أصدرت «حلقة أصدقاء باهي»، تحت إشراف عباس بودرقة، الأعمال الكاملة للفقيد محمد باهي: «رسالة باريس: يموت الحالم ولا يموت الحلم»، ويضم الكتاب، الذي تم تقديمه بمناسبة الذكرى العشرين لوفاته، خمسة كتب استعرض خلالها المؤلف شهادته على العصر، وقدم لنا تحاليل غاية في الموسوعية.. في ما يلي نختار لقراء «الاتحاد الاشتراكي» أوراقا من ذاكرة محمد باهي، لنستعيد تلك الثقافة السياسية التي كانت يتمتع بها واحد من صانعي السياسة في بلادنا، وواحد من الذين تحصلت لديهم الخبرة والذكاء، واستطاعوا أن يقدموا لنا قراءة في قضية الصحراء، وفي امتداداتها وتعقيداتها والمساهمين الفعليين في ذلك.. لم يكن الناس يتحدثون باسمه إلا همسا. قبل وفاة بومدين، وحين يرد ذكره في الجلسات تدور العيون في محاجرها أو تبقى النظرات ثابتة أو زائغة أو دائرة في الفراغ تعبيرا عن ذلك المزيج من الرهبة والحرج الذي يرافق دائما إحساس المتكلمين بأنهم يقتحمون منطقة محرمة لا يجوز لهم أن يغامروا كثيرا في التقدم داخلها. كان ذلك يحدث لأن جهاز الأمن العسكري. أيام تولي قاصدي مرباح لإدارته (من عهد ما قبل الاستقلال حتى غياب هواري بومدين في شهر دسمبر 1978)، تحول إلى دولة داخل الدولة وصار القوة السرية الضاربة للنظام. كان مجرد ذكر اسم la Sécurité militaire، أي الأمن العسكري، الذي ظل الناس يلفظونه بالفرنسية ويطلقون عليه صفة : «الرياضة والموسيقى» يُدخل الرعب في القلوب ويدفع المتكلمين، سواء كانوا في سهرة في مقهى، إلى تغيير موضوع النقاش. «ما يكون من ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة». هذه الآية القرآنية، التي تصف ملازمة الحضور الإلهي للإنسان، سمعنا صديقا جزائريا متدينا، زاهدا في الدنيا والسياسة، يصف بها في بداية حقبة السبعينات القوة الخارقة التي وصل إليها الأمن العسكري مضيفا : «أن الفرق بين الحالتين هو أن أبواب التوبة تبقى مفتوحة أمام المذنبين إلى يوم الحشر، ولكنها تظل موصدة، حتى الموت بوجه المعارضين الذين تلاحقهم عيون السلطة». وليس مهما أن نعرف ما إذا كانت لجهاز الأمن العسكري في أيام عزه، تلك السطوة التي نسبها إليه الناس، وإنما الحاسم، هو أنهم نظروا إليه تلك النظرة وتصرفوا تجاهه وتجاه السلطة التي يمثلها بوحي من هذا الفهم. والرجل الذي ارتبط تاريخ هذا الجهاز باسمه، أي العقيد قاصدي مرباح هو الذي وقع عليه اختيار الرئيس الجزائري الشاذلي بنجديد ليتولى منصب الوزير الأول، بعد استفتاء الثالث من نوفمبر. رئيس الحكومة الجزائرية الجديد، مثله في ذلك مثل أغلبية الشخصيات النافذة في الجيش وفي الدولة، وفيما تبقى من حزب جبهة التحرير الوطني، يملك ماضيا حافلا، ما تزال الظلال أكثر كثافة وسماكة من الأضواء المحيطة به. وما هو معروف عنه أقل بكثير مما هو مجهول، وما هو قابل للتدقيق من سيرته السياسية، إنما هو جزء بسيط من قارة ما تزال مجهولة المعروف، أو ما يتداوله الناس، هو انتماؤه إلى منطقة بلاد القبائل الكبرى التي لعبت دورا هائلا في تاريخ الثورة. وقد دخل قاصدي مرباح الجبهة بعد الإضراب التاريخي الذي أعلنه الطلاب الجزائريون تلبية لنداء الجبهة عام 1956. وكان قاصدي مرباح آنذاك طالبا بكلية الحقوق بالجزائر العاصمة وقد انتقل منها إلى وهران حيث انخرط في صفوف المقاتلين للولاية الخامسة ثم غادر منطقة الغرب الجزائري إلى المغرب ليعمل في مستشفى سيدي قاسم وبعده في مستشفى موريس كو (ابن رشد، الآن)، ومن هناك التحق بجهاز الاستخبارات السري التابع للجبهة. المرحوم عبد الحفيظ بوصوف الذي تولى قيادة الولاية الخامسة، أي منطقة وهران المتاخمة للحدود المغربية، أيام حرب التحرير، هو