الشاعرة المغربية رشيدة فقري تنشط في العديد من الملتقيات الأدبية و تحلق في سماء الشعر بلا كلل ، آخر مشاركاتها في مهرجان حب الملوك بصفرو، ثم مشاركتها في مهرجان ربيع الحي الحسني . أصدرت ديوانها الشعري الذي عنونته « ليلة الكرز « (1) . تعمد الشاعرة إلى التحليق عبر أنوثية دافقة إلى شبق القصيدة وعطرها الذي يفوح من ثنايا الحرف .تشتغل على إيقاع العروض الشعري من خلال بحوره في سعي حثيث لإبراز الفحولة الشعرية من خلال الاشتغال على البناء الموسيقي لمدرسة كلاسيكية عريقة أولا ، ثم لخلق صوت مميز داخل المسار الشعري المغربي والذي يطغى عليه شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر ما هو بالشعر والخواطر، والتي يسميها أصحابها شعرا . إن سيف التفاهة ضرب القصيدة المغربية في مقتل وغدا من لا موهبة له يتربص ويتصيد الألقاب ، وبعضهم يدخل في معارك لتسليط الضوء لا غير ، أما الشعراء الفحول فقد انسحبوا إما للصمت أو لأجناس أدبية أخرى . لذا سعت الشاعرة رشيدة فقري الى توطيد علاقتها بالمدرسة العمودية ، مع مزيج من الحداثة الشعرية إن تاريخ الايروتيكية الشعرية ممتد عبر عصور الشعر العربي ، مذ تأسست القصيدة الجاهلية مع امرؤ القيس و طرفة بن العبد ، ثم ركنت للانزواء مع إشراقة الإسلام والذي أجرى قطيعة نهائية مع الغزل الفاحش وفتح كوة للغزل العذري إلى أن جاء أبو نواس، وبقي الجسد حاضرا في المتون الشعرية عبر تصورات وتمثلات عديدة . يأتي ديوان «ليلة الكرز « في خمس وعشرين قصيدة تتماوج بين دفتي كتاب يلبس الأزرق ، الغلاف الأول بحر وشمس تشرف على الرحيل والغلاف الثاني مقطع شعري وصورة الشاعرة بنظرتها الحانية وتاج على الرأس وابتسامة غامضة ، هذه الإطلالة الخجولة ماكرة لأن قصائد الديوان شحنة من الاعتراف والبوح . يتأسس المعجم الدلالي الشعري لدى رشيدة فقري على مكنونات الجسد وتمثلاته في احتراقه و لوعته وتصاعد نبرة الشوق للآخر الذي لاحظنا حضوره بصيغة الغائب . القصائد كلها تنويع إيروتيكي لتحصيل متعة تتجاوز الجسد ذاته إلى متعة روحية دافقة بالمشاعر والأحاسيس حتى العناوين فهي مشبعة بالدلالات : الظبية وإغفاءة النبع – قبلة الأوهام – عضة الوجع- ليلة الكرز- تفاحة الميعاد - يا لقلبي – وشم العهد – رمانة العطش – قشعريرة قلب. عنوان الديوان برمته يهجس بالسؤال : ما العلاقة بين الليل والكرز ؟ و ما دلالة الكرز هنا ؟ فالليل هو موطن الشعر والحب والكرز (حب الملوك ) فاكهة تتميز بحلاوة المذاق وعمق الاشتهاء. (2) يمارس الشعر متعة المجامعة الحسية والتي توحي بجرأة ليست معهودة في الشعر النسائي ، والذي نادرا ما يجود بمثل هاته القصائد الشفافة ، فتكون بذلك الليلة هي ليلة قطاف حتى أن الجسد لم يخلق إلا لهاته اللحظة ، حيث يمتزج الجسدان في عناق يسمو بهما إلى المقصدية الايروتيكية . في الديوان نعثر على قصيدة « عضة الوجع « (3) وهي نص تحسري على بعد الحبيب « بيني وبين أحبتي طال النوى»( 4) ومتن بكائي يذكرنا بالمرثيات العربية : « عصفورة ناحت على أفنانها تشكو ...» (5) في هذه القصيدة يتشكل العامل المضاد لمتعة الوصل وهو ألم الفراق وهذا نسق تنويعي داخل الديوان باعتبار أن نصوصه هي محطات تجريبية متفرقة في الزمكان . في « رمانة العطش « (6) تشتد لوعة الحبيبة ويصل الحزن ذروته ولعل كلمة عطش توحي بالرغبة الجامحة والحاجة القوية للآخر ، ولاحظت أن الشاعرة توظف معجما غنيا من الفواكه الموحية جلها بالحلاوة ومتعة المذاق : الكرز – التفاح –الرمان ، وتتميز هاته التوظيفات باستدارتها وحمرتها وصغر حجم بعضها ، بمعنى أن الشاعرة وظفت نسقا