لا يرى الرائي المدقّق في أحوال المنظومة التربوية الراهنة ببلادنا إلا انهيارا وشيكا لأبراج الثقافة المدرسية داخل البيئة المدرسية 1، وفراغا بيداغوجيا واضحا للعيان أفقد الموقف التدريسي باعتباره « يحتوي على عديد من جوانب التعلم من معلومات ومفاهيم، وقيم واتجاهات ومهارات سلوكية» 2 من معناه الصحيح، مما حاصر الطفل/المتعلم(ة) في دوامة « الحرمان التربوي» بقصد أو بدونه، وقادته إلى فقدان الخبرات المنظمة الهادفة لنموه من قبل مؤسسة مسؤولة عن التعليم والثقافة؛ لن تكون إلا المدرسة التي ما انفك المجتمع يطلب « أن تكون لها وظائف متعددة باعتبارها فضاء لإنتاج أفراد لمجتمع معياري يجد فيه كل فرد أو جماعة متطلباتهم» 3 الأساسية التي تمنح للوجود المعنى الحقيقي. ولا يقف المجتمع عن حدود مطالبته للمدرسة بل يتوسل « من خلال التنشئة أن يصبح الطفل عضوا كامل الانتماء، قادرا على القيام بأدواره ووظائفه التفاعلية والمؤسسية والإنتاجية.» 4 ولا داعي للتذكير بأن انفلات الطفل من حضن التعليم يعرّضه لسلبيات العوامل السوسيوثقافية، والأخطر أنها تزيحه عن المسار الحقيقي المؤدي إلى التنشئة الاجتماعية المأمولة، وبالتالي الإخفاق في تحقيق غاية التربية المثلى، وفي مقدمتها « مساعدته على تحقيق الإنسانية في ذاته « 3، سيرا على فلسلفة (أولمان J. Ulman). ليس من المبالغة في شيء القول بأن كلّ متتبع للمشاريع الإصلاحية 4 المتعاقبة التي شهدها المنظومة التربوية سيستشف هذه النتيجة السلبية في غير عناء، حيث تجلياتها أصبحت مكشوفة لا تخطئها الأفهام والأبصار، لا داعي للنبش في ملفاتها الشائكة، فالأكيد أن البادي والعادي صار يعرفها. من البديهي القول في هذا المقام، أنّ الاهتمام بثقافة الطفل، على لسان الدكتور الغالي أحرشاوي، « هو في حد ذاته اهتمام بثقافة المجتمع ومستقبله. فبدون هذا الاهتمام لا يمكن للطفل أن يكتسب مقومات شخصيته الفردية والجماعية، « 5 وبالتالي فالمجتمع، في هذه الحالة، لن يسلم من تبعات هذا الإهمال، ولن يفلح في بناء المستقبل المنشود. يجرنا الحديث هنا إلى الثقافة في صورتها الماكروسكوبية باعتبارها « اكتساب المعارف التي تنمي الحس النقدي والذوق والحكم « 6 على الأشياء واتخاذ القرار. وإذا ربطناها بالتربية الشمولية التي يقصد بها (كانط) « تربية الملكات الذهنية والحس الأخلاقي الفني» 7، فإننا سنقف عند حدود ومنطلقات المدرسة العصرية « التي تطبق المناهج المتطورة وتتفاعل مع متطلبات العصر» 8، وستتوضح رؤية الرهانات الصعبة الملقاة على عاتق المنظومة التربوية برمتها، كما سيتبين أن أهداف الإصلاحات التربوية صعبة المنال في ضوء تقلبات طقس البيئة التربوية الحالية، ومنها الممارسة التعليمية بوجه التحديد. المعروف أن الطفل منذ ولادته « يشكل كلا متميزا « 9 وحين ينمو ويتقدم في مراحل التعليم، يغدو أكثر حاجة إلى إخضاعه للتربية، كما تصور (كانط) والاهتمام بثقافته المدرسية من طرف المربى، وذلك بغرض « تنمية الشخصية وحمايتها من كل أنواع الفساد الاجتماعي « 10 الذي يحول دون اندماج الطفل/المتعلم(ة) في السيرورة المجتمعية المتسمة بالاتزان، وبالتالي القطع مع الممارسات الثقافية النشاز والهجينة تلك التي شرعت في نخر منظومة القيم المدرسية والاجتماعية على قدم المساواة. الحال أن الثقافة المدرسية التي يتطلع إليها أطفالنا لا يمكن لحالها أن يستقيم في غياب تفاعل المجتمع المدرسي (الإدارة