كيف يستغل المال الجزائري في صناعة الفشل؟    الصحافة الإيطالية تتناول قرار بنما تعليق اعترافها ب"الكيان الوهمي" لبوليساريو    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    ارتفاع رقم معاملات السلطة المينائية طنجة المتوسط لأزيد من 3 مليار درهم    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    أسطول "لارام" يتعزز بطائرة جديدة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    إعطاء انطلاقة خدمات 5 مراكز صحية بجهة الداخلة وادي الذهب    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    دعوات لإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الفلسطينيين بالمدارس والجامعات والتصدي للتطبيع التربوي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أوراق من ذاكرة باهي 76
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 05 - 09 - 2016

أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك..
«الشرق يحكم، الوسط يعمل، الجنوب يمول، الغرب يرقص والشعب ينتظر» : هكذا حدد أمامنا صديق جزائري ظريف توزيع الأدوار وتقاسم النفوذ، بين مختلف المناطق الجغرافية، قبيل انفجار أحداث خريف الغضب الأخيرة.
والشرق الوارد في هذه الدعابة السياسية، هو اصطلاحا، تلك المنطقة التي تضم مدن سطيف وقالمة وقسنطينة في الداخل، ومدن جيجل والقالة وسكيكدة وعنابة على الشاطئ، ومراكز سوق أهراس وتيمة وخنشلة وباتنة على تخوم جبال الأوراس، وهو، حقيقة مكان ضيق يطلق عليه الجغرافيون وصف «منقار البط» بسبب شكله المورفولوجي، الذي يظهره سهما مقوسا في الرأس، ممتدا داخل القطر التونسي المجاور. وبعض الزملاء الجزائريين يسمون تلك المنطقة : «مثلث برمودا». إلى هذه المنطقة الجغرافية المحصورة في الأطراف الشمالية الشرقية ينتمي الرئيس السابق هواري بومدين، وإليها ينتمي الرئيس الحالي الشاذلي بن جديد، ومنها جاء محمد الشريف مساعدية، المسؤول السابق لجبهة التحرير الوطني وخليفته عبد الحميد المهري، وإليها ما يزال ينتمي قادة الجيش ومنها كان يجري اختيار الوزراء والسفراء والمدراء وعموما كبار رجالات الدولة والحزب والإدارة ومسؤولو الشركات الكبرى.
وحتى لا نظلم هذا الشرق لابد أن نشير، على الطريق، إلى أنه كان باستمرار مسرحا للأحداث الحاسمة في تاريخ الجزائر. وكان قلعة الحركة الوطنية الحديثة، بل كان، تحديدا في قسمه الأوراسي، الذراع الضاربة للثورة التحريرية.
والوسط المعني في هذه النكتة هو هذه المنطقة الجغرافية الممتدة من سطيف حتى الأصنام، مرورا ببلاد القبائل ومدن المدية والبليدة، والبويرة في الداخل، وموانئ بجاية ودلس والجزائر العاصمة، وشرشال وتنس، أي تلك الحواضر الرومانية والأندلسية القديمة ذات التقاليد العريقة في التجارة والزراعة والصناعة، حيث تتركز المصانع والمزارع وشبكة العلاقات المعقدة مع الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط.
والجنوب المقصود هو الصحراء الجزائرية الكبرى الممتدة من سفوح سلسلة جبال الأطلس حتى ليبيا والنيجر ومالي شرقا وحتى المغرب وموريتانيا غربا وجنوبا، والتي تضم في أحشائها أهم احتياطي عالمي، مكتشف للغاز، وثروة نفطية لا يستهان بها.
وأما الغرب الذي خصته هذه النكتة بمهمة الرقص، فهو ذلك الشريط الشاطئي الممتد من مستغانم حتى ميناء العربي بن مهيدي بجواæر مدينة السعيدية المغربية، مرورا بأرزيو، فوهران، فبني مصاف والغزوات، مضافة إليها مدن داخلية عريقة مثل تلمسان ومغنية وعين تموشنت وبلعباس وتيارت وسعيدة. في هذا «الغرب» المواجه لإسبانيا والمجاور للمغرب، ولدت موسيقى الراي، ومنه انطلقت موضتها نحو الغرب الأوروبي، قبل أن تفرض نفسها على الساحة الجزائرية نفسها.
