يخطئ من يظن أن الحرب الإسرائيلية الجديدة على غزة تستهدف حماس وقوى المقاومة الأخرى وحسب. هذه الحرب هي اختبار مبكر للقيادة المصرية الجديدة، وللمناخ الجيو سياسي الذي ولدته حركة الثورة العربية. ويخطئ من يظن أن الحرب أشعلت بفعل ضغوط إيرانية لإلهاء الرأي العام العربي بصواريخ حماس، بدلا من الالتفات إلى صواريخ النظام السوري التي تدمر مدن سورية وشعبها. الذين غرقوا في هذه الوساوس لا يرون وحدة المصير التي تجمع أبناء فلسطين وسورية، أو لا يريدون لسورية المستقبل أن تحافظ على موقعها في قلب الخارطة والحدث العربيين. ولكن الخطأ لا يقتصر على القراءات الأولية للحرب ودوافعها. الخطأ الأكبر ارتكبه رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الذي يعرف بانخفاض مستوى حسه الاستراتيجي. ما ظنها حربا سهلة، ستحقق أهدافها خلال يومين أو يومين، وباستخدام أدوات القصف الجوي والأرضي الآمن، تحولت إلى معركة لا تقل تعقيدا عن حرب 2008-2009. لم يكن الفلسطينيون هم الذين دفعوا الأمور باتجاه الحرب. انتهت الحرب على غزة قبل أقل من أربع سنوات بقليل بهدنة ما، ساعد نظام الرئيس المصري السابق مبارك في التوصل إليها. ولكن الإسرائيليين لم يلتزموا قط بالهدنة؛ وقد قتل من أبناء قطاع غزة، سواء في استهداف إسرائيلي مباشر أو بفعل القصف العشوائي، أكثر من 270 فلسطينيا في الفترة بين الحربين. خلال الأسابيع القليلة الماضية، تصاعدت معدلات الاستهداف والقتل في صفوف أبناء قطاع غزة، وتصاعدت في مواجهتها وتيرة الرد الفلسطيني وإرسال الصواريخ إلى أهداف إسرائيلية. وفجأة، تذكر الجانب الإسرائيلي أن هذا القصف بالصواريخ لم يعد محتملا، وأن الدولة العبرية لا بد أن تضع حدا للتهديد الذي يشكله تسليح حماس والجهاد وغيرهما من قوى المقاومة. اختارت القيادة الإسرائيلية أن تبدأ الحرب باغتيال واحد من أفضل العقول الاستراتيجية في المقاومة الفلسطينية، وأحد أبرز قادتها في السنوات الأخيرة: أحمد الجعبري. اختيار مثل هذا الهدف قصد به إرسال رسالة ضمنية حول حجم الهجمة التي تنتظر قطاع غزة وقوى المقاومة، فإن كانت خطوة الحرب الأولى هي أحمد الجعبري، فما الذي يمكن أن يعيشه القطاع من هول في الخطوات التالية؟ المدهش في حرب نتنياهو كان ضآلة المعرفة الاستخباراتية بقطاع غزة، بالرغم من الاختراق الذي تحقق في اغتيال الجعبرى. احتل الإسرائيليون قطاع غزة من 1967 إلى 2005، وعرفوه عائلة عائلة وشبرا شبرا. ولكن عجز الاستخبارات الإسرائيلية عن تحديد موقع احتجاز الجندي الأسير شاليت طوال سنوات يشهد على الإنجاز الأمني الكبير الذي حققته حكومة حماس في تحصين القطاع من التسلل الاستخباراتي الإسرائيلي. وهذا ما أكدته مجريات الحرب في أيامها الأولى، فبينما أعلنت حكومة نتنياهو أن القصف الإسرائيلي على قطاع غزة قد دمر سبعين في المائة من مخزون الصواريخ في القطاع، أكدت مصادر حماس أن الغارات الإسرائيلية لم تدمر صاروخا واحدا. وسرعان ما اتضح من ردود المقاومة الأولية، التي طالت تل أبيب وهرتسليا والقدس الغربية وبئر السبع، أن توكيدات المقاومين الفلسطينيين هي الصحيحة، وليس ادعاءات نتنياهو. أرادت حكومة نتنياهو من حربها الجديدة «استعادة مستوى مرض