الرباط: رئيس برلمان أمريكا الوسطى يجدد التأكيد على دعم الوحدة الترابية للمملكة    نسبة ملء السدود تقارب 40 %.. المغرب ينتقل إلى "إجهاد مائي طفيف"    ماكرون يرد على الجزائر باستدعاء سفير بلاده وبطرد 12 من موظفي القنصليات والدبلوماسيات الجزائرية    تيزنيت.. توقيف شخص سرق سيدة بالعنف بعد تداول فيديو يوثق الواقعة    مراكش: عملية أمنية نوعية تجهض محاولة تهريب 17 طنا و740 كيلوغراما من مخدر الشيرا    بيان الخارجية الفرنسية: فرنسا تجدد تأكيد موقفها الثابت الداعم لسيادة المغرب على الصحراء    المغرب-إستونيا: إرادة مشتركة من أجل شراكة مُعززة    وزير التجهيز والماء: السدود تفقد 50 مليون متر مكعب من الماء سنويا بسبب التوحل    تقدم به الفريق الاشتراكي – المعارضة الاتحادية بمجلس النواب .. المصادقة بالإجماع على مقترح يعزز حقوق كافلي الأطفال المهملين    توقيع اتفاقية شراكة بين وزارة الانتقال الرقمي وإصلاح الإدارة ومجموعة بريد المغرب لتعزيز إدماج اللغة الأمازيغية    أرسين فينغر يؤطر مدربي البطولة الوطنية    إشعاع النسخة 15 من سباق النصر بالرباط يتجاوز حدود الوطن    بسبب تنامي العنف المدرسي الذي ذهبت ضحيته أستاذة بمدينة أرفود    العلوي: منازعات الدولة ترتفع ب100٪ .. ونزع الملكية يطرح إكراهات قانونية    اتفاقيات "جيتيكس" تدعم الاستثمار في "ترحيل الخدمات" و"المغرب الرقمي"    تحفيز النمو، تعزيز التعاون وتطوير الشراكات .. رهانات الفاعلين الاقتصاديين بجهة مراكش أسفي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأربعاء    مصرع سائق وطفل في حادثتين متفرقتين بإقليم الحسيمة    خريبكة تفتح باب الترشيح للمشاركة في الدورة 16 من المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي    فاس تقصي الفلسفة و»أغورا» يصرخ من أجل الحقيقة    شهادة أممية تزعزع رواية الانفصاليين.. الروسي إيفانكو يفضح أكاذيب بوليساريو والجزائر    دي ميستورا.. طيّ صفحة "الاستفتاء" نهائيا وعودة الواقعية إلى ملف الصحراء المغربية    عمر هلال.. آمل أن تكون الذكرى ال50 للمسيرة الخضراء نهاية نزاع الصحراء    الاتحاد الأوروبي يؤازر المغرب في تسعير العمل المنزلي للزوجة بعد الطلاق    من يسعى الى إفساد الاجواء بين الجماهير البيضاوية وجامعة الكرة … !    حرس إيران: الدفاع ليس ورقة تفاوض    لقاء تشاوري بالرباط بين كتابة الدولة للصيد البحري وتنسيقية الصيد التقليدي بالداخلة لبحث تحديات القطاع    إخضاع معتد على المارة لخبرة طبية    عمال الموانئ يرفضون استقبال سفينة تصل ميناء الدار البيضاء الجمعة وتحمل أسلحة إلى إسرائيل    إدريس علواني وسلمى حريري نجما الجائزة الكبرى للدراجات تافراوت    "ديكولونيالية أصوات النساء في