بالطبع تقسيم الأدوار بين المناطق الجغرافية على تلك الصورة لا يخلو من مبالغة، ولكنه يعطينا فكرة تقريبية على نظرة المجتمع المدني إلى الدولة، إن الإعتقاد السائد لدى قطاعات واسعة من النخبة الجزائرية هو أن صناع القرار الإستراتيجي ينتمون كلهم إلى الشرق، والمشرفون على الصناعة والزراعة والتجارة هم من المناطق الوسطى، والذين يمولون النشاط هم أهل الجنوب، أما الذين يعيشون حياتهم اليومية من دون تعب كبير، فهم أهل الغرب، وليس هذا الوصف الكاريكاتوري خطأ كله ولا صوابا كله.
وإعلان التشكيلة الوزارية الأخيرة تحت رئاسة العقيد قاصدي مرباح في أعقاب نهاية الفصل الدموي من خريف الغضب الجزائري. وبعد التغيير الذي أدخل على الدستور وأصبحت الحكومة بموجبه مسؤولة أمام البرلمان، جاء يعطي لمسألة التوازن الإقليمي، داخل مؤسسات الدولة، حيوية جديدة. النقاش الدائر الآن، داخل الأقسام العليا من الطبقة الحاكمة وفي صفوف المجتمع المدني والذي يمتد إلى المثقفين والعمال والتجار والطلاب المقيمين بالخارج، يتناول شخصيات الوزراء الجدد، ماضيهم وحاضرهم وأصولهم المحلية، ويحاول المشاركون فيه أن يستنشفوا مؤشرات الثوابت والمتغيرات في السياسة الجزائرية.
يتركز النقاش حول وجوه-رموز في الحكومة الجديدة. يأتي في طليعتها الوزير الأول قاصدي مرباح، وبعده مباشرة بوعلام بسايح وزير الخارجية، ثم أحمد غزالي وزير المالية وأبو بكر بلقايد وزير الداخلية، وعلي عمار وزير الإعلام والثقافة وصادق بوسنة وزير الطاقة والصناعة البتروكيماوية. يحتدم الجدل حول هذه الأسماء، لاعتبارات متعددة يختلط فيها عنصر الفضول الصرف، بعنصر الاستغراب والقلق.
الوزير الأول قاصدي مرباح، كما يذكر أستاذ جامعي جزائري صديق يعرف كل شيء عن الجميع ولا يعرف الآخرون إلا القليل القليل. لقد أمضى الرجل فترة الحرب كلها في المغرب، وساهم تحت إشراف المرحوم عبد الحفيظ بوصوف في بناء جهاز الاستخبارات السري للجيش والجبهة، وشارك في الانقلاب الذي أطاح بالرئيس أحمد بن بلة (عام 1965) وفي إيصال الشاذلي بن جديد إلى الرئاسة. واللغز المحير في حياة الوزير الأول الجزائري هو أنه كان دائما، وهو في الظل، تنسب إليه أشياء كثيرة لا يمكن التأكد من صحتها أو خطئها في ضوء الصمت المطبق الذي يحيط به، وفي ضوء التكتم الشديد الذي فرضته عليه طبيعة عمله. يقول العارفون -والكلام دائما للأستاذ الجامعي الجزائري- أن دور قاصدي مرباح كان ينحصر في توفير عناصر القرار، ويقولون أنه بطبعه لم ينصح بومدين ولم يقترح عليه موقفا معينا، وأنه اتبع نفس الأسلوب مع الرئيس الشاذلي بن جديد. وسواء كان هذا التصور للرجل صائبا أو مجانبا للصواب، فإن منصبه الجديد سوف يفرض عليه، بحكم طبيعة الأعباء التي يضطلع بها وبفعل متطلبات المرحلة التاريخية المتغيرة، أن يخرج من المواقع الخلفية للسلطة إلى صدارتها... لقد جرى الاستفتاء الذي تم بموجبه تعديل الدستور يوم الخميس (3 أكتوبر)، وفي يوم السبت أعلن عن تكليف مدير الأمن العسكري السابق بتأليف الوزارة الجديدة، وذكر قاصدي مرباح في تصريح للصحفيين أنه سيجري مشاورات واسعة وسوف يتمكن من تقديم أسماء الوزراء إلى الرئيس قبل نهاية الأسبوع، وأمام هذا الاحترام الدقيق للشكليات، خيل لبعض شيوخ السياسة الجزائريين، أن بلدهم عاد إلى عهد الجمهورية الرابعة، وأن الديمقراطية البرلمانية بعثت من جديد، ولكنهم تذكروا أن المجلس الوطني الذي أصبحت الحكومة مسؤولة أمامه، منبثق كله من الحزب الواحد الحاكم، والحكومة الجديدة لابد أن تكون من «أهل البيت».
