n عبد الله باعلي «الكتابة فعل متوحد، وممارسة زهدية. نار والتهام. لذا ينبغي على الصفحة المكتوبة أن تحرق قارئها جاعلة منه كتلة لهب.» مونيك لانج الانكتاب اقرأ فانكتب.هذا ما تقوله كثير من النصوص فتترك القارئ مغمورا بصدى أصوات، وعلامات تستدرجه نحو البوح. هذا ما يحدث مع أعمال تخلقُ الفراغات أكثر مما تملأها؛ أعمال تثير السؤال، وتدفع بالقلق إلى مداه؛أعمال مجردة من وباء اليقين، وعصاب النبوة. هذا ما يحدث، كذلك، مع كِتاب خوان غويتيصولو Juan Goytisolo2 «هي ELLA «1؛ كتاب أنجزه صاحبه أسبوعان بعد وفاة زوجته 3Monique lange (أكتوبر 1996). تتخذ الكتابة، هنا، شكل لعنة تجاه «كرونوس» الذي يبتلع الأحبة، ويترك الفراغ في القلب والذاكرة: ماذا علينا أن نفعل أمام هذه الآثار المتبقية: آثار الحضور، آثار الغياب... اللغة المركونة جنبا إلى الصمت، والمشاعر المتناثرة دونما جسد يكسوها؟ البحث عن الصور يغادر الأحبة دونما إشعار. يتركون أبواب الذاكرة، ونوافذها مفتوحة عن آخرها: «فجأة يحل الفراغ هائلا. فظا. ويستحيل فك رموزه: فكيف يصير بالإمكان تركيز ألم فادح في قطرة زئبق زهيدة ضائعة في صخب العالم، وفي هياج مجتمعاتنا، التي لا يحد مدى انعدام مسؤوليتها، فتدفعنا دفعا إلى الكارثة، وهي لا تبصر شيئا؟» (ص. 66). الوجود لا يحتمل الفراغ، لكنه لا يستغني عنه. يجد المرء المصاب بفاجعة الفقد نفسه مضطرا لمحاربة الفراغ. مستعينا بالذاكرة يبدأ بإعطاء الغائب حضورا جديدا: يُلمْلم أصواته، وآثاره المختلفة، ليعيد تشكيل صورته؛ ليعيد إحياءه، ضدا على قانون «الكون والفساد»: «الصورة الأولى: ابتسامتها حظوة خاصة، وغير مألوفة: إنها ابتسامة دافئة، سخية، مشوبة بحزن خفيف» (ص.10)... «يخامرها شك متواصل حول ذاتها»(ص.12). تتعدد الصور، تتعب الذاكرة في عملها لجمع شتاتها، وتشكيل «الصورة»، فإعطاء الغائب حضوره الفعال: «لا أستشهد هنا بعباراتها حرفيا، إنما أستوحي مثالها الذي خبرته على امتداد السنين، بفضل تعليقات، وملاحظات، صدرت عنها بصورة جانبية، وكانت مزيجا من الجدية، واللطف، على شاكلة تحليق لقلاق. بحيث لم يكن يشوبها أي ادعاء، بل كانت مرفقة بدعابات سارة» (ص.24). يتعلق الأمر، إذاً، بعمل أركيولوجي يستجمع الآثار لإعادة تشكيل «الصورة». غير أن هذا العمل يصطدم دوما بالفراغ، بالقطع الناقصة. سيكون عمل الخيال هاهنا (الخيال الأدبي تحديدا) هو إبداع القطع الناقصة، في هذا البوزل الميتافيزيقي. كلام العابرين وحده الكلام، يضاعف فاجعة الغياب... بالصمت. ليس معنى الصمت، هنا، انقطاعا للكلام الفزيائي. بل معناه الوقوف في محل» البين بين». محل نتسمّعُ فيه الأصوات، ولا نستطيع فك شفرتها، ولا تعيين مصدرها. يستدعي غويتيصولو في آخر كتابه كلمة ابن عربي: «لا يصمت من هو صامت أصلا. إنما يصمت من لم يكن قط صامتا» (ص. 68). يفتحنا هذا القول على وجود الآخر/ الفقيد، فنواجه عنف السؤال: أين يذهب الكلام حين يغادر الأحبة... وكل الكلام المشترك بيننا؟ تظهر مونيك لانج «هي» الحاضرة/الغائبة، في صورة امرأة لا زال بإمكانها أن تكون، امرأة لم تستنفذ إمكانات وجودها بعد. امرأة لم ينقطع كلامها: لا زال مسترسلا إذ لم تستنفذ هبة الوجود بعد: « [وهي تستحضر أباها] كانت بصمت ترسم حدود مجاله الخاص. تلك البقعة الصغيرة التي لا يستطيع الموت انتزاعها منها»(ص. 48). لكن ذلك الصمت الذي يخلفه الراحلون خلفهم يوحي بنية غير بريئة، بخيانة شرف اللقاء، ذلك الذي يظل غير مكتمل، يظل متقطعا بتقطع الأزمنة والأمكنة، لهذا يتحول المفتقِدُ إلى قاص آثار على شاكلة بني مُرّة. يتعقب