جميع الميادين".. محور ندوة دولية بجامعة القاضي عياض    وفاة أكثر من ثلاثة ملايين طفل في 2022 بسبب مقاومة الميكروبات للأدوية    دراسة أمريكية: مواسم الحساسية تطول بسبب تغير المناخ    فايزر توقف تطوير دواء "دانوغلبرون" لعلاج السمنة بعد مضاعفات سلبية    محمد رمضان يثير الجدل بإطلالته في مهرجان كوتشيلا 2025    إدريس الروخ ل"القناة": عملنا على "الوترة" لأنه يحمل معاني إنسانية عميقة    الكوكب المراكشي يؤمّن صدارته بثنائية في مرمى "ليزمو"    توقيع اتفاقيات لتعزيز الابتكار التكنولوجي والبحث التطبيقي على هامش "جيتكس إفريقيا"    الهجمات السيبرانية إرهاب إلكتروني يتطلب مضاعفة آليات الدفاع محليا وعالميا (خبير)    فليك : لا تهاون أمام دورتموند رغم رباعية الذهاب    نقل جثمان الكاتب ماريو فارغاس يوسا إلى محرقة الجثث في ليما    فاس العاشقة المتمنّعة..!    قصة الخطاب القرآني    المغرب وكوت ديفوار.. الموعد والقنوات الناقلة لنصف نهائي كأس أمم إفريقيا للناشئين    وقفة احتجاجية للمحامين بمراكش تنديدا بالجرائم الإسرائيلية في غزة    اختبار صعب لأرسنال في البرنابيو وإنتر لمواصلة سلسلة اللاهزيمة    تضمن الآمان والاستقلالية.. بنك المغرب يطلق بوابة متعلقة بالحسابات البنكية    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الثلاثاء    غوتيريش: نشعر "بفزع بالغ" إزاء القصف الإسرائيلي لمستشفى المعمداني بغزة    أمسية وفاء وتقدير.. الفنان طهور يُكرَّم في مراكش وسط حضور وازن    ارتفاع قيمة مفرغات الصيد البحري بالسواحل المتوسطية بنسبة 12% خلال الربع الأول من 2025    المجلس العلمي للناظور يواصل دورات تأطير حجاج الإقليم    الذكاء الاصطناعي وحقوق الإنسان: بين الفرص والتحديات الأخلاقية    خبير ينبه لأضرار التوقيت الصيفي على صحة المغاربة    إنذار صحي جديد في مليلية بعد تسجيل ثاني حالة لداء السعار لدى الكلاب    العيد: بين الألم والأمل دعوة للسلام والتسامح    أجواء روحانية في صلاة العيد بالعيون    طواسينُ الخير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قِرَاءَةٌ في رِوَايَةِ .. «عَوْدَةُ المْعلّمْ الزَّيْن»للشاعر المغربي محمد الميموني


1
رغم ما يمكن أن يقال عن انطلاقة أحداث رواية (عودة المعلم الزيْن) من كابوسين لم يستيقظ منهما من وقع تحت أهوالهما، إلا بعد مجاهدة ومكابدة شديدتين فقد استمر الكابوسان طويلاً، ورغم ما تم من تقديم لبعض مشاهد الحرب الأهلية الإسبانية عبر أفظع مواقفها، وسنبين السبب الذي استدعى ذلك في رواية مغربية، فإن ما أخافني ، في مرحلة من مراحل قراءة هذه الرواية الطويلة الضخمة (278+339 ص. عبر جزأيها) أن نجد كل شخصياتها تتحرك في مسارات وأجواء إيجابية، بعيدة عن