الذي اكتشف ما يتمتع به قاصدي مرباح من انضباطية وتكتم وفاعلية وحماس لبلاده، فضمه على الفور إلى النواة التكوينية لجهاز استخبارات الجيش والجبهة. ولا نعرف ما إذا كان الرجل قد شارك في المعارك العسكرية التي دارت في تلك المنطقة، والتي كان المقاتلون الجزائريون يخوضونها ثم يعودون إلى قواعدهم الخلفية بإقليم وجدة المغربي. ولكننا نعرف أنه اشتغل في قطاع الاستخبارات منذ وقت مبكر وتعرف في تلك الفترة على ضابط جزائري آخر، هو السيد هواري بومدين، الذي خلف عبد الحفيظ بوصوف في قيادة الولاية الخامسة، بعد تكوين الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (18 سبتمبر 1958) وقد ظل الرجلان يعملان يدا في يد ولم يحدث أن عرف الناس وقوع أي خلاف بينهما. مع إعلان استقلال الجزائر، كان قاصدي مرباح يحمل رتبة نقيب، وهي مرتبة عسكرية لا ندري إن كان كسبها بفعل مشاركته الفعلية في القتال، أم أنه حصل عليها بفضل خدماته، أم أنه استحقها للسببين. على أية حال، جهاز الاستخبارات مهم دائما في كل الجيوش القديمة والحديثة، خاصة عندما تتوافر شروط تاريخية معينة تحول الجيش إلى مؤسسة حاكمة. والمؤسسة العسكرية، كما أشرنا إلى ذلك في مقال سابق، هي التي أنشأت الدولة الجزائرية، وقد كانت «مفتونة» بالخصم الذي حاربته. فكونت داخلها جهاز «الأمن العسكري» وبنته على غرار جهاز الأمن العسكري الفرنسي، مع فارق جوهري، هو أن الأول، أي جهاز الأمن العسكري الجزائري، وجد نفسه، بحكم فراغ المشروعية الذي عاشته البلاد، يتدخل في كل صغيرة وكبيرة من شؤون الدولة، في حين أن الثاني، كان يجر وراءه قرونا من التقاليد جعلت مهمته تنحصر في المجال الانضباطي الصرف، وسط جيش محترف، خاضع ومتعود على الخضوع للسلطة السياسية، منذ أيام نابليون. الأمن العسكري الفرنسي الذي استوحيت منه الفكرة، كان مستقلا عن الاستخبارات العسكرية، وكانت صلاحياته محصورة في فرض الانضباط واتخاذ الإجراءات التأديبية، ولم تكن له من قريب ولا من بعيد، أية علاقة بالسياسة. أما صنوه الجزائري، فقد وجد نفسه ينغمس منذ الأيام الأولى بعد الاستقلال في هذه الشؤون كلها. سوف يتضخم دور «الأمن العسكري» أكثر من اللازم بسبب الظروف الصعبة المرافقة لاستقلال الجزائر وبسبب الرجات السياسية الأولى : الانقسام داخل القيادة الجزائرية بين الحكومة المؤقتة والمكتب السياسي، وتمرد العقيد محمد شعبان بالصحراء، وتمرد حسين آيت أحمد بمنطقة القبائل، وحرب الرمال الأولى مع المغرب، وانقلاب العقيد هواري بومدين ضد أحمد بن بلة، ومحاولة انقلاب العقيد الطاهر الزبيري ضد بومدين، كل هذه الأحداث حُسمت عسكريا في نهاية الأمر، وكلها وقعت في ظرف السنوات الخمس الأولى التالية للاستقلال واستعادة الدولة الجزائرية لسيادتها الوطنية. حرب الرمال الأولى مع المغرب (سبتمبر 1963) وتمرد منطقة القبائل في نفس الفترة، وتمرد العقيد محمد شعباني لاحقا في الولاية السادسة أي في المنطقة الغنية بالنفط والغاز، ومجيء هواري بومدين إلى قمة الدولة (يونيو 1965) ومحاولة العقيد الطاهر الزبيري إسقاطه، جعلت دور الأمن العسكري يتعاظم بانتظام، وأعطت لمديره العقيد قاصدي مرباح دورا متزايدا وسط تلك النخبة الضيقة الصانعة للقرار. لقد كانت السياسة، في الجزائر، طوال تلك الفترة المضطربة هي الأمن، وكان «الأمن العسكري» هو القوة السياسية النافذة في البلاد. كانت السياسة هي الأمن حتى بداية السبعينات، لأن الجزائر طوال السنوات العشر الأولى اللاحقة لخلاصها من الهيمنة الفرنسية عرفت سلسلة من الهزات المتتالية. بل كانت في حالة غليان مستمر، في القمة والقاعدة. محاولة انقلاب الطاهر الزبيري