غويتيصولو آثار ذلك الكلام الفقيد في الذاكرة: يستعيد هواتف مونيك التي تتحدث فيها عن أشيائها الصغيرة، وتجاربها: عنف العالم على التلفزيون (ص. 60)، زيارتها لفيتنام أرض الطفولة (ص. 62)، ذكريات عملها مع الناشر غاليمار (ص.64)... إلا أن أعمالها المكتوبة تظل وعدا كبيرا بإعادة اكتشاف وتشكيل «الصورة»: «أراجع صفحات، وصفحات من كتاباتها، مشربة بالإحساس، وحب الحياة، والألم المروض. منذ كتابها « الأسماك النهرية» إلى غاية «المخطوطات الممزقة»: هناك صورة أبيها الذي عرفت كيف تجعل منه وحشا لطيفا بفضل طيبتها وموهبتها، والتي تشكل مأثرة أدبية وإنسانية ما زالت تملأني إعجابا إلى اليوم» (ص. 28). بهذا تتناسل الصور، وتتفرع المتاهات. بالكتابة (كتابتها هي) تضيع الملامح (ملامحها) لكي تكتسي ملامح مستعارة من شخوص، وأشياء، وكلمات... ياله من وعد ! ترميم البوزل، ترميم الذات أن تكتب عن الفقد، معناه التورط في علاقة معقدة مع الوجود؛ إذ يتعين عليك أن تتقن القيافة، أن تكون أركيولوجيا، أو ساحرا. بواسطة اللغة سيكون عليك أن تنقل تجربة وجودك أنت «الحاضر»، مع الآخر «الغائب». لكن ما الذي يحصل عندما تكتب عن الآخر، ما الذي يمكن أن تفعله مرثيتك: استدعاء الآخر ليعيش معك، مجددا، تجربة وجود أنت مهندسها الأوحد؟ يبدو أن كل محاولة من هذا القبيل منذورة بالفشل؛ إذ تنقلب البوزل إلى الجهة الأخرى: إلى الذات، التي تستدعي الآخر، لكي تملأ فراغاتها، لاستجلاء مساحاتها البيضاء. موقف في غاية الخطورة؛ إذ يعتمد اللغة وسيطا. إلى أي مدى يمكن للغة أن تكون حليفا؟ يجيب هلدرلين: «اللغة أخطر النعم»؛ ذلك أنها تقف في محل بين الصمت والبوح، بين الذات والغير، أليست اللغة صنيعة الغير؟ تبدو لنا هذه الورطة جلية في استدعاء غويتيصولو لوصايا مونيك: «لا تبحث عن تشريفات، ولا جوائز. بل يجب على عملك أن يضع نفسه في مضمار مخالف لهما» (ص.22) «لا يغرنك النجاح العارض لكتبك، ولا المديح المفرط الذي تستقبل به. كل الموضات عابرة. وأسوأ ما يمكن أن يقع لكاتب هو أن يسقط في شرك التواطؤ والمداهنة» (ص. 16). ينقلب الرثاء، هاهنا، إلى مغامرة للتعرف على الذات، من خلال صوت الآخر الغائب/ الحاضر. تجربة التعرف تبلغ مداها عند الوقوف عند المسألة الجنسية؛ مسألة تفتح سؤال الهوية، وتنفتح معها حد الإعجاز: «هي: لن يكون بإمكاني اقتفاء أثرك، في ميدان أهوائك. آلمتني صور عمالك وجنودك ومصارعيك. حين عثرت عليها ذات يوم بين كتبك، لكن سرعان ما تعزيت عندما أدركت أن الأشخاص الذين التقطت صورهم ما كان لهم أن يكونوا أندادا لي. لو كان هواك أنثويا، لكان أشد قسوة علي، بحيث يتعذر احتماله. ما بيننا ثمين ونادر: إذ لا وجود في زيجة عادية لهذه الحقيقة، وهذا التفاهم اللذين من واجبنا رعايتهما باحترام وكياسة كبيرين.» (ص. 40). *** «هي»... كتابة المرثيات، بوزل ميتافيزيقي في غاية الخطورة كونه ينقلب من محاولة ترميم «الصورة» صورة الآخر، إلى مواجهة بيضات السؤال: من أنا؟ هوامش: 1.خوان غويتيصولو، هي، ELLE،ELLA ، نشر الفنك، بالإسبانية والفرنسية، مع ترجمة عربية لابراهيم الخطيب. ط.1. 2005. 2. خوان غويتيصولو Juan Goytisolo: كاتب إسباني مواليد 1931 ببرشلونة. غادر اسبانيا فرارا من الأجواء الفرانكاوية. كان لقاؤه مع مونيك لانج وجون جنيه، دفعة أساسية في الحياة والكتابة. حصل على جوائز أدبية عديدة، من بينها جائزة سرفانتيس (2014). يعيش بين مراكش وباريس، له علاقة حميمة بالثقافة العربية. 3. مونيك لانج Monique lange:(1926 1996) كاتبة وناشرة فرنسية من أصول يهودية مرموقة.