في تلازم الانقلابات العسكرية وغياب الديمقراطية الانقلابات العسكرية لا تحدث في الدول الديمقراطية المدنية الحقيقية إلا ناذرا أو قل لا تحدث فيها قطعا؛ لا توجد انقلابات في فرنسا وألمانيا وانجلترا والولايات المتحدةالأمريكية وفي كثير من الدول الديمقراطية التي فيها حسمت تاريخيا علاقة السياسي والديني لجهة الفصل بين الديني والسياسي في الدولة المدنية الديمقراطية التي لا تقوم في مرتكزاتها وبنائها على نوع من «الشرعية الدينية» التي هي أس مرتكزات الدول غير الديمقراطية.... بهذا المعنى تركيا هي دولة غير ديمقراطية بالرغم من كل ما يقال عن الديمقراطية فيها من طرف مريديها من الحركات الإسلاموية وبعض الفئات من اليسار العروبي التي باتت متحالفة مع هذه الحركات. لو كانت الديمقراطية حقيقة عينية في تركيا لما وقع الانقلاب العسكري فيها. ليس يعنينا فشل الانقلاب من عدمه، بل ما يهمنا وبعد أخذ مسافة من الحدث هو تبيان عكس ما حاول مريدو أردوغان التركيز عليه، أي الإشادة ب»انتصار الديمقراطية» بعد فشل الانقلاب (وهذا أمر تطرق إليه الكثير من المحللين السياسيين بسذاجة وباصطفاف إيديولوجي وكأنهم أتراك أكثر من كونهم مغاربة). هناك علاقة تلازم موضوعي بين وجود الانقلابات العسكرية وغياب الديمقراطية، سواء كان ذلك في دولة قائمة (غير ديمقراطية طبعا) أو في دولة هي في طور التفكك، أي في ما يصطلح عليه الدولة الفاشلة؛ وجود انقلابات عسكرية في دولة ما هو مؤشر على أن تلك الدولة ليست دولة ديمقراطية. أما الحقيقة التاريخية التي لا غبار عنها فهي أن الدولة غير الديمقراطية هي دولة لم تحسم بعد علاقة الديني بالسياسي بشكل يحيد الديني عن الصراع السياسي الذي هو قوام وجود الدولة الديمقراطية المدنية. يعني هذا أن الصراع السياسي والاجتماعي الذي يجري في الدولة غير الديمقراطية ليس صراع واضح المعالم والأهداف، بل هو صراع مستتر يأخذ له أبعادا إيديولوجية لا تعبر في الجوهر عما يستبطنه ذلك الصراع من مضمون سياسي واجتماعي، يتمظهر الصراع حينها في شكل صراع ديني مذهبي، أو صراع هوياتي ثقافي عرقي أو ما شاكل ذلك من أشكال ومستويات هي كلها دون ما تقتضيه ضرورات ممارسة الصراع في الدولة الديمقراطية المدنية التي فيها يتكشف الصراع في حقيقته الجوهرية (بمضمون سياسي واجتماعي) وليس في أشكاله الإيديولوجية التي لا تفعل سوى تضليل الرأي العام وتعبئته في معارك لا تخدم الديمقراطية والمدنية. الذين يحاولون تغليف الصراع السياسي والاجتماعي بإيديولوجيات دينية إنما يحاولون توظيف الديني باعتباره مقدسا للسيطرة على السلطة أو على الأقل للتموقع في الدولة في أفق تحويلها لاحقا لنظام سياسي استبدادي يتمظهر كما لو أنه ديمقراطي إنما جاء للسلطة عن طريق الديمقراطية، لكنه في الجوهر ليس كذلك بسبب من عدم الحسم بين الديني والسياسي الذي هو شرط واحد ووحيد لتحقق الدولة الديمقراطية المدنية تاريخيا وفعليا. هذا ما جرى وما يجري في تركيا في ظل الحقبة الأردوغانية بكل استداراتها الوهمية والتوائاتها ومناوراتها التي قد لا تبدو لمريديه وللمغفلين في السياسة