لا بأس من التذكير بأن قضية التربية والتكوين هي القضية الثانية بعد قضية الصحراء المغربية، وهي قضية يوليها جلالة الملك محمد السادس عناية خاصة في خطاباته ورسائله الموجهة في كل مناسبة تحدث عنها جلالته عن المنظومة التربوية إلى كل المعنيين من حكومة وفاعلين سياسيين واجتماعيين واقتصاديين و إلى الأسر المغربية، لما لها من أهمية قصوى ومحورية في إعداد المواطن إعدادا جيدا وسليما حتى يتمكن المغرب من أن يكون دولة صاعدة في كل المستويات، لا يمكن للمغرب أن يتطور ويتقدم بدون منظومة تربوية عصرية حداثية تجعل من التربية والتكوين النواة الصلبة لمشروعنا المجتمعي في تهيئ كل الظروف الضرورية والملائمة لمغرب قرن 21 – منظومة لها القدرة على تجاوز كل الاختلالات والإكراهات البنيوية والقانونية والبشرية والمالية التي تعيشها في كل المستويات مع ضرورة تطوير وتجويد المكتسبات التي حققتها منذ استقلال المغرب. لقد بذل المغرب مجهودات غير مسبوقة للنهوض بهذا القطاع، سواء تعلق الأمر بالإمكانات المالية أو بالتشريعات القانونية أو بسياسة الانفتاح وتبادل الخبرات والتجارب حتى بلغنا درجات متقدمة ومتطورة عن الماضي بكل مراحله، لكن مع كل أسف أتت هاته الحكومة على الأخضر واليابس في المنظومة، وذلك من خلال السياسة الارتجالية وغياب الرؤية والاستراتيجية في تعامل مسؤولي قطاعي التربية الوطنية والتعليم العالي على السواء خلال سنوات 2012-2016، وبذلك تكون الحكومة قد هدمت أغلب ما بني خلال سنوات مضت، بل ساهمت في فقدان الثقة في المنظومة وزعزعت كل إيمان بأن منظومتنا التربوية قادرة على مواكبة التطور وإعداد المواطن المؤمن بأدواره في المجتمع حقوقا وواجبات. أصل القضية بتاريخ 08/11/2013 عقد اجتماع برئاسة السيد رئيس الحكومة وبحضور السيد وزير الاقتصاد والمالية والسيد وزير التعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي تم بموجبه توقيع اتفاق إطار ينضاف إلى اتفاق إطار آخر تم توقيعه بين وزارة التعليم العالي ورئاسات الجامعات بهدف تكوين 10000 إطار تربوي من حاملي الإجازة وتمتد فترة ذلك الاتفاق من 2013 إلى 2016، عمليات تكوين للأطر التربوية بهدف تأهيلهم ومساعدتهم على الاندماج في سوق الشغل إما في قطاع التربية والتكوين أو في قطاعات أخرى. هذا وقد خصصت الحكومة مبلغ 161 مليون درهم يمتد على سنوات 2013-2016 تشمل إعانات تحفيزية للأطر التربوية المعنية حددت في 1000 درهم شهريا. الاجتماع هذا حضره مسؤولون حكوميون ورؤساء الجامعات ومدراء المدارس العليا للأساتذة وممثلو أكثر من 150 مؤسسة للتعليم الخصوصي وبحضور رابطة التعليم الخصوصي الذين التزموا بتشغيل الأطر التربوية بمؤسساتهم. ومنذ ذلك التاريخ والأطر التربوية تعاني من التدبير السيء لهذا الملف نذكر من ذلك ما يلي : تأخر في تسلم الإعانات التحفيزية. وتضارب في أمر من سيسلم هاته الإعانات وكيف يتم ذلك؟ خوض مجموعة من الوقفات الاحتجاجية والإضرابات أمام المدارس العليا للأساتذة وبعض الجامعات. اختلاف في عمليات تدبير تسوية هذا الملف. منطلقات القضية حين دافعنا عن نقل المدارس العليا للأساتذة إلى الجامعات التي توجد في دائرة نفوذها الترابي، وعدد هاته المدارس 8، كنا نريد بذلك أن يتم استمرارها في أداء مهام التكوين الأساسي والتكوين المستمر والبحث التربوي من أجل الاستجابة للحاجيات المستمرة للأطر التربوية في قطاع التربية الوطنية، وذلك في إطار تعاقدي بينها وبين الجامعات، وهذا ما تم التنصيص عليه في المادة 5 من القانون 47.08 المتعلق بنقل المدارس العليا للأساتذة إلى الجامعات، والمهام التي أنيطت بهاته المدارس ترجمها صراحة كذلك دفتر الضوابط البيداغوجية الوطنية، إذ يشير في مادته التاسعة إلى أنه تسلم شهادات وطنية نذكر منها شهادة الأهلية للتعليم الثانوي في إطار تعاقدي كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وهو ما يتطابق تماما مع ما التزمت به الحكومة خلال اجتماعها ليوم 8 مارس 2013 وكذا خلال الكلمة التي ألقاها السيد رئيس الحكومة أمام المعنيين من طلبة وأطر تربوية وأساتذة باحثين وأصحاب مؤسسات التعليم الخصوصي بتاريخ 11 يونيو 2014 بمقر المدرسة العليا للأساتذة بالتقدم بالرباط بمناسبة تخرج الفوج الأول للاتفاق الإطار بعدد يفوق 2200 إطار تربوي. 