أي صراع ينمي الحدث ويطوره، إلى درجة أن نرى وقوف هذه الشخصيات يداً واحدةً وهي تؤسس القواعد للجيل الذي سيتحمل المسؤولية بعيد الاستقلال، إلا أننا لا نصدم بالقوة التي ستحطم بها تلك الأسس إلا في نهاية الجزء الثاني عبر مواقف خيبت آمال من عملوا في المقاومة على يد أدعياء  «نبتوا» فجأة كرؤوس الشياطين في واقع مدن شمال، مدعين أنهم أعضاء «جيش تحرير»، فعاثوا فساداً واختطافاً وتعذيباً في من طالتهم وسائل اعتقالاتهم. لنفهم أننا أمام رواية من أدب المقاومة حقاً ، وإن كان الحديث فيها عن «مقاومة ثقافية» اضطلع عناصرها بتأسيس مكتبة كبرى ، وافتتاح مدرسة حرة لتعليم البنات، لكن كل ذلك سيتحطم، في الأيام الأولى من الاستقلال ، بعد أن تَوَلَّى الإدارة من كان وراء اتهام إحدى شخصيات الرواية، حين عبر عن عدم رضاه وموافقته بتسليم الشقة التي كانت قد استعملت مقراً للمكتبة لتكون مقراً ل»منظمة المقاومة وجيش التحرير» لأنه يرى « أن رعاية مكتبة هو أيضاً مقاومة»(333 ج.2) فاتهم ب»الامتناع» عن التعاون ، وبأنه يقول بما يقول به» المثقفون» وحينما ورد في حديثه ما يدل على انه ك»أب حريص على راحة ابنته» يتهم أيضاً بأنه «يقدم استقرار ابنته على استقرارالمقاومة وجيش التحرير» ولا يخيفه قول مخاطبه هذا، بل إنه يجيبك
« إذا فهمتم الأمر هكذا، فهوكذلك.»(ص.333ج.2)
ليلتفت الناطق إلى مرافقه ويقول بصرامة:
« سَجِّلْ ،موسى مْصَوْري امتنع»(ص333ج.2 )
وموسى مصَوْري هذا أحد الأبطال الرئيسيين في هذا العمل الروائي، الذي أرى أنه سيحتل مكانه في أدب المقاومة المغربي، فقد كان هذا الرجل قد اتصل في الدفاع عن مشروعه الثقافي بمن كان قد عُيِّنَ عاملاً على شفشاون الذي حسم الأمر قائلاً:
« المهم أن المخزن أدرى بمصلحة الوطن، فإذا كانت مصلحة الوطن في نقل المكتبة فسيتم ذلك. والسلام»(ص.331ج.2)
وقد سكت كاتب هذا العمل دهراً طويلاً ، قبل أن يشرع في كتابته ، وهو عمل مركب تتصل نهايته: قيام سلطة الاستبداد، ببدايته: أجواء الحجر والحماية على المستوى العام، وسيادة الجهل والشعوذة وسلطة الظلام والاغتصاب على المستوى الاجتماعي ، وبمراحله الوسطى : حيث تجتهد فئة من أحرار المواطنين للخروج من شرنقة كل ذلك أيضاً، اتصالاً وثيقاً في وحدة باعثةٍ على الإعجاب.
لقد نجح الكاتب في أن يأخذ موضوع روايته من حياته الخاصة ، أو مما عايش بعض مراحله معايشة شخصيةً، حتى وأن لم يكن له وجود ملموس أو شخصي بين أبطال هذه الرواية، وإن لم يكن في (سعيد) بطل روايته الإيجابي ما يمثله تماماً، كما أنه ليس في (المعلم الزيْن) ولا في (القايد موسى) ما يحمل أي ملمح من ملامح أي فرد من عائلة الكاتب. بل يكفيه أن ملامحَ أصدقائه الذين اختاروا النضال الثقافي ممثلةٌ في شخصيات من هذه الرواية .