والاستراتيجيا. تبين التجارب التاريخية أنه متى تحققت الدولة الديمقراطية المدنية فعليا انتفت الانقلابات العسكرية فيها وصارت كل مؤسسات الدولة تشتغل في إطار نوع من الترابط والاستقلالية والتكامل، وفق استراتيجيا وطنية متوافق ومتفق عليها بشكل حاسم من كل الأطراف السياسية الوطنية، حيث لا خوف على هذا الذي هو متوافق عليه ومحسوم فيه من أي طرف يكون في السلطة بشكل تناوبي. في الدول الغير الديمقراطية (وتركيا نموذجنا في هذا المقال) لا شيء متفق عليه بشكل حاسم وتاريخي ووطني (المسائل العرقية والمذهبية والدينية غير محسوم فيها وهناك أقليات عرقية ومذهبية مقموعة في ظل ما يبدو أنه إجماع «وطني» وقومي تركي). في هذه الدول غير الديمقراطية، كل طرف يحوز السلطة –ولو انتخابيا- فهو يسعى جاهدا للسيطرة على مؤسسات الدولة من خلال إدماج مريديه فيها، وذلك من أجل تحويل ولاء المؤسسات لصالح الطرف الحائز على السلطة ضدا على المصالح العليا والمقدسة للدولة والشعب؛ أي أن الدولة هنا وبسبب من استغلال «الديمقراطية» في صيغتها التمثيلية قد تصير رهينة في يد جماعة دينية أو طائفة مذهبية أو عشيرة عرقية. وفي جميع الحالات يؤدي هذا إلى الاستبداد الذي يحاول البعض (الحركات الإسلاموية ومن يلفون لفها) تكريسه فعليا بالانقضاض على الدولة في وقت تراهم يمارسون التضليل بادعائهم محاربة الاستبداد. ما جرى في تركيا، وفي استغلال تام لفشل الانقلاب العسكري، هو محاولات أردوغان تحويل مؤسسات الدولة التي هي في طور التفكك (مقدمات دولة فاشلة) إلى مؤسسات «إخوانية» يسيطر عليها هو ومن معه من العدالة والتنمية (حتى العدالة والتنمية التركي فيها توجهات غير أردوغانية مقصية). وهم في ذلك ليسوا «ينظفون» الجيش ويحاربون الأكراد كما قيل، بل تراهم يحاربون حينها إخوانا لهم من جماعة غولن الإسلامية لتي كانت في السابق في تحالف مع أردوغان؛ هذه الحرب المستعرة في صفوف الإسلامويين هي الأخطر على صيرورة تفكيك الدولة من حيث هي حرب تجري في الحقيقة بين مليشيات منظمة تسعى كل منها للسيطرة على مؤسسات ومقدرات الدولة في تناف مع القانون والدستور. كل التاريخ الإسلاموي في العلاقة بالسلطة يفيد أنه متى وصلت جماعة إسلاموية للسلطة فهي تحارب من أجل البقاء فيها كل ما تعتبره خارجا عن «مشروعها» بما فيه أقرب المقربين إليها من نفس الجماعات الإسلاموية، وهذا ما من شأنه أن يعصف بمقومات الدولة التي تصير لاحقا دولة فاشلة. في ضوء ما سبق يمكن القول بكل إيجاز إن اغلب التحليلات الصادرة بعد الانقلاب الفاشل في تركيا اعتبرت فشل الانقلاب مؤشرا على «تجدر» الديمقراطية في تركيا الدولة، وهذه سذاجة ما بعدها سذاجة نستغربها في ما يكتبه بعض الأساتذة الباحثين في علوم السياسة وبعض كتاب الرأي الذين باتوا يدافعون عن «ديمقراطية» تنهل من التوظيف الديني في السياسي، بما يعنيه ذلك من دفاع عن ديمقراطية مزعومة في ظل سيطرة الجماعات الدينية على السلطة في دولة لن تكون البتة ديمقراطية، بسبب من عدم حسم العلاقة التاريخية الشائكة بين الديني والسياسي. هذا ما ينطبق على تركيا الدولة التي كان فيها