من الردع»، بمعنى تدمير الجزء الأكبر من مخزون الصواريخ ولجم الإرادة الفلسطينية على المقاومة. وبعد مرور أسبوع على الحرب، لم يكن ثمة إنجاز يذكر قد تحقق، لا الصواريخ دمرت، ولا الإرادة كسرت، ولا الشعب انقلب على حماس. ولأن الحرب على القطاع اندلعت على خلفية من الثورة السورية، التي احتلت طوال العشرين شهرا الماضية مركز الاهتمام والقلق العربيين، فإن أصواتا ارتفعت لتشكك في دوافع قوى المقاومة الفلسطينية، وكأن قرار قوى المقاومة الفلسطينية بات أسيرا في يد إيران، أو كأن الحرب بدأها الفلسطينيون وليس الإسرائيليون، أو كأن من واجب فلسطينيي قطاع غزة تلقي العدوان بالتسامح وغض النظر. بعض هذه الأصوات يعود إلى أغرار، قصيري النظر، لا يعرفون تاريخ المجال العربي وتعقيدات سياساته، وبعضها يعود إلى متسلقي حركة الثورة العربية الذين بكوا على نظامي مبارك وبن علي حزنا، ويدعون الآن الوقوف إلى جانب الثورة السورية. ما تعرفه قوى الثورة السورية معرفة اليقين أن الشعب الفلسطيني بأسره يقف إلى جانب الشعب السوري، وأن القوى الفلسطينية الإسلامية، وعلى رأسها حماس، كانت صريحة وواضحة في وقوفها مع حركة التغيير والثورة في المجال العربي منذ البداية، ومع الثورة السورية على وجه الخصوص، بالرغم من التكاليف السياسية الآنية التي ترتبت عن هذا الموقف. المسألة الأهم أن حركة النهوض الفلسطيني، انتفاضة شعبية ومقاومة للاحتلال والعدوان، تقف في أصل حركة النهوض العربي وتجلياتها في مختلف البلدان العربية. صمود وبسالة الفلسطينيين واللبنانيين في مواجهة الغزاة خلال العقد الأول من هذا القرن كان عاملا حيويا في إطلاق حركة الثورة العربية، وتبلور طموحات الشعوب في الحرية وثقتها في إمكانية استعادة هذه الحرية. وليس ثمة شك في أن انكسار الهجمة على قطاع غزة، سيصب أيضا لصالح الثورة والشعب في سورية. وتتعلق المسألة الثالثة في هذه الحرب بالمناخ العربي الجديد، وبالمتغيرات السياسية في مصر على وجه الخصوص؛ فبخلاف الشائع، يدرك الإسرائيليون أن المحيط العربي تغير وأنه في طريقه إلى مزيد من التغيير. ولعل التغيير السياسي في مصر ما يثير أبلغ القلق في الدولة العبرية. أن يطاح بنظام مبارك كان في حد ذاته خسارة استراتيجية هائلة للدولة العبرية، ولكن أن يأتي الرئيس الأول للجمهورية المصرية الجديدة من صفوف الإخوان المسلمين، فانقلاب لم يكن في حسبان الإسرائيليين. كما في دوائر غربية وعربية متعددة، لم يدرك الإسرائيليون الدلالات التاريخية الكبرى لحركة الثورة العربية، وظنوا، عشية سقوط نظام مبارك، أن هناك فسحة من الوقت لاحتواء الآثار الخطرة للثورة المصرية. ولكن حركة التغيير في مصر مضت بلا هوادة، وأصبح على القيادة الإسرائيلية أن تجد وسيلة ما للاستجابة لهذا الانقلاب في وضع مصر السياسي وفي طبيعة علاقاتها بالدولة العبرية. حاولت الحكومة الإسرائيلية طوال الشهور القليلة الماضية إعادة بناء قنوات الاتصال على المستوى السياسي بين البلدين، وهي التي ظلت مقصورة على المستوى الأمني. ولكن الرئيس المصري الجديد، الذي لم يخف توجهاته لإعادة بناء موقع مصر العربي ودورها الإقليمي، لم يبد اهتماما لا بالمحاولات الإسرائيلية ولا بالجهود الأمريكية