10.000 إطار تربوي موضوع الاتفاق الإطار توزعت على أربع سنوات عوض ثلاث سنوات ( 2013 باستقبال 2400 فرد، و 2014 باستقبال 2400 فرد و 2015 باستقبال 2300 فرد و 2016 أي خلال الأسبوع المنصرف نظمت المدارس العليا مباريات لاستقبال العدد المتبقي في السنة الرابعة والمحدد في 2300 إطار). إن ما يثير الاستغراب في هاته العملية التي نسجل بشأنها التكوين الجيد النظري والتطبيقي الذي تلقاه هؤلاء الأطر، وقد كلف كل إطار من هؤلاء 16000.00 سنويا إضافة إلى ميزانيات التسيير والاستثمار الخاصة بكل مدرسة عليا، هو كيف لحكومة تترك أغلب هؤلاء الأطر التربوية يواجهون المجهول؟ في زمن يعرف فيه قطاع التربية الوطنية خصاصا مهولا بسبب مغادرة مجموعة من الأطر التربوية في إطار التقاعد بنوعيه وبسبب الحاجيات السابقة، ونحن اليوم أمام حاجة في التعليم الأولي لما يقارب 4500 إطار تربوي والتعليم الابتدائي لما يقارب 7000 أستاذ الابتدائي والتعليم الإعدادي لما يقارب 8000 أستاذ الإعدادي والتعليم الثانوي التأهيلي بما يقارب 9500 أستاذ الثانوي التأهيلي أي أننا في حاجة لما يقارب 30000 إطار تربوي. أسئلة القضية لعل المتأمل في ما بلغته منظومة التربية والتكوين اليوم يطرح أكثر من سؤال لا نجد له أجوبة شافية نذكر منها : ما سر اللخبطة في تدبير منظومة تربوية تعد القضية الوطنية الثانية بعد قضية الصحراء المغربية؟ كيف يمكن أن نفهم ونستوعب القرارات المتخذة في قضايا التربية والتكوين والتي تتسم بالتناقض والتضارب وعدم الانسجام في ما بينها؟ لماذا لم يلتزم القطاع الخاص بمقتضيات الاتفاقات المبرمة مع الحكومة؟ وما سر هذا الدعم اللامشروط للحكومة للقطاع الخاص في كل مستوياته؟ وكم شغل هدا القطاع من إطار تربوي خلال سنوات 2013-2016؟ لماذا تعاملت الحكومة مع المنتسبين إلى القطاعات الاجتماعية والمعنيين بها (التعليم، الصحة، السكن) بنوع من القسوة، والتشدد واللامبالاة والقهر بلغت أحيانا حد الحكرة (الأطباء، الأطباء الداخليون، الأساتذة المتدربون، الممرضون، الأطر التربوية، المعطلون،...)؟ لماذا لم تحترم الحكومة التزاماتها واتفاقاتها ...؟ كيف يمكن أن نفهم أن خصاص المنظومة اليوم يقارب 30000 أستاذ في كل المستويات وكل المدن والقرى، وأبناؤنا من الأطر التربوية يعتصمون ويضربون عن الطعام ويجولون شوارع الرباط متذمرين، يائسين لم يُسألوا، لم يُسمعوا، لم يحاوروا؟ إنهم حائرون يتساءلون يفكرون!؟ وبالإضافة إلى ذلك أي إطار تربوي ومواطن مسؤول يتم إعداده وهو يتعرض للسب والقذف والرفس والضرب والإهانة ! !؟ أليس هذا هدرا حقيقيا للطاقات والإمكانات المالية والمادية والبشرية في زمن سياسي واجتماعي صعب وطنيا وإقليميا ودوليا؟؟ أليس صرف 161 مليون درهم يعد هدرا للمال العام حين نرى أغلب هؤلاء الأطر التربوية في الشارع !؟ أطر عليا منهم من هو حاصل على الإجازة ومنهم من هو حاصل على الماستر ومنهم من هو حاصل على الدكتوراه اجتازوا جميعهم مباريات الانتقاء الأولي ثم امتحانات شفوية وكتابية قصد ولوج المدارس العليا للأساتذة وبعدها خضعوا لتكوينات نظرية في مواد التخصص من علوم التربية والديداكتيك كما استفادوا من تداريب ميدانية بمدارس عمومية وكذا من التعليم المصغر داخل مدارسهم العليا، وبعدها اجتازوا امتحانات التخرج إثر مناقشتهم للبحوث وتقارير التداريب فحصلوا على شهادة الأهلية لمهن التدريس. كل ذلك حصل خلال سنة جامعية . ألا يكفي كل هذا التكوين بإشراف كفاءات اطر تربوية في المدارس العليا للأساتذة؟ لماذا لم تتعامل الحكومة مع القطاع الخاص بنفس الصرامة التي تتعامل بها مع مكونات القطاعات الاجتماعية؟ وبالعودة إلى القطاع الخاص في مستوى قطاع التربية الوطنية وجب التذكير بأن مجموع المؤسسات التعليمية بكل أسلاك القطاع يقارب 5000 مؤسسة على الصعيد الوطني وهو رقم يمثل تقريبا ثلث المؤسسات في القطاع العام الذي يفوق 15000 مؤسسة، في حين نجد أن عدد التلاميذ بالقطاع الخاص أقل بكثير منه في القطاع العام، والأدهى هو استعانة الخاص بالأطر التربوية وأحيانا الإدارية للعام. وهاته معضلة لم تتمكن الحكومة من الإنهاء معها رغم ما صرح به وزراء القطاع وقرروه وكانوا بذلك يزعزعون استقرار المنظومة نظرا للطرق التي اتبعوها في طرح القضية والمفاوضات بشأنها وطرق معالجتها. هل هاته الحكومة مسؤولة وهل المكلفون بالمنظومة عقلاء و متزنون و واعون بحجم مهامهم و أدوارهم و مسؤولياتهم، وهم يسمحون لما يقارب 20000 أستاذ بالتقاعد، وفي المقابل وظفوا فقط ما يقارب9300 أستاذ . بل إنهم التجاؤا إلى شركات المناولة لسد بعض الخصاص. و هذا قمة العبث بالمشروع المجتمعي الوطني. فأي وطن يربى أبناءه بطرق أصحاب شركات المناولة ذات الحلول السريعة و غير المتخصصة . بعض اقتراحات طي القضية أما بعد، إن الوطنية الحقة تقتضي أن يتحمل الكل مسؤوليته في ما يرتبط بمنظومة التربية والتكوين فتتم معالجة قضاياها في إطار شمولي وشامل، عمودي وأفقي، تنزيلا حقيقيا للرؤية الاستراتيجية 2015-2030 والتي ضاعت منها سنة كاملة دون أن يتم الانتهاء من المقدمات الأساس والمداخل السليمة لتنفيذ مقتضيات هاته الرؤية ،استنادا إلى القانون الإطار لمنظومة التربية والتكوين، ونعتقد أنه قبل البدء في تنفيذ ذلك وجب تنقية الأجواء وتصويب الاعوجاجات وتأهيل الموارد البشرية والاهتمام بها والثقة في ذكائها وقدراتها التدبيرية والتربوية، ونشير إلى أن الأبواب الكبرى لذلك هو إصلاح الأنظمة الأساسية كثيرة الترقيعات وتحديد مهام ومسؤوليات كل معني بالمنظومة على حدة مع التنفيذ السليم لمقتضيات الجهوية في كل المستويات والدفع بالاستقلالية التامة للأكاديميات استقلالا إداريا وماليا وبيداغوجيا مع الحفاظ على المشترك الوطني بنسب يمكن أن تبلغ 80% وملاءمة الخصوصيات الجهوية في حدود ما تبقى، وذلك بمراعاة المعطى الجغرافي والثقافي والبيئي وغير ذلك، وأما بخصوص موضوع الأطر التربوية فوجب : فتح ملف التعليم الخاص بطرق جدية ومسؤولة غير متقطعة من حيث المسؤوليات والحقوق والواجبات. و انطلاقا من كون قضية التربية والتكوين القضية الثانية بعد قضية الصحراء المغربية فإن التعامل مع ملف المعنيين بها يجب أن تكون له خصوصيات، خصوصا في إسناد المناصب المالية لهدا القطاع ومسألة مناصب البالغين سن التقاعد حيث وزارة المالية تفاوض القطاع وهي تحتسب المناصب المالية للبالغين سن التقاعد و بذلك تضيع على القطاع هاته المناصب و هنا بداية الأزمة. العمل على إدماج خريجي المدارس العليا للأساتذة من هؤلاء الأطر التربوية (وعددهم اليوم لا يتجاوز 3500 إطار تربوي إذ منهم من وظف ومنهم من التحق بالتكوين في المراكز الجهوية لمهن التربية و التكوين ) في مؤسسات القطاع العام والخاص مع الضمانات اللازمة لاستقرارهم النفسي والاجتماعي في هاته المؤسسات. فتح ملف الموارد البشرية الخاصة بقطاع التربية و التكوين اسما اسما، حتى نعرف الوضع الحقيقي فيه، و نتخذ القرارات اللازمة للحد من الهدر و الضياع و التشتت. أما بعد، هاته بعض الاقتراحات حتى لا نكون أمام ما هو أسوأ في قطاع حيوي استراتيجي للوطن ،قد تهدم العمارات و تفلس الشركات و نستطيع استدراك الأمر لكن حين تدمر النفسيات و يفتقد الأمل و تنكسر الأجنحة و يقتل الطموح و تقل الوطنية. فذاك خطر على وطني .وطنك .وطننا جميعا. *عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الكاتب العام السابق للنقابة الوطنية للتعليم العالي أستاذ باحث بجامعة محمد الخامس الرباط.