والمدرسون والتلاميذ) مع بعضهم البعض « وحلهم للمشكلات والتحديات التي تواجههم. وهذه المنظومة غير رسمية (لا تدون عادة في وثائق المدرسة)، بل تتكون من التوقعات والقيم التي تشكل طريقة تفكير الناس ومشاعرهم وتصرفاتهم في المدرسة، وهذه التأثيرات هي التي تجعل المدرسة وحدة واحدة وتعطيها خصوصياتها. والثقافة المدرسية لها قوة بالغة في التأثير على جميع جوانب العميلة التربوية في المدرسة» 11، رغم أن الكثيرين يقزمون من دورها ويتم تجاهله والتقليل من شأنه لاعتبارات واهية تأخذ «شرعيتها» من ثقافة مجتمعية مغلوطة وتفكير جامد. والأخطر إن كان هذا التفكير العدمي والرؤية البخسة تجاه الثقافة المدرسية قادم من الأسرة، باعتبارها أول مؤسسة اجتماعية من المفروض أن ينشأ فيها الطفل وينهل من تقاليدها الاجتماعية ومن تعاليمها الثقافية. إلا أن الحقيقة، مع الأسف، عكس ذلك، حيث أضحت هذه المؤسسة الاجتماعية في السنوت الأخيرة ، كما يشير إلى ذلك محمد جسوس، « تتعرض لعدد كبير من التغيرات، وفي مقدمتها محدودية دورها بفعل ظهور مؤسسات أخرى تنافسها في هذا الدور وتقلص مسؤوليتها ووظائفها بفعل تأثرها بالظروف الاقتصادية والسياسية للمجتمع «12، وبالتالي صارت الثقافة المدرسية أيضا عرضة لهذا التحول والتغير، وهو ما لا يخدم بتاتا مصلحة الطفل/المتعلم(ة)، ويفوت عليه فرصة تحقيق إنسانية بمعناها الشامل وتهدد وجوده أيضا. ولعلنا نتفق، جملة وتفصيلا، مع الطرح الذي صاغه (جورج سنيدرس G, Snyders) عن الثقافة المدرسية بوصفها «بحث عن طريقة للوجود، إنها تسم الوجود الإنساني وتغيره « 13 إيجابيا، إنها تجعلنا ندرك سحر الأشياء المصنوعة 15 كما يقول بركات محمد مراد، وما يقذف به المصنع والآلة من نتاج له طابعه الجمالي المنفرد، بل له ألحانه و»رومانتيكيته» على حد تعبير (بريشت)، إنها، أي الثقافة المدرسية، ترينا فيما ترينا «واقع المدينة المدهش» على حد تعبير (بودلير)، إنها ترينا، بشيء من الإيجاز، ما في امتزاج الإنسان بالطبيعة من إبداع وجمال. كل ذلك مرهون بمدى نجاح السياسة التعليمية في مساعيها وتحقيق مقاصدها وبلوغ غاياتها، لكننا، ورغم كل الإصلاحات التربوية، نسجل، حتى الآن، غياب سياسة معقلنة تقود إلى « تصور واضح ومنسجم وهادف لمفهوم الإنسان/الفرد/المواطن الذي يعتبر-في أي مجتمع- المحور الأساس الذي تتمحور حوله كل غايات وأهداف النظام التربوي/التكويني.» 17 كما أننا نضع اليد على الداء الذي استعصى على من يتحمل مسؤولية النهوض بقطاع التعليم المدرسي، الأمر يتعلق بالبرامج التكوينية، حيث تبدو غير مناسبة إن لم نقل متجاوزة، «وذلك بفعل جمودها وفشلها في تحقيق رغبات الأطفال وتطلعاتهم المعرفية والثقافية،» 18 التي تجعلهم يستمتعون بحقهم في التربية والتعليم. هذا فضلا عن المخططات التعليمية والتكوينية التي عرفت هزات ورجّات قوية خضعت في مجملها لسياسات الأحزاب ورغبات الحكومة، ورغم كل التجديدات والتغييرات التي شهدها الحقل البيداغوجي من إلغاء لأنماط بيداغوجية «غربية» تحت ذريعة تحقيق مطالب الشعب، إلا أن أغلبها مازال يشكل « تركة لعهود الاستعمار» 19، ولا يمت أي صلة بالواقع المغربي الحقيقي. لعل افتقار البرامج التكوينية الحالية إلى الهوية البيداغوجي جعلها محط اتهام مباشر؛ لما لا وهي تفتقر إلى المعدات والوسائل التربوية الكفيلة بإنجاح مقاصدها والانتقال بها من النصوص الصورية إلى الممارسة الفعلية، وهذا