استعاريا نتلمس مفهوميته في : ليلة = الكرز العطش = رمانة الميعاد = تفاحة الروح = رمانة من خلال هذه التقابلات التي تعتمد على الإضافة النحوية، فإن الفعل الايروتيكي يخرج من بعده المادي « لذة الجسد « إلى بعده الروحي « لذة الروح « فتسعى الشاعرة في متنها إلى تجاوز المدلول الأرضي للجسد إلى مدلوله السماوي عبر دافعية الكتابة . من يتجول في حدائق الديوان سيفاجئه الحقل الدلالي الممتد على خريطة الجسد : اللثم – العناق –الهوى –الوصل –الشوق ... لكنه سيجد أن القصيدة وحدها من تطفئ عشقا كوى الضلوع : « أطفئ بدفق من قصيد جمرتي - لا تشعل النار التي أذكت لهيبي « (7) . إذن فالايروتيكية الشعرية تتماهى مع لذة النص الشعري حسب رؤية رولان بارت ، من خلال أبيات كثل : « رفقا بقافيتي وشعري « « فأنشد شعري المجنون « « ونسكر بالشذا و الشعر « « وأن الشعر مشكاة ببابي « « من نارنا ولدت كتابتنا «. في قصيدة» شهرزاد» (8) تشتد دلالة الأنا في صيغ متعددة : أنا الثريا – أنا الحروف –أنا الجمال ، ويحضر السؤال : ما سبب تضخم الأنا الشعرية عند رشيدة فقري ولدى الكثير من الشعراء والشاعرات بعدما تناسل عددهم وعددهن مع بروز فوارق واضحة . رغم أن الدكتور ابراهيم حجري يجزم بانتشار الرداءة الشعرية في كتابه : « الشعر والمعنى» قائلا :» و ساهم الصمت النقدي بشكل كبير في غياب تأطير الأنماط الشعرية الجديدة وتقويمها جماليا وفنيا فسادت الرداءة الشعرية « (9) إن الشاعر معروف بحساسيته المفرطة وتضخم الأنا عنده وبالركون نحو ذاته و الإنصات إلى دفقاتها وتقلباتها ، هاته الظاهرة النرجسية لها اعتبارات عدة يضيق المجال للتفصيل فيها . إن رشيدة فقري سعت بجرأة التناول إلى خلق نمط شعري يعزز مكانة الذات وسط تناسل أصوات هشة ومواهب متسرعة ، وشويعرات جعلن من الوسيط التكنولوجي وسيلة تفريغ شحناتهن وعقدهن لا غير ، سعيا لمباهاة جوفاء وبريق خادع ، وقد عمقت هاته الوسائط جرح القصيدة العربية حتى تطاول المرضى والمكبوتون على الشعر، وازدحم سوقه بالغث أكثر من السمين . فأصبح النقد عاجزا عن الوقوف ضد هاته الموجة . لكن نموذج الشاعرة رشيدة فقري وشعراء آخرين ، يشتغلون في بناء الذات على الصورة الشعرية المدروسة بعناية شديدة ، لذا فشعور الأنا ليس مبعثه التباهي والافتخار الأجوف بل هو رد الاعتبار لذات الشعر نفسه ، يقول الناقد حميد الحمداني : « إن الذات لا تجد علاجا حقيقيا لمشاكلها الخاصة إلا بالتلاحم مع الطموحات الجماعية ذات المضمون الإنساني الشمولي « 10 عندما كان المتنبي يعزف على وتر الفخر قائلا : أنا البحر في أحشائه الدر كامن - فهل سألوا الغواص عن صدفاتي أو عندما قال : الخيل و الليل والبيداء تعرفني - والسيف و الرمح والقرطاس والقلم فإنه كان يجسد قيم الذات العربية والتي لم تجد من ينصفها ، فهل نحن أمام متنبي بصيغة المؤنث ؟ لنقرأ ما قالته رشيدة فقري : «أهدي لشمس الضحى إكسير قافيتي - و خطواتي أعشبت في كل بيداء « « ويعبق السوسن النديان منتشيا - وتصبغ الشمس كفيها بحنائي « إن اللجوء إلى الأنا هو إدانة للآخر / المجتمع وصرخة في وجه قيم الاستهلاك المادي والانشغال بالملذات الملموسة، ورسالة مشفرة إلى الذين يتطاولون على الذائقة الشعرية الحقة . المصادر : 1 – «ليلة الكرز « شعر رشيدة فقري الطبعة الأولى 2012 دار الوطن 2 – الديوان ص 20 3 – الديوان ص 18 4 – الديوان ص 19 5 – الديوان ص 19 6 – الديوان ص 45 7 – الديوان ص 45 8 – الديوان ص 12 9 – « الشعر والمعنى « د. ابراهيم الحجري طبعة أولى 2012 ص12 10 – « في التنظير والممارسة حميد الحمداني طبعة أولى 1986 ص 67