إلا أنه لا يمكن الحسم بنفي أن حياة (سعيد) لا تمثل بعض مواقف طفولة الكاتب، بل إنه لا شيء يمنع من التساؤل عمّ يكون من وراء استدعاء الذاكرة، وعودة الكاتب إلى ما قبل ثمانين عاماً ( 1936:حرب إسبانيا وأسبابها) وكيف استيقظت ذاكرة الكاتب بكل هذا الدفق الذي كشف عن غناها، وكيف استطاع التغلب على مشاكل ربط الماضي في روايته : أحداث 1956 و1957؟)
إننا نلاحظ أن كل ما تعاقب من أحداث داخل الرواية صنعت نهايتها المأساوية ، كان ينتظر أن يتم انتقال الفتى (سعيد) إبن (المعلم الزيْن) إلى خارج الوطن ليتم دراسته التي حرص على أن تكون في مجال الأنتربولوجيا التي ستعينه على فهم أسرار مجتمعه وما يغرق فيه من معضلات واجه بعضها كموضوع السحرمثلاً ، أوموضوع من يلجأون إلى الشعوذة واستغلال جهل الناس، والدين ومقدساته، فبعد أن أفلت (سعيد) من قبضة من كان يقدر على وضع العراقيل في طريق انتقاله إلى جامعات الغرب في انكلترا التي انتقل إليها مع صديقته (سيلبا) قبل نهاية الرواية. وهذا الانتقال يطرح سؤالاً:
«لماذا راهن سعيد على اللغة اإنجليزية وهو لايزال في شفشاون، بعد أن كان قد أحاط بالإسبانية وأتقنها؟ ولماذا طار (سعيد) نفسه قبل نهاية الرواية إلى جامعة كامبريدج التي كان قد نجح في اختبار القبول بها والفوز بمنحة لمتابعة دراسته في تخصص سيفيده في فهم معضلات مجتمعه الدينية والثقافية؟ ولماذا لم يفكر في الذهاب إلى إسبانيا أو فرنسا؟
إن في دفع بطل الرواية الإيجابي إلى السفر إلى أنجلترا تخليصاً له من مشاكل متوقعة ، بل إن الأمر يبدو كما لو أن لا وعي الكاتب ، الذي كان على مستوى الوعي يسعى إلى التخلص من الاستعماربجنسيه: الإسباني والفرنسي، جعله يفتح الطريق ل»سعيد» نحو فردوس المعرفة في أرفع جامعات العالم شأناً ومكانة وأمجاداً. ولا يحتاج مثل هذا الأمر إلى دليل ، كما أنه لم يحتج من الكاتب إلا إلى التحليق بمخيلته إلى أوسع الآفاق: فنحن إن استطعنا أن نلتمس بعض ملامح «سعيد»، في مراحل أولى من حياة الكاتب ، فإن سعيد الذي «طار» إلى خارج « كأنه لمكانته في نفس الكاتب، خرج من واقعنا حماية له، وإشفاقاً أن تدركه أيادي من عبثوا بأحلام أقربائه من قئة المناضلين.
2
وفي رواية (عودة المعلم الزيْن) نستطيع تبين ملامح جماعة، لم تكن طبقة اجتماعية،وإنما فئة واسعة وحدتْ بينها التضحية ،والعمل على إعداد ما تحتاجه ظروف تنشئة جِيلٍ من الإناث والذكور ، ليتحملوا مسؤولياتهم داخل مجتمع المغرب بعيد الاستقلال، فقد تحركت الرواية في زمن قبيل إعلان استقلال بلادنا وتخلصها من ربقة الاستعمار، لتحمل مفاجآت مثيرة مخيبة لآمال من كانوا ينتظرون أن تثمر جهودهم من خير لبلدهم، وهو يستعد للخروج من ظلمات الحجر والوصاية إلى نور الحرية والانعتاق، فلم تدل ساعات الاستقلال الأولى إلا على ما خيب آمال مجموعة طيبة من الوطنيين، المتجذرين في المقاومة منذ معركة أنوال بدءاً من أحمد الريفي:(المعلم الزيْن) وانتهاءً بمواطنين موظفين كانوا ينتظرون أن تكون المكتبة التي صودرت، فضاعت بذلك فرص عمل كان بعضهم يعول عليها في بناء «عشِّ زوجية» فخاب أمل المتطلعين.
3
نقف مع رواية « عودة المعلم الزَّيْن» بعد سلسلة مثيرة من مواقف مجموعة من الشخصيات الإيجابية توالت بعد أن انبثق كل منها من معارك مفصلية ضد الاستعمار ، إلى أن انتهى الأمر بها إلى الاستقرار في مدينة شفشاون ، ليعمل كل منها في ميدانين يمثلان النهوض الثقافي لإيمانه بجدوى العلم، فينجحون في تكوين مكتبة وافتتاح مدرسة حرة ، ثم مدرسة رسمية على نهاية مأساوية أذهبت ما كان قد ملأ نفسي من خوف كان مثاره تساؤلي الذي ما فتئ ينمو وأنا أشده لإيجابية مواقف هذه الشخصيات ، حتى تجاوبت البداية المأساوية للمعلم الزيْن مع النهاية التراجيدية «للقايد موسى» الذي كان يحظى باحترام المستعمر الإسباني شأنه شأن المعلم الزيْن، فقد صادرت القوات المغربية التي نزلت بالشمال ، وتعيينات وزارة الداخلية لعامل لم يقدر حسن تقدير مكانة شفشاون ليتفق مع من عملوا على تجريدها من مكتبتها الضخمة التي أسست بجهود وهبات الأهالي، ثم لتختطف عناصر ممن كانوا يسمون ب «جيش التحرير « القايد موسى ، واقتياده إلى دار بريشة في الطريق بين تطوان وسبته، للتنكيل بمن لم تتفق رؤيتهم إلى أوضاع المغرب غداة الاستقلال السياسي مع رؤيتهم ، في إطار صراع سياسي بين تيارات وجهات متناقضة..
