صدر عن منشورات سليكي أخوين- طنجة 2016، بدعم وزارة الثقافة، كتاب جديد للكاتب المغربي عبد اللطيف الوراري، تحت عنوان: "ضوء ودخان.. شذراتٌ من سيرة ذاتية". ينثر الكاتب في كتابه شذراتٍ من سيرته الذاتية، منذ ولادته ونشأته بمسقط رأسه بأحد قرى دكالة، حيث تيتّم وعانى فراق الأب ودخل الكُتّاب، قبل أن ينزح هو وعائلته إلى شمال البلاد لأجل أن يلتحق بالمدرسة حتى حصوله على شهادة الباكلوريا. وهناك، وعبر أمكنة واقعية وأخر متخيّلة، يسرد المؤلف بضمير المتكلم، وباسم العلم الشخصي، فصول المعاناة والفقر التي عاشها وأفراد عائلته نتيجة الظروف المستجدة وضائقة يد المعيل الوحيد، إلى أن يأتي الشِّعر مثل "هبة ربانية" تُنْسي، لبعض الوقت، سارد السيرة هول الواقع الذي استبدل به هول بدايات كتابة الشعر الذي اعتبره بمثابة "سلوى وعزاء".إن السيرة الذاتية، هنا، تستعيد شريطاً من لحظات من ماضي الشخصية يتخللها دفق من العواطف والهواجس وأحلام اليقظة. وهي مع ما فيها من بوح واعتراف، لا تخضع لترتيب كرونوجي صارم يحدُّ من بعدها البيوغرافي الحميمي والشذري المفتوح. وعلى هذا النحو يمزج السارد السيرذاتي بين اللغة الوصفية والشعرية تبعاً لتطور أوضاع السيرة الذاتية، وأشكال تدبير الأنا لكينونة ذاته وعلاقاته بالآخرين (الأب، الأم، الجد، العم سعيد، مسعود...)، وتنوع حيوانات عالمها المتراحب. ومن البدء تأخذ السيرة قارئها، وهي تنفتح على عالم فسيح ومرجعي يتضاءل شيئا فشيئا حتى يتركز على ذات السيرة. وبقدرما هي سيرة ذات، فهي سيرة شخصيات تأثرت بها هذه الذات، إن لم نقل إنّها سيرة جيل بأكمله. سيرة الاحتفاء وهي تقرأ سيرة الوراري، تساءلت الأديبة والباحثة الأكاديمية العالية ماءالعينين: لماذا يفكر الأديب او الإنسان عموما بكتابة سيرته الذاتية؟ وكتبت تقول: «سؤال يراودني ويلح علي كلما أقبلت على قراءة هذا الجنس الإبداعي المخاتل. ولهذا أجدني دائما ابحث عن الجواب في ثنايا ما أقرأه. قد يكون هذا جزءا من السؤال الأكبر لماذا نكتب؟ وقد يعود إلى «قناعات» منهجية حتى وإن لم تكن صارمة ولكنها حاضرة. لست من المؤمنين ب»موت المؤلف»، وكثيرًا ما أجدني في مهمّة البحث عنه من خلال ما يكتب، ولا أقصد طبعا «حرفية» ما يكتب.. عندما بدأت قراءة هذه الشذرات سيطرت عليَّ قناعة أو فكرة كانت تتضح معالمها وتكبر كلما تعمقت في ثنايا تلك الحكايات الممتعة.. وهي التي جعلتني أعطيها هذا العنوان «سيرة الاحتفاء».» وفي علاقة السيرة بالزمن والسرد والذاكرة، قالت ماءالعينين: «الكاتب لا يحاول استرجاع الماضي وعرض تفاصيله وتذكر أحداثه، بل هي نظرة يلقيها عليه من خلال «حاضره»؛ هذا الحاضر الذي يشكل «المحطة» التي توقفت عندها سيرةُ حافلةٍ وسيرةٌ حافلةٌ. محطة انتهت بها مرحلة لتبدأ أخرى أكثر طُموحًا. ولكنّه وصول بسلام ورضا و»غنيمة» تستحقُّ الاحتفاء.. لذلك، وطيلة هذه السيرة/ الحياة المليئة بالمنعرجات والمطبّات، لا تشعر بأن هناك