أصدر مركز «مسارات» للأبحاث والدراسات الاستراتيجية في فلسطين، كتابا جديدا بعنوان «إسرائيل والبيئة الإقليمية: التحولات الاستراتيجية والحالة الفلسطينية» يتناول مراحل ردود أفعال دولة الاحتلال على الثورات العربية، ومحاولة استغلال الواقع الإقليمي الجديد في تهميش المسألة الفلسطينية. ويقترح مؤلف الكتاب، الباحث مهند مصطفى، تقسيم ردود فعل دولة الاحتلال على اندلاع الثورات العربية إلى ثلاث مراحل؛ هي مرحلة الصدمة، ومرحلة التكيف، ومرحلة إعادة التوازن الاستراتيجي، ويبحث تأثير كل مرحلة على توجهات السياسة الإسرائيلية تجاه المسألة الفلسطينية. بدأ الاهتمام الإسرائيلي بالربيع العربي، حسبما يذكر الكتاب، باندلاع الثورة المصرية، إذ لم تلق «إسرائيل» بالا للأحداث التونسية، كون تونس بعيدة جغرافيا عنها، فضلا عن أنها ليست موضوعا جاذبا للتخصص الأكاديمي في «إسرائيل». وجاءت الثورة المصرية صادمة ل»إسرائيل»، ويفسر المؤلف هذه الصدمة بأنها لم تكن بسبب المفاجأة وحسب، وإنما أيضا بسبب غياب الخطط البديلة للتعامل مع الأحداث بما تحمله من سرعة وعمق تغيير، وفي هذا السياق ينقل عن الباحثة الإسرائيلية كارميت فيلنسي قولها إن البحث الأكاديمي الإسرائيلي حول المنطقة يحتاج إلى تحول تاريخي، ففشله في توقع التحولات في الوطن العربي نابع من اعتماده على أطر تحليلية قديمة؛ مثل «رأي عام غير مبال»، و»نظم سياسية مستقرة»، و»جيوش قوية». ويرصد الكتاب ردة فعل دولة الاحتلال على صدمة سقوط مبارك، فقد فضلت «إسرائيل» رسميا الانتظار إلى ما ستؤول إليه الأحداث، فكانت التصريحات الرسمية قليلة، على الرغم من أن جهات رسمية لم تخف استياءها من سقوط مبارك. وأعقبت الصدمة الإسرائيلية من اندلاع الأحداث في مصر، وانتشار الثورات؛ مرحلة التكيف التكتيكي، وطغى الخطاب الأمني على التعاطي مع الأحداث، واعتبرت دولة الاحتلال أن الرد على التحولات الدراماتيكية في المنطقة؛ يجب أن يكون من خلال زيادة الميزانية العسكرية والأمنية.. هذه التحولات برأي أفرايم عنبار تتمثل في ضعف الدول العربية، وزيادة الضبابية السياسية، وتحولات في ميزان القوى الإقليمي، وصعود قوى إقليمية جديدة مثل إيران وتركيا، وتراجع تأثير الولاياتالمتحدةالأمريكية. أما الأضرار العائدة على «إسرائيل» بحسب عنبار؛ فتتمثل في عزلة إقليمية، وتآكل قوة الردع الإسرائيلية، وأخطار أمنية جديدة، وتهديد الممرات المائية في البحر المتوسط، والغفلة عن المشروع النووي الإيراني. ويظهر التصور الإسرائيلي المحافظ تجاه الثورات العربية في كتاب المستشرق رفائيل يسرائيلي الموسوم «من الربيع العربي إلى الخريف الإسلامي» حيث يدعي فيه أن الثورات العربية أنتجت نظما إسلامية، وأن هذه النظم لن تكتفي بتطبيق الشريعة، بل ستعمل على التحريض على الجهاد ضد الغرب، ويزعم أن العرب أمام خيارين فقط؛ إما البقاء مع الأنظمة التسلطية، وإما الانتقال نحو نظم دينية. مرحلة إعادة التوازن الاستراتيجي ويرى الباحث مهند مصطفى أن مرحلة استعادة التوازن الاستراتيجي في دولة الاحتلال؛ ارتبطت مع تنحية مرسي عن الحكم في يوليوز 2013، وتعقيد المسألة السورية عبر دخول تنظيم الدولة إلى الأزمة، وتعثر التحولات السياسية في ليبيا واليمن، فقد أصاب «إسرائيل» في هذه المرحلة ضرب من الثقة بالذات، فمن جهة أثبتت للغرب أنها الدولة الوحيدة القادرة على فهم العقلية والتحولات العربية، ومن جهة أخرى تعيش «إسرائيل» زهوا استراتيجيا غير مسبوق، «فالدول تنهار، وجيوشها تتفكك، والصراعات الأهلية والبينية الإقليمية تزداد، والتناقضات الاستراتيجية بين دول المنطقة تصب لصالح «إسرائيل»، وأصبحت القضية الفلسطينية هامشية في الأجندة العربية»، وقد ظهر التوظيف الإسرائيلي لهذه التحولات في الخطاب الكولونيالي التقليدي الذي يتبناه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، في اعتبار «إسرائيل» رأس الحربة للعالم الغربي في مواجهة «الإرهاب الإسلامي» شاملا المقاومة الفلسطينية ضمن هذا «الإرهاب». ويسلط الكتاب الضوء على سعي «إسرائيل» كجزء من محاولتها مواجهة التغيرات الإقليمية؛ إلى إعادة إحياء «سياسة الأطراف» وفق منظور بن غوريون، وتتضمن هذه السياسة دعم دولة كردية ودولة جنوب السودان، ويدلل الكتاب في