وقد قدم قاصدي مرباح حكومته إلى الرئيس يوم الأربعاء (9 نوفمبر)، واحتفظ فيها بتسعة وزراء من سابقتها، بينهم خمسة ظلوا في مواقعهم الأصلية وأربعة انتقلوا من مناصبهم إلى غيرها. والإنطباع الأول هو أن «التكنوقراطيين» و«الخبراء» دخلوا بقوة هذه المرة إلى الوزارة، مع تحقيق شكل أقوى من أشكال التوازن الجهوي. لقد اختفت أسماء مهمة من الوزارات الأساسية، وارتقت أسماء جديدة إلى وزارات أهم، وبدلت بعض الوجوه المرموقة في النظام حقائبها. هكذا ترك السيد بوعلام بسايح وزارة الثقافة إلى وزارة الشؤون الخارجية، وغادر السيد الهادي الخضيري وزارة الداخلية إلى وزارة النقل، الأقل أهمية ولكن الأقل حساسية والأقل هشاشة أيضا منها. والمعروف أن السيد الهادي الخضيري من أصدقاء الرئيس الشاذلي بن جديد ومن المحسوبين على الجناح الليبرالي، وقد وجهت إليه انتقادات كثيرة تناولت بصورة خاصة «سلبية» موقف الشرطة خلال اليومين الأولين للمظاهرات، واستنكافها عن ممارسة القمع. والشارع الجزائري، الذي لا يعرف الكثير عن تفاصيل الصراع الدائر في القمة كان يتوقع أن يتم إبعاد السيد الهادي الخضيري من الوزارة، مثل ما أبعد محمد الشريف مساعدية عن الحزب، وأبعد العميد الأكحل مجدوب عياط من إدارة الأمن العسكري. ويبدو أن قسما من أهل النظام، أرادوا هذا الإبعاد أيضا، فيما راجت شائعات قوية، تشير إلى أن الرئيس الشاذلي بن جديد، فكر في لحظة من اللحظات بتكليف الهادي الخضيري بتشكيل الحكومة. وقد كان السيد الهادي الخضيري معاونا لمدير الأمن الوطني في عهد الرئيس هواري بومدين، ثم مديرا عاما له، وتولى منصب وزير الداخلية في صيف 1987 خلفا للحاج محمد يعلى. ولا شك أن خروجه من الداخلية إلى النقل، هو من أكثر المناقلات، التي شهدتها الحكومة، دلالة سياسية. إن لهذا الإنتقال إلى وزارة النقل معنى سياسيا مزدوجا، داخليا، إقليميا، داخليا كان السيد الهادي الخضيري وراء سلسلة من الإصلاحات ومشاريع الإصلاح، في مقدمتها الاعتراف مثلا برابطة الدفاع عن حقوق الإنسان، قبل سنة ونصف سنة، وفتح أبواب الترشيحات في الإنتخابات الجهوية، البلدية والمحلية، أمام أشخاص وتيارات من خارج الحزب، وإقليميا كان الرجل قد أصبح من المدافعين عن فكرة بناء المغرب العربي الكبير، من خلال تطبيع العلاقات الثنائية مع المغرب. ويبدو أن منصب وزير النقل صار ملجأ للشخصيات السياسية المهمة التي يضطر الرئيس إلى «تخفيض» وزنها السياسي، حفظا للتوازنات. لقد نقل إليها العقيد أحمد بن الشريف، قائد الدرك الوطني، في عهد هواري بومدين، تحت ضغط الجناح الراديكالي في الجيش، ونقل إليها العقيد أحمد دراية من وزارة الداخلية في عهد الشاذلي بن جديد الأول، ونقل إليها العميد رشيد بن يلس، قائد البحرية السابق والصديق الشخصي للشاذلي بن جديد. وكان رشيد بن يلس آخر من تولاها، وقد تردد اسمه كمرشح لمنصب الوزير الأول، ولكنه خرج نهائيا من الحكومة الجديدة. وتقول إحدى الروايات أنه «خرج» أو بالأحرى «أخرج» لأنه اقترح على الشاذلي بن جديد، أثناء المظاهرات أن يقدم استقالته من رئاسة الدولة. وكان العميد رشيد يلس، قد عين في وزارة النقل، تسوية لخلاف حول الصلاحيات العسكرية نشب بينه وبين العميد مصطفى بلوصيف، عندما كانا عضوين في هيئة الأركان العامة (خريف 1986 بعد انتفاضة قسنطينة).
