في لحظةٍ عامرةٍ باللّامعنى واللّاشيء، وبكلِّ المعاني وكلِّ الأشياء، استحضرتُ، أو اسْتَحْضَرَتْنِي، تلك الصُّورُ الملقاة بعبثيةٍ في سلَّةِ الذّاكرة. في تلكَ الهُنَيْهَةِ القصيرةِ جدّاً، وقفتُ عند صورتِنا أنا وهي، نَتَرَجَّلُ في أحدِ شوارعِ العاصمة الرباط. كان برفقتِنا باقي الرّفاق، لكن في المشهدِ، كنتُ أنا وهي ولا شيء ... وجهتُنا لحظتئِذٍ، كانت المقهى بحيِّ أكدال، وكانت تحكي لي عن أخيها المُتَبَخْتِر، وعن رغبتِهِ في التَّحكمِ بها. هي ذي الرَّغبةُ التي يعشقُها الرَّجُلَ الشّرقي، ويجعلُها رمزاً لرجولتِهِ، وفحولتِه. وأيَّ تَوَدُّدٍ، أو مُلاطفة، هي ضُعْفٌ في الشّخصية. كانتْ، وهي تتحدث، جدُّ منزعجةٍ كما ظهر ذلك من خلال قسماتِ وجهِها، ونبراتِ صوتِها. وكنتُ، وأنا أستمعُ باجتهادٍ وتركيزٍ كبيرين، أُوافقها على انزعاجِها، وأشرحُ لها من حينٍ لحين، سيكولوجية الرّجل المغربي البطريقية، والأبيسية. آهْ، أَحُسّني، وأنا أتكلمُ عن السّيكولوجيا، والسّوسيولوجيا، والأنثروبوجيا، ذلك الرّجل الذي سيخلف بول باسكون، وسيغموند فرويد، وكارل يونغ. لكِنْ، وأنا أستمعُ، وأجيبُ، وأفعلُ أشياءَ أخرى ليسَ المقامُ مقامَهَا، قلتُ بصمتٍ، أو قال أَنَايْ الآخر: « هل يحصلُ أن أُغرم يوماً ما بهذِهِ المرأة؟ ... أَيمكنُ أن نَسقطَ في شِراكِ الغرام؟».. عجيبْ؛ من يدفعُ بمثلِ هَكَذَا أسئلة لِتَنْطَرِحَ رغماً عنَّا، ودونَ وعيِ منا. كَذَبَ من قال؛ إنَّنَا نحنُ البشرَ، أحرارٌ في ما نَفعل، وما نَقول، وما نُريد. الحريةُ وهمُنَا الحقيقي. نعي بِما نفعل وما نقول، نعم. لكنَّنَا، نجهلُ الأسبابَ أو القوى التي تدفعُنَا إلى الفعلِ أو القول. هل نتحكم، نحنُ الإنسانَ، في مصيرنا فعلا؟ جون بول سارتر قال؛ نَعَمْ. هي طبعاً لم تسمعْ، ولم تدرِكْ ما جَالَ في خاطري، ولم تُجِبني. لكِنْ، بعد ردحٍ من الزَّمنِ، أجابَنَا «القَدَرُ» بِنَعَمٍ وقال: «ها أنتُما معاً، فرخينِ عاشقينِ لبعضِكُما البعضُ». قال هذا وأَخْفَ أشياءَ أخرى إلى حينٍ؛ لم يقُل إن هذا الذي يُسمى الحب، غَدَا عملةً مُزورة، وأحَد الأدوار السّينمائية التي يُتْقنها الكل، ولم يقل إنَّهُ، في المغربِ الأقصى، مُجَرَّدَ عملةٍ خسيسةٍ، بخيسةٍ، رخيصةٍ، مقارنةَ بعملةِ الدّارِ، والخُبزِ، والفلوس ... لم يقل إبنَ الكَلْبَةِ الضَّالَةِ، إن فَرْخَتَكَ تُريدُ الخبز ولا تريدك. جون بول سارتر وواصل ابنُ عطاء لم يَقُولا بهذا المُسَمّى «قَدَر». انتهى المسلسلُ بعد شهرين، وبقيت مشاهدُهُ ملقاة في ركنٍ هناك، في الذاكرة. إذنْ، يحدثُ أحيانًا أن يُطَوِّح بنا ذهنُنا، من حيثُ لا نَبْغي، إلى الوراء، إلى ذكرِ المنسي، وإلى رفعِ القلمِ وكتابةِ أمورٍ كثيرة.. أمور مثل؛ أنا وهي ولا شيء ...