والأوربية، التي سعت هي الأخرى إلى إعادة الدفء إلى العلاقات بين القاهرة وتل أبيب. كان تحجيم مصر أصلا هو الهدف الذي عملت على تحقيقه الإمبراطورية البريطانية عندما بدأت خطواتها الأولى لإقامة كيان لليهود في فلسطين منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر. وظلت مصر حجر الرحى في الصراع العربي الإسرائيلي منذ الحرب العربية الإسرائيلية الأولى في 1948. وليس ثمة شك في أن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية صنعت مناخا وسياقا استراتيجيا مواتيا للدولة العبرية طوال العقود الثلاثة الماضية. فأي طريق يمكن أن تنتهجه مصر الجديدة، مصر ما بعد ثورة 25 يناير، تجاه الصراع على فلسطين والدولة العبرية؟ للإجابة عن هذا السؤال، لجأ الإسرائيليون في حربهم على غزة إلى سياسة الضربة الاستباقية، التي طالما قادت مقاربتهم للمتغيرات السياسية والسياسية الاستراتيجية في المحيط العربي. في بعدها الهام الثاني، الحرب على غزة هي أيضا رسالة إلى الرئاسة المصرية، وللشعب المصري، وللرأي العام العربي ككل، مفادها أن ثمة حدودا لما يستطيع الرئيس مرسي القيام به في الشأن الفلسطيني، مهما كانت طموحات الموقع والدور المصرية، وأن الدولة العبرية هي من يضع هذه الحدود. بيد أن مرسي لم يكن على استعداد لاستلام الرسالة الإسرائيلية. وفي افتراق لا يمكن تجاهله عن سياسات النظام المصري السابق، أصدرت القاهرة إدانة سريعة للعدوان، استدعت سفيرها في تل أبيب، دعت إلى اجتماعين للمجلس الوزاري للجامعة العربية ومجلس الأمن الدولي، ثم أرسلت رئيس الوزراء إلى قطاع غزة، في توكيد واضح على تضامن مصر مع القطاع وإدارته، وعلى أن مصر لم تعد وسيطا في الصراع على فلسطين. وفي كلمة له في اليوم الرابع للحرب، قال الرئيس مرسي «إن مصر قادرة على اقتلاع جذور العدوان». ليس من المتوقع، ولا يجب لأحد أن يتوقع، أن تتحول الحرب على قطاع غزة إلى حرب مصرية إسرائيلية؛ فخارطة القوة العالمية، وعلاقات القوة في المشرق العربي، وأوضاع مصر الداخلية، لا تسمح بمثل هذه الحرب، وربما سيمر بعض من الوقت قبل أن نتعرف على ملامح المرحلة القادمة من الصراع العربي الإسرائيلي. ولكن المؤكد أن الدور الذي افترضته مصر لنفسها منذ معاهدة السلام لن يستمر على ما هو عليه، وأن القيادة المصرية الجديدة تعمل على أن تصبح مصر ندا استراتيجيا للدولة العبرية، لا ملحقا استراتيجيا لها. لم تنه الحرب أسبوعها الأول إلا وغزة تتحول إلى قبلة للسياسيين والقوى الشعبية العربية. قادت مصر بإرسال رئيس وزرائها، ليتلوه وزير الخارجية التونسي، وفدا وزاريا عربيا برئاسة الأمين العام للجامعة العربية، ووزير خارجية تركيا. كما اندفعت الوفود الشعبية من الشباب العرب، وفي مقدمتهم المئات من الشبان المصريين، والقيادات الحزبية والشخصيات العامة. لم تكن هذه النتيجة التي أرادها نتنياهو من الحرب على القطاع، ولا هي النتيجة التي توقعها من ظنوا أن الثورات العربية أخرجت القضية الفلسطينية من سلم الأولوليات العربية، الرسمية والشعبية. صمود الحفنة الصغيرة في الثلاثمائة وستين كيلومترا مربعا من فلسطين يعيد الاعتبار إلى القضية الفلسطينية وإلى حركة الثورة العربية على السواء.