ربما كانت المرأة في سن الأربعين أو الخامسة والأربعين، ترتدي لباس السباحة، في شاطى "مانسمان" بالمحمدية، كاشفا عن جسمها، على نحو بدت ساقيها العاريتين منقوشتين بالأوردة البارزةلم يكن ثمة ما يربك راحة المصطافين، انتظام واستقرار، إنما العودة من الشاطئ نتيجة حتمية إذ كان في وسع المرأة التي انشغلت بملاعبة طفلتها وسط مياه البحر أن تجد لها العشرات من الأقمشة، تحجب عنها نظرات الناس، وتقلل من بشاعة مظهرها، غير أن وجودها بالشاطئ على ما يبدو، كان مبررا لها، للظهور بهذا الشكل وهي تختلط بأناس ترى أن مظهرهم لا يختلف عن مظهرها، حتى تكون استثناء منهم. مزيج من طنين السيارات وصوت حاد منبعث من دراجة بخارية، أزيل عنها كاتم الصوت، يكتسح فضاء "البرنوصي" قبل أن تصدر الحافلة رقم 800 حشرجة تدعو الركاب للصعود، لتبتعد عن منطقة الوقوف في اتجاه مدينة المحمدية. لم يكن الرصيف مزدحما بالناس أمام الحافلة أثناء العاشرة صباحا، اصطفاف أكثر من واحدة، خول للركاب الصعود بتأن دون تدافع، هناك فتاتان تحملان حقيبة رياضية، وامرأة تحمل طفلا مشدودا على صدرها، بينما كان رجلا يرافقها مكلف بحمل بعض الأغراض، رجل آخر كان محاط بطفليه، أحدهما يمسك بيده الخالية والآخر يمسك بالذراع، التي تحمل حقيبة كبيرة، وآخرون كانوا بدورهم يتأهبون لركوب الحافلة. في الطريق إلى شاطئ "مانسمان" بالمحمدية، كان معظم الركاب منشغلون بتبادل أطراف الحديث، فوجدوا ذلك ملائما، لئن كان مسار الحافلة غير المنعرج والملتوي، يجلب للركاب تلذذا وهم يلقون بنظراته نحو الخارج، بنايات ومقاه ولوحات إشهارية وأناس يترجلون، وبفضل توقف الحافلة في إحدى المحطات بعين حرودة، تأتى للركاب التمعن في إحدى اللوحات الإشهارية والتعليق على مضمونها (شقق فاخرة بأثمنة مناسبة)، من قبل امرأة لم تزغ عيناها عن اللوحة إلا بعد استئناف الحافلة لسيرها، "الوقت غلات وصعابت". رجل آخر يجلس على كرسي مقابل لهذه المرأة، يتفرس في سقف الحافلة على نحو متكاسل، ليتثاءب بين الفينة والأخرى، دون أن يغطي فمه بيده حتى لا يكشف عن حشوة أسنانه. كانت الحافلة ممتلئة بالركاب، لكنها لم تبلغ حد الاكتظاظ، بعدما استطاع كل راكب أن يشغل مكانه، وفي كل مرة كان بعضهم ينزل منها لينقص عدد الركاب، فيواصل السائق طريقه إلى أن ينتهى به المطاف إلى محطته الأخيرة بالمحمدية، بمحاذاة كلية الآداب. "شي بّراسول مزيان" لا بد من الترجل قليلا قصد الوصول إلى الشاطئ، ولتجنب السيارات والدراجات غالبا ما يلج المصطافون بعض الممرات في اتجاهه مباشرة، وفي هذه الأثناء يصادفهم أطفال وشباب يعرضون خدماتهم بنبرة ملحة، مظلات شمسية وكراسي وطاولات للكراء، كان حماسهم إلى الظفر بزبون يزعج بعض المصطافين، الذين ما انفكوا يتخلصون من أحدهم، حتى يأتيهم آخر لعرض الخدمات نفسها، وبأسلوب ينم عن تنافس كبير، كانت كلماتهم "شي براسول مزيان" لازمة تتكرر في توفير فرص للربح. كانت سمرة هؤلاء الأطفال والشباب، تتوافق على نحو حاد مع المكان المحيط بهم، وكانت تنقلاتهم المتكررة على طول الممرات المؤدية إلى شاطئ "مانسمان"، علامة مؤكدة على ضرورتها في وجه المنافسة، قصد استمالة الزبائن. ظل الأطفال يتتبعون خطوات المصطافين، بأسلوب يكشف عن عزيمة واهنة، لأن لامبالاة هؤلاء كانت تدفعهم إلى التراجع، أما الآن، وقد انفرد أحدهم بفتاتين تسيرا على امتداد حافة الرصيف بنفس اتجاهه، فقد تردد صدى صوت الطفل وهو يعيد على مسامعهما من جديد "شي باراسول مزيان"، فأمكنه الحصول على قبول الفتاتين. نشوة النجاح في استقطاب زبون، جعلت الطفل يلوح بذارعيه، كأنه يريد أن يؤكد للفتاتين أن المسافة قريبة بينهم والشاطئ، حيث سيكتري لهما المظلة الشمسية وكل ما يحتاجانه، وهنا ابتسمت إحداهما للطفل، مشجعة لرباطة جأش طفل لم يتجاوز ربما العشر سنوات. انتشار اعتباطي على بساط شاطئ "مانسمان"، تنطق امرأة في الخمسينات من عمرها بصوت مبحوح، العبارة نفسها، "شي براسول"، ما إن تتوضح لها ملامح الزبون، على أنه مداوم على زيارتها والاستعانة بخدماتها، حتى تشرع في تثبيت "المظلة الشمسية"، لتنحني انحناءة قصيرة وهي تغرس المظلة في الرمال، بابتسامة خفيفة تواصل ذلك، بعدما زاد من ثقتها وفاء الزبون لها. العدد القليل للمظلات الشمسية زاد من جمال الشاطئ، وتحديق المصطافين في بعضهم البعض وارد، إن أرادوا النظر إلى مياه البحر الجارية وجدوها هادئة، وإن أرادوا النظر إلى جوانب رماله المبللة، فإنهم يشاهدون رجال الوقاية المدنية يلفون جيئة وذهابا، للحراسة والحفاظ على سلامة المصطافين، في مقدمة المشهد، لا بد من رؤية المظلات الشمسية في كل الاتجاهات وعلى نحو اعتباطي، وعدم اكتظاظ الشاطئ بالمصطافين يسمح بالتأمل، ولا أحد يحتج على حجب بعض المظلات الشمسية لمشاهد قد تفوت على بعضهم. طبيعي أن ينظر أناس إلى جمال الشاطئ على نحو يغاير النحو الذي ينظر إليه آخرون، والجلوس بمحاذاة المرأة الخمسينية، يكشف أن البحر صورة مألوفة لديها، وما هو غير اعتيادي أن يتجاهلها الزبائن ويقصدون غيرها، لاستئجار المظلة الشمسية بثمن 15 درهما مرفوقة بكراسي وطاولة، بثمن 5 دراهم للقطعة. إن البحر والشاطئ ب"مانسمان"، يمثلان للمرأة مصدر رزق، وما تزال تضطر إلى النزول يوميا للاستثمار في كراء المظلات، تعرف كل شيء عن الشاطئ من خلال تجربتها فيه، وتدرك معنى أن تخرج خالية الوفاض دون ربح، كما تعرف الزبائن الأكثر اصطيافا، وتدرك أن حسن المعاملة خيط رابط بينها وبينهم، ثم توفر على نفسها جهد اللحاق بالمصطافين حينما يطمئنون لخدماتها، فيبحثون عنها من تلقاء أنفسهم. لكل طقوسه وقناعته ربما بدافع أخلاقي داخلي، تكتفي بعض النساء بالاستجمام، في منأى عن ارتداء ملابس السباحة، ولكل امرئ الحق في التواري عن أنظار الناس على نحو مثير، تلك هي حريته. تلك المرأة الأربعينية، التي كانت تلاعب طفلتها في مياه البحر، تعود إلى المشهد من جديد، قطعة القماش التي يتقاسمها صدرها وخصرها، شدت انتباه بعض المصطافين، الذين ازداد