مختلفة ضمن رؤية ذاتية سويدية بالدرجة الأولى. فهو لا يخفي إعجابه ببعض عناصر الفن السريالي حيث يتحدث عن «بونويل» .
« لقد اكتشفت عن طريق بونويل حبي للسينما. وهو لا يزال الأهم والأعظم في نظري ... إنني أؤيد تماماً نظريته حول الصدمة البدئية في اجتذاب الجمهور».
عنصر أساسي آخر في نظري، يجعله يلتقي بالفن السريالي هو غموض الدافع أو التمهيد الذهني لدى كتابة الفيلم أو الإخراج .
يقول عن كيفية إخراج فيلمه «برسونا» : «إنها قصة امرأة تحاور اخرى لا تقول شيئاً ثم تقارب المرأتان أيديهما وفي النهاية يندمجان ويصبحان كأنهما امرأة واحدة».
هذه المشاهد الطيفية الملتبسة تشكل المفاتيح الأساسية لعالم بيرغمان، فهو ملحد يكابد إلحاده ولا يجد البديل إلا في النشاط الابداعي، لكنه ليس نهائياً .. وهنا نتذكر بطل سارتر في «الغثيان» بعد أن يحط رحاله في صحارى اليأس، يرى الكتابة والتأليف المبرر الوحيد لوجوده ، كذلك في مسائل الوجود الاخرى يعاني هذا الانشطار وهذا الالتباس ...
أخرج بيرغمان بعد فيلمه «برسونا» ثلاثة أفلام : «بيضة الثعبان « و»سوناتا الخريف» و»وجهاً لوجه»، ويمكننا من خلال هذا الأخير أن نتبين بعض ملامح عالم هذا المخرج ومخلوقاته المضطربة على نحو أكثر وضوحاً قياساً بما قبله..
ينفتح المشهد الأول، أثناء قراءة الأسماء، على بحيرة ذات شكل سديمي من غير موسيقى وكأنما يؤشر إلى سديمية النماذج البشرية، التي سيقدمها، وطفحان أعماقها بعقم الحياة، ثم نشاهد البطلة «جيني» (ليف أولمان) وهي في بيت خالٍ من الأثاث، استعداداً للانتقال إلى آخر. المكان ينضح بالوحشة. تتناول التلفون وتتصل بجدتها، إنها ستأتي بعد قليل. التفاتة مذعورة إلى الخلف. حركة الكاميرا بطيئة للغاية كأنما تعدنا بوليمة دموية قادمة. ثم نعرف خلال الحوار أن الأمور الحياتية الظاهرة، بالنسبة إلى «جيني» على ما يرام، فهي وزوجها الذاهب إلى أمريكا لترؤس مؤتمر هناك، أصحاب مكانة اجتماعية عالية. فهي رئيسة الأطباء في العيادة النفسية. لكن ثمة شيء غامض يخترق هذه المظاهر ، شيء يتضح في حركات «جيني» وصوتها ونظراتها وتلاحظ جدتها فتسألها: هل ثمة ما يعكر حياتك الزوجية؟ فترد بالنفي.
رغمان، منذ البداية يدفعنا نجو جلسة سرية، جلسة استنطاق فرد ومجتمع وعصر. سنعيش هذا الإيقاع الهستيري لهذا الفيلم المرهق طوال الفترة عدا ومضة فيها شيء من الحنين على الماضي والطفولة، حيث تقول الجدة «لجيني» إنها جهزّت لها الغرفة ، التي كانت تعيش فيها وهي صغيرة، وكذلك الفراش وطاولة الكتابة. بعد هذه الومضة ، تدخل البطلة في عالم مليء بالكوابيس والمفاجآت والعلاقات الشاذه.. نشاهدها في العيادة مع أحد الاطباء النفسيين وهو يصرخ بأن العلاج النفسي أعلن فشله في شفاء المرض.. ومن خلال الحفلة، التي دعيت إليها «جيني» من قبل زوجة الطبيب النفسي التي تحتفل بعشيقها الممثل الشاذ، نشاهد مجتمعا تسوده علاقات جافة ومدمرة، وفي الحفلة نفسها تتعرف على بروفيسور في علم النفس وتنشأ بينهما علاقة ما، وتسأله عن معنى الصداقة التي تربط الرجل والمرأة (ماذا بعد ممارسة الحب غير سيجارة تلمع في ضوء الفجر؟) وأثناء النوم تغرق في نوبة هستيرية من البكاء والضحك .. وحتى تستيقظ «جيني « في المستشفى بعد محاولة انتحار ، سبقتها عدة محاولات نكون قد قطعنا أشواطاً قاسية من كوابيس اليقظة والمنام ، التي لا تعرف الحدود من مصاحبة المرأة ذات العنينين الزجاجتين التي تطارد البطلة كشبح غامض للقلق والموت ، ومن الدخول في أجواء قصور خرافية أوقدت فيها الشموع ولا نرى ولا نسمع فيها إلا أصداء بطلة الفيلم وتوسلاتها وحيرتها وانهيارها وسط تلك الاجواء التي تحاصرها بشباك لا مهرب منها ، ومع أبويها الميتين وهما يهربان منها رغم توسلهما...
بالطبع يصعب اختزال مناخات هذا الفيلم، لكنها صورة تقريبية لعالم بيرغمان الغاطس عميقاً في قعر شخوص يعتصرها الألم وتعصف بها رياح العزلة والموت والحروب مع فقدان أي عزاء روحي، عبر سينما تكون الكلمة فيها تابعة للصورة وتوضيحاً لها، وكل حركة ذات دلالة سيكولوجية واجتماعية. وليس صدفة أن تلاقي شخصيات برغمان مصائر متماثلة: الموت، الانتحار، الجنون. وليست الهدنة، التي عقدها برغمان مع بطلته في فيلم «وجهاً لوجه»، إلا هدنة مؤقته، حيث شاهدناها تقترب من الشفاء، ربما مجرد تطابق صدفوي مع مبدأ التطهير الأرسطوي. لكن أليست الحياة الانسانية تبدأ من الطرف الآخر، من اليأس؟ أو كما يقول بيرغمان في فيلم «الصمت»: إن للحياة المعنى الذي أعطيها إيّاه».
بيرغمان من أولئك المخرجين الذين عشقوا السينما فعشقتهم بدورها. ثلاثة أفلام من أفلامه حصدت الأوسكار، كما أن مجلة «الترفيه الأسبوعي» رشحته ليكون ثامن أعظم مخرج في التاريخ. وودي آلان وسبلبيبرغ وغيرهما الكثير من المخرجين الكبار عشقوا أفلامه ونظروا له وكأنه شيء مقدس لا يمكن الاقتراب من عبقريته. ولهم الحق في ذلك، فعلى الرغم من جمال صور أفلامه الستين بسبب مهاراته السينمائية، إلا أنه أشبعها فلسفة وفكرا بسبب فكره الفلسفي ومعرفته المسرحية. توفي إنغمار بيرغمان في بيته الواقع في فارو في السويد في يوم الاثنين في تاريخ 30 يوليو (تموز) 2007 عن عمر يناهز التاسعة والثمانين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.