يمكن أن نحكم أن الكاتب نجح في نقل روايته من رواية أبطال إيجابين، تكاد تخلو حيواتهم من أي موقف صراعي، إلى رواية تحول كل شخصياتها إلى أبطال إشكاليين ، يتميز من بينهم بطلان: أحدهما يمثل مأساة المواطن المغربي زمان الحماية ، في صورة المعلم الزيْن ، وقد قطعت يداه،بكل ما يمثله قطع اليدين من رمزية عميقة الدلالة، عن حالة المغاربة بعد استعمار أرضهم من طرف قوات غاشمة، وثانيهما «القايد موسى» وهو يواجه بشجاعة العامل الأول الذي عين على لشفشاون ، وعناصر ممن كانوا يُحسبون على «جيش التحرير» وهم يختلقون مواقف معه ، لإلغاء شخصيته العسكرية ومشاركاته في المقاومة ، ثم وهو يعلن في أوجههم « أما أنا فإني أرى أن رعاية مكتبة هو أيضاً مقاومة» (ص. 333) (ج.2) ليسجلوا عليه بذلك، انه امتنع عن التعاون معهم.
لقد شدتني تطورات الشخصيات وأنا أقرأ الرواية، وهي تقدم إلينا من خلال سارد عليم، واعتماد على تأسيس متخيل الرواية على رصيد ذاكرة غني، فرض أن تنساب الأحداث في خط طولي ، فلا تداخل أزمان رغم طول زمن الرواية ، ولا تغييرات في الضمائرإلا نادراً، لكن ما استبد بي حقاً كان خشيتي من أن تستمر الرواية في جو تفاؤلي تطبع الإيجابية العالية، بل الخارقة، أفعال كل شخصياتها ، لكن ما أتى مع النهاية ، حدَّد للرواية انتماءَها إلى أدب المقاومة أولاً، ثم تصنيفها في إطار نوع من الرواية عنيف، رغم ذلك الهدوء الذي ساد معظم فصولها عبر جزأين ضخمين ، لتصبح بنهايتها المأساوية علامة صارخة على زمان عاشته مدينة شفشاون ، قبل وبُعيد الآستقلال ، يوم تولى شأنها في السياسة والثقافة من لا يعرف مكانتها، أويقدر شخصيتها التاريخية..
إن رواية «عودة المعلم الزيْن» هي ملحمة انبثاق عنقاء الحياة الجديدة من أتون صراعات كانت نيرانها تشتد شيئاً فشيئاً مع تطور قصول المعركة ضد المستعمر ، في مدينة كانت آخر مدينة مغربية تُحتل سنة 1920، وأول مدينة تعرف جلاء القوات الاستعمارية عنها.
4
أطروحات في الرواية :
الحقيقة أن مما يبهر في هذه الرواية أنها قالت في هدوء، ما لا يمكن قوله إلا بهتاف أو صراخ، ولولا أن كاتبها الآن، أعني في مرحلته العمرية الراهنة، قد بلغ النضج الذي لا يأتينا ألا على مشارف الثمانين، لكان يمكن أن نقول إن وراء ما سعى إلى تأكيده أغراضأً سياسية، نحن ننزهه عنها بكل تأكيد، فمن أطروحات روايته «عودة المعلم الزيْن» مع اعتبار المرحلة التاريخية التي ينتمي إليها زمن الرزاية الداخلي:
أ فضح من اختار الاختباء وراء مسوح الدين ، رغم أن سدانة ضريح مؤسس البلاد»المدينة « ليست منصباً دينياً إلا ان أهل المدبنة يحيطون السادن بهالة من التوقير ، ويصفونه بالتقوى ، وهذا يحمله مسؤولية أخلاقية يبدو أنه أخلَّ بها، حينما اختار أن يجعلها مطية لأغراض غير أخلاقية ، ولا شرعية أو شريفة، فلم تسكت الرواية عن فضحه.