عنفا أو علاقة قسرية مع الذاكرة، رغم أنها لم تخل من قسوة وألم. بل ربما كانت أغلب مراحلها الأولى عنفا جسديا ونفسيا بليغا. وفي أقسى لحظات العودة إلى «الماضي» ظلت اللغة متمنعة عن استدرار «العطف» أو السقوط في ظلمات النقمة وليّ عنق البؤس للإثارة: «وجدوه أسفل الجرف يضع رجلا على رجل، ويده اليمنى تسند خده كأنه حيٌّ ويريد أن يتفوّه بكلمة. وربما قالها وصعدت إلى الملكوت الاعلى». هكذا يعبر الكاتب عن حالة الفقد التي عاشها الطفل الذي أضاع أباه ولما يجفَّ حليب أمه على شفاه أبنائها.. ورغم كل محطات الحرمان والمكابدة ظل الكاتب محافظا على انتشائه بلحظات الفرح والحب والدهشة... يربت على الجراح التي كالها له الزمن ويزرع بين شقوقها بذور الشعر والأمل والمستقبل: «يوما على ظهر يوم أدرج و أسقط. ألهو و أبكي. أمرض و أتعافى. ثم سرعان ما تفتحت عيناي على عالم أتخيله أشبه بالسحر والخرافة: مساقط الماء. مواسم الحصاد الذي لم ينقطع وما يعقبه...» الكاتب وهو يسترجع سيرته لا يقول «كل شيء» ولا ينصاع إلى البحث في دروبها عن التفاصيل، ولكنّه وفي نفس الوقت لا يتعمد إخفاء أيِّ شيء لقناعة تبدو عميقة بأن كل لحظة طيلة تلك الحياة، تستحقّ الاحتفاء: «... لتشتغل أمّي من جديد في معمل النسيج كأيِّ أسطورةٍ كُتب عليها أن تعيش الوحدة مرة أخرى، ولكنها لا تمل من مفاجآت السرد وتوالي البرق فيه». أو: «وأين اختفى عندما كانت أسناننا تصطكُّ من برد الليالي القارس بمقربةٍ منها، و نعدم ما نتدفأ به؟» إن الكتابة عن الذات، مهما بلغت درجة عمقها وقوّتها، لا تعني بالضرورة رغبةً أو حتى قدرة على التصالح مع الماضي وربما الحاضر، وهذا بالذات ما يبدو قويًّا في هذه الشذرات وتتخلله التماعة هدف صغير بطعم الحلم سجّله ذلك الطفل الذي كانه في مرمى الحياة دون أن يتوقف عن استكمال «لعبه» معها... هذه شذرات من سيرة ذاتية ولكنها أيضًا «جماعيّة»، وذلك بابٌ آخر مشرع على قراءات وعوالم أكثر إِدهاشا وعمقا وتمثيلا لتجربة جيل كامل.» سيرة الكفاح وأما الشاعر والقاص المغربي أحمد بنميمون، فقد كتب: «قرأت (ضوء ودخان) فلم يَرُعْني فيها ما ذكره عن معاناته في مراحل حياته الأولى من يُتْمٍ شخصيٍّ ووجوديٍّ، وتقلب في مراحل دراسية كان فيها منذ حفظه القرآن والتحاقه بصفوف المدرسة، وما كان يبديه من تفوق في المستويات، ولا حتى اختياره الشعر في وسط لم يكن يعرف أي معنى لهذه الكلمة، لكن الذي راعني فيها هو حديثه الذي لا يمكن أن يكون إلّا صادقًا عن لقائه أول مرة بالشِّعر حين استوقفه كتاب «ميزان الذهب»، وكيف قرأه، وهو يحلُّ جداوله ليمتلك منذ البدء حصانةً لن يضيع بعدها على درب الشعر، وليصبح أحد أقوى أصواتنا الشعرية بعد أن عرف كيف يطعمها بما اذَّخره عبر سلسلة تجارب مؤلمة في الطفولة التي لم تجد ملعقة ذهبية تملأ فمه بما يلذ ويطيب، ولكنها كانت حافلةً بأشواك كثيرة ووَرْدٍ أقلَّ إلا ورد الموهبة». وأضاف: «ذلك هو ما يَرُوع