يؤثر بشكل كبير على الثقافة المدرسية التي ننشدها في سبيل إمداد الطفل المغربي بالمعارف الثقافية تساوقا مع حاجاته الخاصة وتتطابقا مع رغباته وطموحاته الشخصية. إن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل تطال الأزمة كل أفراد المجتمع المدرسي بما فيه رجل الإدارة حيث؛ تسلب منه إرادة الإبداع والتجديد وتنفلت من بين يديه أحزمة القيادة البيداغوجية، ويغرق في بحر الأرقام والإحصائيات جردا وتدقيقا مما يفقده حس الإدارة الفنية ويكون بالتالي بعيدا عن تحقيق كفايات المشاركة في تأهيل الحياة المدرسية والثقافة المدرسية بوجه التحديد. سيكون من باب السخرية عدم التطرق للمدرس(ة) الحلقة الأصعب العلاقة التربوية بلغة ( جان كلود فيلو J. C Filloux ) 20 إذ ستظل له مكانته البارزة، شئنا أم أبينا، في منظومة التعليم، لكن في ظل هذه الأزمة الثقافية، كذلك، تنتشل منه الرغبة في التربية وتنويع الطرائق التدريسية والتفكير في حاجات الطفل والانخراط في مسلسل الإصلاح الشمولي للوضع التربوي المتردي، المؤدي طبعا إلى تحقيق ثقافة مدرسية « تشارك في النمو الذهني والانفعالي للطفل في تكامل مع المنهج المعرفي « 21 الصرف الذي بات الشغل الشاغل للمدرس(ة) المعاصر الفاقد لفنون الديداكتيك وصار، بقوة الفعل شخصا «إبستيميا» ومنفذا سلبيا للمنهاج الدراسي « تتحدد هويته المهنية بالتحكم في المعارف التي يمررها إلى التلاميذ « 22 بشكل عمودي جاف. ويا ويحه إن خرج عن هذا المسار الموسوم بالروتينية القاهرة، فلا يجد أي دعم مادي كان أو معنوي من لدن الفاعلين التربويين الذين يمثلون الأضلاع الوهمية لمثلث إنقاذ المدرسة المغربية. حري بالتنبيه أن الثقافة التي نصبو إليها جميعا داخل مدرسة اليوم؛ هي الثقافة المبدعة « الخلاقة التي تساعد الطفل في بناء شخصيته الوطنية وتمكنه من التعبير والإبداع واكتمال هويته الثقافية « 23 وإذا كان الطفل يأتي إلى المدرسة لبدأ تكوينه العقلي والحضاري والإنساني ويحقق الاستقلال الطبيعي داخل المجتمع كما يقول (جان جاك روسو)، فلذلك ينبغي أن تكون المدرسة « قطعة من الجمال والنظافة والتنسيق « 24 لأن الطفل الذي تستقبله هذه المدرسة يتعلم بعينه ثم يتعلم بأذنه، والتعلم المعاصر، كما يعرف الجميع، ليس حشو معلومات بل استنباطها بالرؤية وفي غياب الصورة الإيضاحية تغيب المعلومات وتتبخر وتبقى المشاهدة والممارسة. لكن المتأمل للمضامين المدرسية الحالية سيتفق مع رؤية (كارل روجرز C. Rogers) حيث أن كل ما يتعلمه الأطفال في ظل التغيرات السريعة التي تجتاح العالم، يصبح غير ذي جدوى « في واقعهم بعد تخرجهم من المدارس، ويظل فقط شيء واحد يمكن أن يفيدهم، وهو تنمية التفكير الإبداعي الذي يسلحهم بقدرات وكفايات تجعلهم قادرين على مواجهة أي نواع من المشكلات التي يصادفونها أو تستجد في بيئتهم. « 25 يجب أن ندرك في شيء من القناعة أن الثقافة المدرسية الفعلية ليست « مجرد ثقافة المقررات ومحتوياتها، بل هي مجموع الخبرات والمواقف والسلوكات التي يكونها المتعلم عن طريق مشاركته في بناء مشاريع خاصة بالتعلم، « 26 مما يفضي به إلى الحصول على مفاتيح المعرفة وتملك مصادرها وإنتاجها، وبالتالي بلوغ المقصد الأسمى من الثقافة المدرسية وهو التمييز بين الغزو الثقافي والتفاعل الثقافي حينها يمكننا القول أن رهان الإصلاح التربوي بالفعل حقق الغاية المثلى ببلادنا. باحث تربوي م/م أكرض إمنتانوت