وجوه أخرى غادرت الساحة الرسمية في مقدمتها رئيس الحكومة السابق عبد الحميد الإبراهيمي ووزير الخارجية أحمد طالب الإبراهيمي. ولنقل على الطريق، أن الصلة بين الرجلين اسمية لا غير وليس لها أي طابع عائلي. عبد الحميد الإبراهيمي، ابن الشيخ مبارك الميلي، المؤرخ الجزائري المعروف، وأحمد طالب بن الشيخ البشير أحد قادة جمعية العلماء، وصاحب جريدة البصائر الشهيرة. الأول أي الوزير الأول السابق، ضابط سابق في الجيش، وموظف سابق في وزارة الدفاع، ومسؤول سابق عن مكتب شركة سوناطراك بواشنطن، والثاني طبيب ومسؤول سابق عن اتحاد الطلاب الجزائريين بفرنسا ووزير سابق للتربية الوطنية ثم للإعلام، في عهد الرئيس هواري بومدين. والإبراهيميان الاثنان من قلب مثلث برمودا. الوزير الأول، الطالع من بلدة ميلة، ورئيس الدبلوماسية، الطالع من مدينة قسنطينة، والاثنان ينتميان بحكم النشأة الجغرافية والعائلية، إلى ما يمكن أن نسميه بالأصولية الإصلاحية العربية الإسلامية داخل النظام. وإذا كان اختفاء عبد الحميد الإبراهيمي من قائمة المسؤولين الرسميين، لا يثير أي تفسير سياسي، فإن ذهاب الآخر، يطرح عدة تساؤلات.
لقد أدركت الأحداث الأخيرة، رئيس الدبلوماسية الجزائرية السابق وهو في نيويورك، حيث تميز حضوره وخطابه ونشاطه، بتصعيد ملفت للإنتباه في شأن الصحراء المغربية. جميع المراقبين لاحظوا في هذه المناسبة نبرة جديدة في الخطاب وفي الممارسة الدبلوماسية، تختلف تماما، عن تلك التي سادت في الشهور الماضية. وكان الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، خلال إحدى زياراته الأخيرة للمغرب، قد أعلن في تصريح صحفي أن الجزائر لم تتلق مشروع دي كويار الخاص بالاستفتاء في الصحراء المغربية، لأنها غير معنية بالأمر. ثم حدث التصعيد العسكري المفاجئ (معركة أم دريقة الأخيرة) واستعملت فيه آليات وصواريخ متطورة، وصلت إلى الجزائر من الإتحاد السوفياتي، في الصيف الماضي، وتلاه مباشرة ارتفاع ملحوظ في حرارة الالتزام الدبلوماسي الجزائري مع جبهة البوليساريو. وما يزال الوقت مبكرا، بل ما تزال الوقائع المؤكدة غائبة للربط بين التصعيد الحربي والتصعيد الدبلوماسي، ومبرراتهما الجزائرية الداخلية وصلتهما القريبة أو البعيدة، الظرفية والإستراتيجية بالصراع الحاد الدائر في قمة السلطة. على أن الشيء الذي لا جدال فيه هو نشوب خلاف حول «الصلاحيات» : بين أحمد طالب الإبراهيمي والرئيس الشاذلي بن جديد، بعد استئناف العلاقات الدبلوماسية المغربية الجزائرية. لقد كانت إدارة «الأزمة» مع الجار الغربي الكبير، أي المغرب، في أيام «القطيعة» من اختصاص وزارة الخارجية، أما بعد «التطبيع» فقد أصبحت الخيوط المربوطة مع الرباط، تتم بواسطة قنوات أخرى، أهمها وزارة الداخلية وجهاز الرئاسة. لقد تولى أحمد طالب الإبراهيمي، بعد خلافته للمرحوم محمد الصديق بن يحيى، على رأس الدبلوماسية الجزائرية قيادة الصراع مع المغرب، بشقيه : الشق النضالي المتمثل في تعبئة رأس المال المعنوي للجزائر لدى الدول الإفريقية والأسيوية والأمريكية اللاتينية، والشق غير المعلن منه، بما فيه من مفاوضات واتصالات سرية جرت مع شخصيات رسمية مغربية. تولى الرجل ذلك كله، في نطاق حسابات سياسية داخلية وعلى صلة مباشرة بمراكز النفوذ، داخل الجيش، ثم وجد نفسه بين يوم وليلة، بعيدا أو «مبعدا» عن «الملف». تحولت العلاقات مع المغرب، بالتدريج إلى «مجال خاص Domaine réservé» بالرئيس الشاذلي بن جديد، الذي كلف عددا من أعضاء ديوانه، بإطلاع وزير الخارجية على المستجدات من دون أخذ رأيه فيها. وقد أحدث هذا «الانفراد» من جانب الرئاسة، بالشؤون المغربية «امتعاضا» قويا لدى رئيس الدبلوماسية الجزائرية. وفي أحد اجتماعات المكتب السياسي التي سبقت انفجار خريف الغضب، احتج الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وطرح إشكالية «مصداقية» السياسة الخارجية، وقال إن سفير دولة كبرى مثل الهند جرتها الجزائر إلى الاعتراف بما يسمى «الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية» زاره معاتبا وسأله : «ماذا تريدون أو تطلبون منا أن نعمل بعد تفاهمكم مع المغرب؟» في ذلك الاجتماع أيضا، طرح العميد عبد الله بلهوشات رئيس أركان الجيش المسألة من زاوية مضاعفاتها على المؤسسة العسكرية، معلنا هو الآخر، أنه لا يعرف ماذا سيفعل بالجيش المعبأ والمرابط في الحدود مع المغرب، منذ عشر سنوات، هذا الاجتماع الذي نقلت لنا بعض وقائعه شخصية جزائرية موثوقة، جرى تحت رئاسة الرئيس الشاذلي بن جديد الذي لم يتدخل في النقاش. لقد ظل صامتا طوال الوقت واستمع في هدوء إلى الإنتقادات الموجهة ضد سياسة التقارب مع المغرب. والمصدر الجزائري الذي روى لنا جزءا من هذا النقاش، لم يتردد في الربط بينه وبين التصعيد الدبلوماسي اللاحق، وبين عودة الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي الصاخبة والفاقعة إلى ساحة الصراع المغربي الجزائري، بعد فترة «خسوف» واستنكاف بدا خلالها وكأنه لم يعد معنيا بالمسألة. وبعد رجوعه من رحلته النيويوركية الأخيرة، قدم أحمد طالب الإبراهيمي، كما ذكر لنا نفس المصدر، استقالته، في ذروة الأحداث، إلى المكتب السياسي من منصبه، قائلا إنه لم يعد يستطيع الدفاع من المنابر الدولية لا عن الإنتفاضة الفلسطينية، ولا عن الصحراويين ولا عن مناضلي جنوب إفريقيا. ولم يتخل رئيس الدبلوماسية الجزائرية عن استقالته إلا تحت تأثير وساطة وضغوط ونصائح قوية قام بها عدد من كبار الضباط النافذين، وليس واضحا إلى اليوم إن كان ابتعاد أحمد طالب الإبراهيمي، هو نتيجة لهذا الموقف الشخصي، أم هو ثمرة لنفور مزاجي بينه وبين الرئيس، أم هو محصلة لهذا الأمر وذاك، كما ليس واضحا إن كان قد اذخر نفسه أو اذخر احتياطا لخدمات ذاتية. فهل سيعين مثلا، كما حدث مع عبد العزيز بوتفليقة، مستشارا للرئيس؟ وهل يحتفظ بعضويته في المكتب السياسي؟ وهل يحمل أو يحلم بأن يحمل في يوم من الأيام عبء الدفاع عن تيار سياسي جديد، ضمن معطيات المرحلة القادمة؟
مجيء السيد بوعلام بسايح، إلى وزارة الخارجية، بدلا من الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، لا يعني بالضرورة تبدلا أساسيا في خط السياسة الخارجية الجزائرية. حقا إن رئيس الدبلوماسية الجزائرية الجديد، وجذوره السياسية البعيدة تعود إلى حزب البيان الذي كان يتزعمه المرحوم فرحات عباس، من أفراد الرعيل الأول في الثورة، ومن العناصر المؤسسة في جهاز الإستخبارات السرية، مع الأب الروحي لهذا الجهاز، عبد الحفيظ بوصوف. وهو يتقن بنفس الدرجة لغة جان جاك روسو، ولغة أبي الطيب المتنبي، إلى حد أنه يكتب بهما، شعرا ونثرا، من مستوى لا بأس به وهذه الإزدواجية اللغوية، هي التي جعلت عبد الحفيظ بوصوف، عراب، بل خالق الرئيس الراحل هواري بومدين، يختاره مترجما رسميا، في قاعدة ديدوش، بطرابلس الغرب، ويكلفه بتحرير الوثائق والمداخلات والمناقشات الصادرة في نطاق اجتماعات المجلس الوطني للثورة. ويقول بعض القادة التاريخيين للثورة، أن السيد بوعلام بسايح، كان يقوم بأكثر من مهمة المترجم الاعتيادي، بل يصفونه بأنه ظل «عينا» ساهرة للجهاز.
