وأنا ألقي نظري على ما حولي، أجد أن كل الأشياء تغيرت، الطبيعة تغيرت، والبشر تغير والمشاهد تغيرت، منذ خمسة وعشرون سنة، لم تكن الأمور على هذا النحو، إنه تحول كبير إن لم يكن تحولا جذريا. لم يكن ذلك ليثير الانتباه لو أنه صار وفق تطور حضاري ورقي بشري، لكنه الأمور أخدت مجرى آخر مع الأسف الشديد، تغير سلبي يحز في النفس ويجعل من الأمس القريب ماض جميل، متحسر عليه. قبل خمسة وعشرون سنة، كان المغاربة المرتادون لهذا الشاطئ، أناس محترمون، عائلات وأصدقاء، يحملون معدات ولوازم شاطئية أنيقة وخفيفة، مناسبة للحظة والمكان، يضعون لباسا شاطئيا صالحا للاستجمام، مايو قصير للرجال و«دوبياس» للنساء، ثقافة الجسد كانت حاضرة لدى المغاربة ولم يكن ليخجلوا من أجسادهم أو من نظرة الآخر لتضاريسهم، ببساطة كانت الأشياء تعير للحظة قيمتها الجمالية ولا تستسلم أمام الغريزة، كان الجسد ينتمي للمجال العام المتفتح والمفعم شكلا ومضمونا بثقافة متنورة لا تتطاول على خصوصيات الأفراد، الجميع يمارس حريته بنبل و باحترام للآخر. كان مرح الصغار وديعا وبريئا، لا يملأ الجو ضجيجا يزعج خرير المياه و هبات الرياح التي تنعش الأجساد بين الفينة والأخرى. كانت الأجواء هادئة وممتعة، صورة منسجمة الألوان و الأفكار، بداعة لا يمكن أن يرويها إلا الحاضر في ذلك الزمان. النادي المتوسطي يستقطب أجانب من مختلف الأجناس و الأعمار، يستمتعون بزرقة المياه و يتجولون فوق الزبد الأبيض وهو بساط ينعش خطواتهم لمسافات في أمان تام، أو تجدهم مستلقين فوق الرمال الذهبية يستقبلون أشعة الشمس الصفراء، رغبة الحصول على بشرة سمراء تنفض عنهم عياء سنة من الكد و الاشتغال، آمنون متأكدون أن صيف هذا المكان يستهوي العشاق والراغبين في المغامرة دون خطر بشري يحظر التجوال. شعائرهم البحرية كانت عادية، طقوسهم يتقاسمونها مع المغاربة بكل حب واحترام، نتبادل التحايا، «بونجور»، «كود مورنينغ»، «سالي»، بكل لباقة وعمق إنساني، هناك من يمدك بآلته الفوتغرافية لتلتقط له صورة يؤرخ بها اللحظة و هناك من يستأنس للمشي والحديث، والآخر يمارس رياضة الركد أو الغطس دون خوف من وحش برمائي يزعج انشغاله ويشوش على هوايته المفضلة. هذه الصورة ليست من بدع الخيال، إنها صورة لما كان عليه الوضع قبل خمسة وعشرون سنة، صورة أصبحت من درب الماضي السعيد، حيث كان للكتاب والقراءة حيزا في هذا الفضاء، مغاربة وأجانب يحملون المجلة والرواية، البحر مكان للاستجمام وفرصة للسفر بين سطور كاتب مفضل يثري الروح وينعش الخيال، زرقة السماء لها معنى وزرقة البحر معنى والحاضرون أصحاب المعنى، وكأنها اوركسترا تعزف نفس اللحن، إنها فلسفة للحياة تحبذ الإنسية و الجمال و تشترك مع الطبيعة في عفويتها و تشكلها الإبداعي. تم تمديد الطريق السيار وتوسيع الطرقات، تدمقرط الاصطياف، وأصبح الولوج للشمس و البحر متاحا للجميع، تم ثقب الجبال لإسعاد أكثر ما يمكن من الناس، تناسلت البنايات وداس الزحف الإسمنتي على البقاع ، انتهكت حرمة الجبل المنتصب بين أحضان البحار منذ زمان و انصهرت قمته بين الأزقة والجدران، ظلمة الليل الرومانسية عوضتها أعمدة كهربائية من حديد و فولاذ، و توافد الحجاج بالآلاف من كل فج عميق، متحررون من أصفاد حواضر وأرياف، كبلت الضمائر بشتى أنواع العقد والمركبات. رحلت سمفونية الشاطئ، ساد الصراخ والضوضاء، تلطخت الصورة بنقط سوداء، سراويل طويلة للرجال وبرقع أفغاني للسباحة للنساء، أجساد مطاطية تطفو فوق السطح و الأجسام تحترق بأشعة الشمس الوعرة، عويل الصغار يربك التركيز ويستنفر الجموع. استبدلت لوازم البحر الخفيفة بتجهيزات ثقيلة وتنوعت المأكولات وحضرت مختلف الأطباق، من البطيخ إلى الدلاح، لم يكتفي الباعة المتجولون بأرصفة الشوارع بل فضلوا الإرساء عند زبد البحر، ذلك من كان بالأمس القريب يلامس أقدام حفيدات الروم والإغريق، الناس تتهافت على الجنبات الأمامية للشط، إنها الفرجة و الكرنفال، مغاربة العالم حاضرون فوق الخشبة بسلوكاتهم التي تبرر تقدم اليمين المتطرف بالقارة العجوز، إنه زمن الحرية وزمن اللا إنفعال. بعد خمسة وعشرون سنة، لا يزعم الأجانب على اجتياز حدود ناديهم المتوسطي، لا تزعم نساؤهم على المغامرة بعيدا نحو الشاطئ، أما رياضة المشي والجري والغطس وكل أشكال الترفيه خارج الحدود لم يعد لها وجود، يتفادون نظرات المحليين، ينكمشون في فندقهم، عسى أن تمر عطلتهم خيرا وسلام. أمام هاذين المشهدين، اختفى الرواد القدامى، منهم من فارق الحياة ورحل حاملا معه ذكريات الزمن الجميل و منهم من حاول بلا جدوى التكيف مع النمط الجديد لكنه استسلم في الأخير أمام مرارة الواقع الأليم و غادر المكان إلى وجهة أخرى لا زالت عفيفة من أعراض التحول الخبيث، هناك من فضل الانزواء بعيدا عن تخمة الزمن الجديد وفضل فصلا آخرا للاستجمام، غادروا المكان الذي كان بالأمس القريب وجهة كل حالم وراغب في الاصطياف، رغم الحشود الغفيرة أصبح الشاطئ مهجورا، وعلى شرفة الاستياء، خيم الحزن على المكان.