عددهم باطراد مع منتصف النهار، يحيط بها حشد من الأطفال والرجال وهم يلقون بأنفسهم تحت رحمة مياه جارية، ودون أن تحس بنظراتهم، تترنح يمنة ويسرة وهي تتبع حركات طفلها وسط المياه، ولما استطاع بعضهم تحويل أنظارهم عن هذا المشهد، كانت المرأة تعود أدراجها. أما المرأة الخمسينية، فكانت حريصة على مناداة كل مصطاف يمر بجانبها، وإن فاتها ذلك، تولى ابنها المهمة ليلاحق المصطافين قبل أن يفوز به منافسون في "المهنة". يكرر ابنها بصوت عال وهو يسدد نظراته إلى عيني مصطاف، "شي بارسول أخويا"، ولأن الابن لم ترقه طريقة رد المصطاف، "سير تظلل به انت"، ينتفض في وجهه وكأنما فسر إجابته على أنها تنطوي على سخرية واستهزاء، ولم تكن ضوضاء خلافهما تصل إلى مسامع بعض المصطافين، لولا تدخل المرأة الخمسينية لفك النزاع، والجهر بأن "ابنها ما كان ليخطئ لولا تهور المصطاف في ترديد عبارة غير لبقة". صفارات رجال الوقاية أغلب المصطافين يجلسون فوق كراسي وأمامهم طاولات محدودبي الظهور، وقليل منهم فضل الاستناد على الرمال لتحسس حرارتها، كانت صفارات رجال الوقاية المدنية تصدح في الفضاء، قبل الثانية عشرة صباحا، كان "مانسمان" أكثر هدوءا، وعندما تزايد عدد المصطافين، تطورت حركية رجال الوقاية المدنية تحسبا لأي طارئ، بعدما انغمس كثير من المصطافين في المياه على نحو يدعو للحيطة والحذر، لتختلط أصوات الصفارات بأصوات الأطفال المتحمسين للسباحة. في مكان غير بعيد عن المصطافين، حيث يوفر للمرء مشهدا واضحا للشاطئ، يمكن مشاهدة امرأة تقف وسط المياه التي تغطيها حتى خصرها، ترفع بصرها بين الفينة والأخرى في كل الاتجاهات، وكي تظل قريبة من الحافة، تتنفس بعمق لتواصل السباحة في تجاه يوازي تيار البحر، كما لو تحس مع نفسها أنها مرصودة لإعجاب الآخرين. لم تكن المرأة مميزة عن الآخرين، كانت عادية، شعرها المرفوع على جبينها، وملابسها التي ترتديها كأي امرئ يلبس الملابس لأنه لا يستطيع أن يتجول عاريا تماما، يوحي بأن بيت القصيد عند المرأة، التخفيف من حرارة جو، لم تنفع معها غير الغطس في مياه البحر الهادئة. على امتداد شاطئ "مانسمان" هناك مصطافون متعطشون للاستجمام، وبالإمكان الملاحظة أن الجو المعتدل يشجع على ذلك، والسير في اتجاه مخرج الشاطئ، بعد اجتياز ثلاث أو أربع خطوات، يعكس أن "متعة الاصطياف"، لم تنته بعد، إذ كان ممكنا البقاء وقتا أطول، فالناس إلى حين الرابعة بعد الظهر يرتادون الشاطئ والأطفال مازالوا يلاحقونهم لكراء المظلات الشمسية. لم يكن ثمة ما يربك راحة المصطافين، انتظام واستقرار، إنما العودة من الشاطئ نتيجة حتمية، ولأن بداية يوم جميل كانت تقضي بمواصلته على نحو جميل، كان التوجه إلى الحافلة مبكرا، اختيارا ملائما، فالازدحام وحده ما ينغص على المصطافين متعة استجمامهم، إن كانوا يفتقدون إلى سيارات خاصة، وتكون الحافلة وسيلتهم الوحيدة، لهذا بعض الأطفال والشباب في شاطئ "مانسمان" يعون بذلك، وإلا ما عرضوا خدماتهم ب"شي براسول مزيان".