هذا السياق بتصريح علني لافت لنتنياهو عام 2014 أن «إسرائيل» تؤيد إقامة دولة كردية في سورية والعراق، وما سبق هذا التصريح من جهود بذلها شمعون بيريز وأفيغدور ليبرمان لإقناع الإدارة الأمريكية بدعم دولة كردية مستقلة. ويشرح الكتاب أهداف دولة الاحتلال من دعم إقامة دولة كردية مستقلة، إذ من شأن هذه الدولة الكردية أن تتحول إلى حاجز أمام تمدد تنظيم الدولة، كما أن إقامتها سيعزز التأثير الإسرائيلي على المستوى الإقليمي، حيث ستعزز «إسرائيل» علاقتها مع الدول الجديدة بسرعة، وتتشابك معها في مصالح اقتصادية عديدة؛ أهمها الغاز والنفط والسلاح. هذه النظرة الإسرائيلية تجاه إقامة دولة كردية مستقلة؛ تأتي -وفق الكتاب- في سياق تعزيز سياسات «تحالف الأطراف» التي تعني تعزيز التحالفات مع دول محيطة بالبيئة الإقليمية، ف»إسرائيل» اعترفت بدولة جنوب السودان بعد استقلالها، وتسعى في الوقت نفسه إلى تعزيز علاقاتها مع أفريقيا، واصطفت كذلك مع اليونان وقبرص في محاولة عزل الدور التركي، وعززت العلاقات مع الهند بشكل غير مسبوق، وذلك في تقاطع مصالح أيديولوجي واستراتيجي نابع من التفاهم حول «الإرهاب الإسلامي» كعدو مركزي، كما تعزز دولة الاحتلال علاقتها مع دول الاتحاد السوفييتي السابق في محاولة لمحاصرة إيران من الخلف. ومثلت هذه السياسات الإسرائيلية فرصة لتهميش الموضوع الفلسطيني، إذ ترى «إسرائيل» أن تعزيز علاقاتها الإقليمية سوف يضعف عزلها دوليا، ويشكل ردا على محاولات السلطة تدويل القضية الفلسطينية، «وعلى الرغم من أن الدول التي عززت علاقاتها مع إسرائيل في هذه الفترة؛ لم تربط علاقاتها بالموضوع الفلسطيني، إلا أن إسرائيل اعتبرت ذلك انتصارا للتوجهات السياسية العامة»، ويرى المؤلف أن هذه العلاقات قد تؤثر في المستقبل على توجهات هذه الدول من المسألة الفلسطينية، وإن بطريقة شكلية، كما حدث مع اليونان والهند. جدلية الإقليمي - الفلسطيني والإرهاب ويرصد الكتاب انعكاس الثورات العربية على التوجهات الإسرائيلية نحو المسألة الفلسطينية، إذ قدمت دولة الاحتلال مع اندلاع الثورات انطباعا للعالم نحو نيتها التقدم في مسار التسوية السياسية، وذلك تحت ضغط التغييرات العربية، وضبابية البيئة الإقليمية، ولكنها تراجعت عن هذا التوجه «العلني والمراوغ» في مرحلة إعادة التوازن الاستراتيجي التي بدأت بسقوط الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي. وفي هذه المرحلة الجديدة؛ تبنت «إسرائيل» خطابا مغايرا بأن أي تسوية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي ستكون جزءا من تسوية إقليمية، و»هذا التوجه يعتبر جديدا في التصور الإسرائيلي الذي اعتبر في الماضي أن الدخول للعالم العربي يتم عبر تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بينما تتبنى إسرائيل الآن مبدأ تطبيع العلاقات مع العالم العربي كمدخل لتسوية المسألة الفلسطينية»، ويذكر الكتاب أن هذا التوجه بات محل إجماع إسرائيلي، حتى من قبل حزب العمل الذي بنى رهانه على حراكات إقليمية عربية تساهم في حل المسألة الفلسطينية وإضافة إلى جدلية الإقليمي-الفلسطيني؛ يرصد الباحث سعي «إسرائيل» بشكل حثيث إلى ربط الموضوع الفلسطيني بقضية الإرهاب، ويذكر في هذا الصدد قيادة نتنياهو شخصيا هذا التوجه بعد تشكيل التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة بعد الحرب على غزة، مشيرا إلى أن نتنياهو خصص غالبية خطابه في الأممالمتحدة عام 2014 لموضوع الإرهاب، قائلا إن «حماس وداعش فرعان من الشجرة المسمومة ذاتها». ويخلص الكتاب إلى جملة من التوصيات؛ تتمثل في ضرورة إنهاء الانقسام الفلسطيني لضرب الاستراتيجية الاحتلالية في الصميم، حيث إن بقاء الانقسام بات أحد المركبات الأساسية في الاستراتيجية الإسرائيلية في التعامل مع المسألة الفلسطينية، ويوصي الكتاب الحركة الوطنية الفلسطينية باستعادة مواقعها التقليدية الآخذة بالتراجع لصالح الغزو الإسرائيلي، مثل عودة الموضوع الفلسطيني كموضوع احتلال في الهند واليونان ودول إفريقيا، ويوصي أيضا ببناء استراتيجية مقاومة فلسطينية جامعة؛ تعتمد الاحتجاج الشعبي السلمي المنظم، والعمل على تنفيذ هذه الاستراتيجية بشكل مثابر؛ لإعادة مركزية المسألة الفلسطينية كمسألة احتلال.