ب إدانة الاحتلال الإسباني الذي غرر بالآلاف من الشباب المغربي ، حين ألقى بهم في أتون حرب ، لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وهو يسوقهم إلى المشاركة في الحرب الأهلية الإسبانية إلى جانب كتائب الجنرال فرانكووجناحه الفاشيستي.
ج الإشادة بجهود مواطنين كانوا يجتهدون في إعداد شباب من بين أبنائهم ، للاضطلاع بتحمل المسؤوليات بُعَيْدَ الاستقلال.
د إدانة الشكل الذي تمت به «مغربة « الإدارة ، فقد كان الأمر يتعلق ب»مخزنة» ليس أكثر. ف» المهم أن المخزن أدرَى بمصلحة الوطن» الرواية : ص. 331».
ه إدانة أساليب الاختطاف التي يبدو أنها كانت تتم بتواطؤ بين من سموا أنفسهم» منظمة المقاومة وجيش التحرير» ومن تولوا السلطة ، فقد تم اختطاف عناصر وطنية وتعديبهم وتغييبهم بعد ذلك.
و رمزية: التي كان عليها «الزيْن» قبل ترحيله إلى إسبانيا والحالة التي عاد بها من «الحرب الأهلية الإسبانية» مقطوع اليدين ، ليكون صورة لشباب المغربي في الشمال، ذلك الشباب الذي أصبح مع استتباب الأمر للاحتلال ذا عاهة : لفقدانه القدرة على أي عمل ، من جهة، ولعدم توفره على أية إمكانيات أخرى.
ز الإشادة بقيمة الصداقة وإكبارها : بين «المعلم الزيْن» نفسه و»القايد موسى» اللذي جمعتهما صداقة قائمة على المحبة المتبادلة وروح الإيثار، وتقدير كل منهما للآخر واحترامه .
وبين الفتى «سعيد» وصديقه الأثير «الهاشمي السباعي» اللذين يقدمان في هذه الرواية مثالاً سامياً لما ينبغي أن يجمع بين صديقين.
وفي تأكيد كل هذه الأطروحات لا يعلو صوت بخطاب ناشز، أو تقريرية وعظية مباشرة ، بل تقول الرواية ما تقوله بأصوات شخصياتها ولغاتهم الاجتماعية ،بينما تنساب كنهر كبير، في هدوء باعث على
الإعجاب لبُعْده عن أي تحريض أو إثارة نعرات، أو دعوة إلى عنف أو مواجهات.
5
مكان وزمان الرواية :
تجري أحداث الرواية (على مساحة تمتد ما بين مدينة شفشاون وقرية باب الريف ، وتطوان فطنجة التي منها يغادر سعيد الوطن) في ظل الحماية الإسبانية لشمال المغرب، والتي تميزت ، وخاصة بعد 1936 بنوع من المساكنة والهدوء ، رغم ما كان هناك من تهميش للمغاربة واعتبارهم مجرد سكان أصليين ، أو مواطنين من درجة ثانية ، مع ما كان هناك أيضاً من إفقار ونهب لخيرات البلاد واستئصال غاباتها النادرة، لكن هذه الحماية لم تتسم بأشكال العنف وإنكار هوية المغاربة وتحقيرهم وفرض الأتاوات وغيرها مما عرفه الاستعمارالفرنسي الغاشم لمناطق البلاد الداخلية التي احتلها بجنوده ومدنييه.