مسيرة الرجل، في كل الترتيبات المعتمدة، تجعل منه، بحكم سنه وتجربته، الرجل رقم اثنين في الحكومة الجديدة. إنه أكبر سنا بقليل من الوزير الأول، قاصدي مرباح، وهو معاصر ومشارك له في جهاز الإستخبارات، بل كان مسؤولا عنه، في عهد الوالد المؤسس عبد الحفيظ بوصوف. وكان السيد بوعلام بسايح، وهو من مواليد 1930، بمدينة البيضاء، في الحدود الغربية الجنوبية المجاورة للمغرب، أستاذ الأدب العربي بمدينة تلمسان، حين اندلعت ثورة أول نوفمبر 1954، وكان من أوائل الذين انخرطوا فيها، من جماعة حزب البيان. وقد عين عام 1963 سفيرا لبلاده لدى بلدان البنلوكس والسوق الأوروبية المشتركة، وسفيرا لدى الجامعة العربية في القاهرة (1970) ثم أمينا عاما لوزارة الشؤون الخارجية في عهد السيد عبد العزيز بوتفليقة. وإذا كان هذا المثقف السياسي، المحنك، قد أبعد عام 1974، من وظيفته الإدارية، فيما بدا آنذاك، وكأنه انتقام من العناصر المعتدلة، فإنه ظل على صلة وثيقة بالسلطة، حيث كان الرئيس هواري بومدين يكلفه من حين لآخر، ببعض المهمات، وحين توفي هواري بومدين في شهر ديسمبر 1978، كان بوعلام بسايح سفيرا لبلاده في الكويت. وقد دخل الرجل في اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني في المؤتمر الأول الذي عقد بعد وفاة بومدين، ثم انضم للحكومة وزيرا للثقافة والإعلام في شهر يوليو 1980، خلفا للسيد عبد الحميد المهري. وبعد سنتين، حصل تعديل وزاري فصلت فيه وزارة الإعلام عن الثقافة، وألحقت بهذه الأخيرة وزارة السياحة واحتفظ الرجل بهاتين الوزارتين. وفي بداية سنة 1984، ونتيجة لتعديل وزاري آخر، انتقل بوعلام بسايح من الثقافة والسياحة إلى البريد، ثم ترك هذه الوزارة الأخيرة، ليعود، بمناسبة تعديل وزاري ثالث حدث في أوائل 1986، إلى الثقافة والسياحة. مثقف جزائري صديق يعرف الرجل معرفة جيدة، قال لنا ضاحكا وهو يستعرض أمامنا مسيرة وزير الخارجية الجديد، «بوعلام بسايح سائح سياسي منذ بداية الثورة حتى الآن». وقد ألف الرجل ملحمة عن الشيخ بو عمامة، أخرجتها التلفزة الجزائرية في حلقات، وكتب دراسات تاريخية وأدبية متنوعة، وألف في الشعر الملحون، وفي غيره من فنون التعبير الشعبي. وعلى الطريق، نشير مرة أخرى إلى أن الشيخ بو عمامة مقاوم «تخومي frontalier» إذا جاز هذا التعبير، وهو واحد من هذه الشخصيات الحدودية التي قادت المقاومة الشعبية ضد الغزو الفرنسي، في مناطق فجيج وبوعرفة وبشار ووجدة والبيضا وعين الصفراء وعين الشعير، أي في هذه الأماكن المتلاصقة المتجاورة من المغرب والجزائر، في بداية هذا القرن. بل إن الشيخ بو عمامة واحد من هذه الرموز الشعبية التي يعتبرها الجزائريون جزءا من تراثهم النضالي، ويعدها المغاربة قسما من تاريخهم الوطني. واهتمام وزير الثقافة الجزائري به، جاء في ذروة «البحث» عن قواسم مشتركة لتاريخ قديم، لا تنفك وقائعه العنيدة، تفرض نفسها على الأحداث الساخنة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.