قارئ هذه الشَّذرات، بل إنّه يزداد انبهارًا بإنجاز هذا الشاعر، بينما يرى أن طريقه كانت تنصب الشِّراك لخطواته حتى من خلال النماذج البشرية التي كُتِب له اللقاء معها؛ فقد وصل عبد اللطيف الوراري ناجياً من الوقوع بين أيدي كان من المتوقع أن تحمله، ومغريات الكسب السهل، تحت ضغوط الفقر إلى أن يتوقف أو ألا يتوفق. لكن ضوء القصيدة غالِبٌ؛ لأن جمرة الفن في نفسه الشاعرة كانت أصيلة، وصدق الشاعر في الإصغاء إلى أجمل ما في لغتنا من أصوات وأصداء بدءا من بيان القرآن وفصاحته، وبأنقى ما تحمله الأشعار الأصيلة فيها أو المترجمة إليها». ليستخلص قائلا: «هكذا، فما يبهر من سيرة هذا الشاعر هو مسار كفاحه، حتى تمَّ لقاؤه بالسيد الشعر، أو سيدتنا القصيدة التي نجح في إنقاذها مما رآها تتمرغ فيه على يد شعراء رسميّين، فحلق مبتعدا بالشعر عن حضيضٍ كان يتهدده ويتهددها في آن، وانتصر للجمال لامتلائه بالقيم الرفيعة التي كانت سلوى له منذ البداية، فربحنا شاعرا عظيما كما يشهد بذلك إنجازه إلى حد الآن، ولا تزال آفاق المفتوحة أمامه تؤكد أن قصيدته القادمة أروع وأكثر نضارة وسحرا وجمالا.» سيرة الشاعر ومن منظوره، يرى الشاعر والمترجم المغربي نورالدين الزويتني: «قد لا نبالغ أو نجانب صواب العنوان إذا نحن استبدلنا في مُخيّلتنا عبارة «ضوء ودخان» بعبارة «سيرة الشاعر» بصيغة التعريف؛ فأهم ما يطالعك في هذه الشذرات المكتوبة بحبر اللوعة والحنين والصدق والبساطة والشعر هو صورة شخص لا يفتأ يتقمّصك رَغْمًا عنك بين هذا الفصل وذاك. ذلك أن الكثير من السحر الذي يشدُّك شدّاً لمواصلة قراءة هذا الكتاب، يتأتى من لعبة التمرئي التي يمارسها السرد عليك مستدعيا صورا من ماضيك الخاص. وهو نفس ما جعل روائيًّا كبيرًا مثل جيمس جويس يعنون سيرته الذاتية ب»سيرة الفنان في شبابه»، راسما صورة الفنان بشكل عام فيما هو يرسم ملامح صورته الخاصة». وهو يعرض أهم محتوى السيرة وتوتر الذاتي والجمعي فيه، أضاف الزويتني بقوله: «فهنا الولادة وطقوسها، اليتم، الشغب الطفولي، التنقل من جغرافيا إلى جغرافيا، ذكريات التمدرس الأولى، الأسواق الأسبوعية، كتاب «اقرأ»، العشق الأول وخيباته الأولى، انبثاق جذوة الشعر، كتاب «ميزان الذهب»، وغيرها من الأشياء والأحداث والمواقف التي يرسمها الشاعر والناقد عبداللطيف الوراري ليس فقط كسارد لسيرته الخاصة، ولكن أيضا بوصفه شاعرا يغوص إلى عمق تلك الأحاسيس الخام التي يمتزج فيها الخاص مع ما هو جوهري وكوني؛ أي ذلك النبع الروحي الذي يمتح منه الشعراء والفنانون. وختم بقوله: «في هذا السرد الدافق بدفء غديرٍ خريفيٍّ لا نقرأ فقط مرحلة هامة وتأسيسية من حياة هذا الشاعر المميز، بل نتقرّى ملامح مرحلة تاريخية هامة من مراحل المغرب الحديث؛ سنوات الحلم، والسنوات العجاف، وسنوات الرصاص، ليأخذنا الفصل الأخير على حين غرّةٍ، عندما تكون لذّة السرد قد استغرقتنا حتى تمنّيْنا انسيابه إلى ما لا نهاية».