والحقيقة أنني قد انتهيتُ ، وأنا آتي على آخر صفحات هذه الرواية (614 ص، من القطع الكبير) وكأنني كنت أتحرك مع شخصياتها في نفس الحي الذي كانت تقيم به عائلتي في مدينة شفشاون «شمال المغرب» وهي عائلة الكاتب نفسه ، لكنني أشهد أنني كنت ألتقي بمن استدعاهم خيال السارد أو متخيل الكاتب، وقد أعاد تقديمهم خلقاً جديداً، ووظفوا فنياً في شكل إبداعي مثير، واكتسبوا طبائع جديدةً، وفي ذلك يتبيَّنً الجهد الكبير الذي بذله الكاتب وهو يبدع ولا ينقُل، فقد فتحت عيني على مسرح أحداث هذه الرواية : (حومة السوق) وهي تعج وتموج بنماذج من قدماء المحاربين ومعطوبي الحرب ومهزومي الحياة الذي يلوذون بكل أشكال الفكر الخرافي التي حولت الدِّين إلى ممارسات خرافية أيضاً.
6
التاريخ وتقنيات الكتابة الروائية:
أنا أُقِرُّ أولاً، بأن إنجاز الكاتب الكبير في عمله الروائي هذا، هو نجاحه في تقسيم محكيات «أناه» على كل شخصيات هذا العمل الروائي بالتساوي ، إذا يبدو أن نوعاً محبباً من النوستالجيا استبد به فأحب مخلوقاته الفنية بالتساوي، إلى درجة تبدو لنا معها الشخصية المرذولة البعيدة عن نفس الكاتب بيِّنَةً لا تحتاج إلى علامة فارقة أو مميزة. فليس مرذولاً بين كل تلك الشخصيات سوى (المقدم سيدي الحاج المختار) سادن الضريح الذي حاول التغرير بالفتى «سعيد» أما سائر الشخصيات من النساء والرجال ، من مختلف الأعمار ، فهم وهُنَّ يحظون ويحظين بحب الكاتب الذي أسبغه عليهم من خلال ما أطلقه عليهم من أوصاف .ونحن نستشف هذا رغم أن بين (أنا) السارد الهادئ ، و(أنا) الكاتب الثائر في هدوء، فرقأ يستطيع إدراكه كل من له معرفة قريبة به.
والكتابة الروائية التي تختار موضوعاً تاريخياً ، إنما تختار مرتقى وعراً، فلا شك أن كل كاتب يطرح على نفسه أسئلة الأسلوب والطريقة والشكل الفني، بل وحتى المدرسة التي سيحاول أن يسلك سبيلها في كتابة روايته.
وإذا كان السؤال عن تقنية الكتابة مُسَوَّغاً في هذا السياق ، فإن ما يبدو طبيعياً، في حالة رواية (عودة المعلم الزيْن) هو المطابقة التامة بين اختيار أن يترك للأحداث التاريخية أن تسير سيرها الطبيعي ورؤية الكاتب إلى العالم، منذ بداية روايته التي كانت تعبيراً عن موقف فكري حداثيٍّ، من خلال فضحه لما يقدسه المجتمع من أنواع الممارسات التي امتزجت الخرافة فيها بالدين، وانتهاءً على معطيات الواقع السياسي بما انجابت الأوضاع عنه في بدايات الاستقلال، في منطقة الشمال التي كان معظمها «بلاد سيبة» غير تابعة للمخزن، فاتخاذ طابع الهيمنة على أطراف واسعة منها بفرض «مخزنة « تتصرف بيد من حديد، مع قطاعات عريضة من الشعب كانت تنظر إلى الواقع الجديد مشدوهة، وهي ترى النزول القوي لل»مخزن» ، بينما كانت تنتظر مغربة وسلطة قانون ومؤسسات.بعد أن انجلى ظلام الاستعمار.