أخفقت ولكن أعقبتها محاولة اغتيال بومدين من طرف عدد من الضباط، كان على رأسهم العقيد عمار الملاح وهو من نفس الولاية الأولى (الأوراس)، وجاءت بعدها محاولة أخرى غامضة، انتهت بانتحار وزير الداخلية أحمد المدغري. خلال هذه المحاولات المعروفة، ظل قاصدي مرباح، الذي كان عضوا في مجلس الثورة، وصار عقيدا في هذه الأثناء ظل وفيا، مخلصا وأمينا لصديقه هواري بومدين. بل إن تكاثر الانقلابات والمشاريع الانقلابية التي أُحبطت في المهد، حولته بالتدرج إلى ذراع ضاربة للنظام. كان جهاز الأمن العسكري هو القوة السياسية الضاربة في الداخل والخارج، وكان مديره، العقيد قاصدي مرباح، هو «رَجُلُ الظل» الماسك للخيوط من وراء الستار. أوساط المعارضة تتهمه مثلا باغتيال السيد كريم بلقاسم أحد مؤسسي جبهة التحرير ووزير الحرب سابقا في الحكومة المؤقتة ورئيس الوفد الجزائري إلى مفاوضات الاستقلال. وقد اختلف السيد كريم بلقاسم مع الرئيس أحمد بن بلة واختلف بعده مع الرئيس بومدين وفضل البقاء في الخارج وبدأ يُدلي ببعض التصريحات ويقوم ببعض النشاطات المعارضة. ويقول معارضون جزائريون أنه «استُدرج» من طرف عناصر «الأمن العسكري» إلى الحديث عن انقلاب ضد هواري بومدين وأن هذه العناصر حملت إليه رسائل شفوية من قاصدي مرباح نفسه. بالطبع نحن لا نتبنى هذه الأقوال، وإنما نوردها في سياق رسم صورة رئيس الوزراء الجزائري الجديد. والثابت بعد ذلك أن السيد كريم بلقاسم، وهو أيضا من بلاد القبائل، ومن أبرز الزعماء العسكريين والسياسيين للثورة الجزائرية، وُجد في يوم من الأيام مقتولا بغرفة كان ينزل بها في أحد فنادق مدينة فرنكفورت بألمانيا الغربية. نفس المصير، تعرضت له شخصية تاريخية أخرى هي السيد محمد خيضر الذي تمت تصفيته بأحد شوارع مدريد. أما آخر معارض بارز سقط قتيلا في نفس الظروف الغامضة، فهو المحامي علي المسيلي. كل هذه «التصفيات» تنسبها المعارضة للأمن العسكري. أما في الداخل فقد تولى الأمن العسكري في سنوات الغليان الجامعي (1968-1971) تصفية الحركة الطلابية، وفرض حل الاتحاد الوطني لطلبة الجزائر، وإقرار مبدأ الخدمة المدنية الإجبارية للتغلب على الشغب الطالبي، وقام باعتقال أعداد غفيرة من زعماء الطلاب. تم ذلك كله في الخفاء وظل الرجل الذي يشرف عليه قابعاً في «الظل» بعيدا عن الأضواء، لكن وفاة هواري بومدين المفاجئة (دسمبر 1978) دفعت قاصدي مرباح إلى الخروج من الغرف الضيقة للمسرح السياسي المكشوف. كان المرشحان الرئيسيان لخلافة رئيس مجلس الثورة، هما العقيد محمد الصالح اليحياوي، مسؤول الحزب، والسيد عبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية، وكان كل منهما مسنودا من عدد كبير من الشخصيات النافذة في الجيش وفي الحزب وفي الدولة. وكانت قوتهما متوازية وقد راهن عليهما العالم كله، وراهنت عليهما الطبقة السياسية القيادية في الجزائر نفسها. ولكن العقيد قاصدي مرباح، تدخل بقوة لتأخذ الأمور منحى آخر. فقد أشرف بنفسه على إعداد المؤتمر الاستثنائي لجبهة التحرير، وحرص على أن تكون الأغلبية فيه للضباط، بل حرص على فرز العناصر المدنية المشاركة فيه، وفرض عليها اختيار الشاذلي بنجديد، خليفة لهواري بومدين، بدلا من عبد العزيز بوتفليقة أو محمد الصالح اليحياوي. فرض قاصدي مرباح مرشحه وعاد مرة أخرى إلى الظل، لكنه استمر يمارس نفوذه القوي من خلال عضويته في المكتب السياسي والحكومة. وهكذا نجده يتولى بالتوالي منصب وزير النقل، ثم وزير الصناعة الخفيفة والصيد البحري، فوزير الزراعة وأخيرا وزير الصحة، وهي آخر وظيفة شغلها قبل أن يعينه الرئيس الشاذلي بنجديد في الوزارة الأولى يوم السبت الماضي.