وبالنظر إلى تقنية الضمائر فإن اللجوء إلى التاريخ هيأ للكاتب لأن ينداح سرده أفقياً متسسلما لدفق الذاكرة ، فماذا يمكن أن ينتظر من استدعاء الذاكرة وعودة الكاتب إلى ما قبل ثمانين سنة تقريباً ( 1936 : حرب إسبانايا الأهلية) غير أن يتحكم الكاتب بمهارة في سرعة التدفق أحيانا ، أو إبطائه أحايين أخرى، والحقيقة أن غنى الذاكرة لدى الكاتب الشاعر محمد الميموني إلى جانب خصوبة تجربته في الحياة أمْرٌ لا يُنكر ، وهو الذي شارك في محظات نضالية كثيرة عبر كل مراحل حياته، هذا مع ما تستعيده ذاكرة الطفولة من مواقف غنية ، كان في غنى عن استرجاعه بعد تخليه عن أناه الخاصة ، ليتكلم في هذه الرواية ب»أنا» المجموع الإنساني الذي عايشه في مرحلة يفاعته وشبابه.
إذن، فلقد تغلب الكاتب على أكبر صعوبات الكتابة التاريخية حين جَرَّد من ذاته الخاصة ذاتاً جماعية ، أرَّخَ لها ، ودافع عنها، وبيَّنَ أن الذين عاملوها بشدة أخطأوا، وقد تبيَّن أن مكان الرواية منطقة لها تقاليدها الحضارية، وأن إنسانها على ذكاء بيِّنٍ ، مُتَحَضِّرٌ ، وحكم الذكيِّ المتحضِّر يقتضي الرفق لا البطش والقهر والطغيان.
انتهت رواية (عودة المعلم الزيْن ) بذهاب ابنه الوحيد في رحلة من اجل تحصيل علمٍ، بِنية استعماله في فهم أسرار مجتمعه، وقد عمل كثيرون حتى يفلت الفتى ( سعيد) الذي اختار توجهات، لم يكن ليسمح له بها في ظل الاستقلال الذي جاء باختيارات ثقافية وسياسية كرّسها المستعمر والذين اختاروا الإبقاء على تركته، لكن (سعيد) اختار الإنجليزية، والانتماء إلى جامعة كامبريدج هو الذي كان قد أحاط بالإسبانية قبل ذلك، وهذه ليست مجرد تخييل جرى في ذهن الكاتب ، بل هو خميرة ثورة على مجموع ما فُرِض على الناس ، وهم له كارهون. فمتى يعود سعيد ابن االمعلم أحمد الريفي، هذا الذي لقبته النساء ذات وقت، وهم يستمعون إلى روائع معزوفاته ب»الزيْن» ؟ أم هل يولد زمان آخر سعيد؟ فلقد حَلَّق الفتى «سعيد» كطائر نورس يتبع المراكب التي تحمله نحو الآفاق البعيدة ، في رحلة طلب العلم ، بغير أن يحدِّد تاريخ عودة إلى وطنٍ خارجٍ لِتَوِّهِ من ظلمات الاستعمار، لكن إلى نهار كانت بداياته عاصفةً، فما حَصَّلَ عليه من استقلال، كان ولا يزال، إلى يوم الناس هذا، شديدَ الالتباس.
خاتمة:
قدَّم الكاتبُ في روايته (عودة المعلم الزيْن) شهادةً فنية ً، وسياسيةً شجاعة ، عن مرحلة الاستقلال في منطقة حساسة من بلادنا،هي شمال المغرب الذي كان خاضعاً للحماية الإسبانية، و لم يفكر ربما، في نتائج كان سيحسب لها ألف حساب ، لو أنه اختار أن يتناول نفس الموضوع ، وهو شابّ. والقارئ المغربي والعربي أيضاً، مدعو إلى قراءة هذا العمل للحكم على مدى تجرُّد الكاتب وموضوعيته، في الوقت الذي استمات في التمسك بذاتيته، لكن بشكل دلَّتْ هذه الذاتية فيه على روح جماعية ، هي روح المغرب التي وحَّدَتْ ، وما زالت توحِّد، بين كلَّ أعراق هذا الشعب .
× رواية (عودة المعلم الزيْن) من جزأين في (614 صفحة من القطع الكبير)
الكاتب : الشاعر محمد الميموني الناشر : سليكي أخوين طنجة الطبعة الأولى:2015


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.