النظام السياسي الإخواني بزعامة أردوغان يحاول السيطرة على كل مفاصل الدولة بآليات «ديمقراطية» في شكلها وغير ديمقراطية في جوهرها. غير أن محاولات السيطرة على الدولة بهذه الطريقة كانت، إلى ما قبل «الربيع العربي»، غير واضحة في مراميها وأهدافها التكتيكية والاستراتيجية للكثيرين من مريدي النموذج التركي في الديمقراطية المزعومة. الدور التركي باعتباره رأس الحربة في المخطط الأمريكي: لا استدارة بعد فشل الانقلاب بعد انحصار «الربيع العربي» في سورية التي صارت ساحة دولية تجري فيها جميع الصراعات الإقليمية والدولية التي لا علاقة لها بالديمقراطية والانتقال الديمقراطي وحقوق الإنسان كما توهم الكثيرون ولازالوا، بعد هذا الانحصار التاريخي انكشف الدور التركي في جوهره باعتباره رأس الحربة الوظيفي في المخطط الأمريكي الأطلسي الذي كان يهدف إيصال جماعات الإسلام السياسي إلى السلطة بغض النظر عن بقاء الدولة قائمة من عدمها. تجلى الدور التركي الوظيفي، القذر والمدمر في تورط تركيا في الإطاحة ليس فقط بنظام معمر القذافي في تحالف مع الرجعية العربية (قطر)، بل في تدمير مقومات الدولة في ليبيا؛ أضف إلى ذلك تورطها في دعم التنظيمات الإسلاموية الإرهابية والسماح لها بعبور الحدود التركية السورية «للجهاد» في سوريا وليس في إسرائيل. أمام هذه التطورات، وبعد انكشاف تورط تركيا في تدمير بعض دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بات السؤال حول النموذج «الديمقراطي» التركي يطرح بإلحاح إلا ما كان من قبل مريديى هذا النموذج من الإخوان المسلمين وبعض اليسار العروبي المتحالفين راهنا لتحقيق ما يعتقدون أنه الدولة الديمقراطية من دون إثارة إشكالية العلاقة القائمة بين السياسي والديني، وهذا أكبر تزييف لتاريخ الديمقراطية إن لم نقل أكبر جهل بها. بعد الانقلاب، حاول أردوغان «تنظيف «مؤسسات» الدولة من كل ما يعتقده خارجا عن مشروعه الإخواني بما في ذلك الجيش الذي كان معه في خلاف، خاصة في ما يجري في سوريا وتحديدا في ما تعلق بالتدخل من عدمه في شمال سوريا. اليوم يبدو أن القيادة العسكرية «المنظفة» بعد الانقلاب العسكري باتت في تحالف مع أردوغان، إن لم نقل في تبعية للمشروع الأردوغاني الإخواني؛ يتبدى ذلك من خلال تدخل الجيش التركي في الأراضي السورية تحت يافطة «محاربة داعش» والأكراد، وهو –أي الجيش-الذي لم يتدخل في سوريا منذ أكثر من خمس سنوات، إلا في حالات محدودة وخاطفة، رغم مطالبات أمريكا بالتدخل التركي ل»محاربة داعش». يعد هذا التحول النوعي في سلوك الجيش التركي من «ثمرات» الانقلاب العسكري على أردوغان وتنفيسا لمشروعه السياسي المأزوم داخليا وخارجيا. بعد الانقلاب العسكري وحاجة الوضع التركي الداخلي المأزوم إلى نوع من التنفيس، حاول أردوغان القيام بنوع من الاستدارة الإعلامية والسياسية، من حيث هي تكتيك مرحلي، أوحى بها إلى عزمه على تغيير سياساته المدمرة في الإقليم وخاصة في سوريا، وقد تلقف الكثيرون هذه الاستدارة على أنها تغير استراتيجي في مواقف أردوغان خاصة بعد «التقارب» التركي مع روسيا وإيران. لكن بعد هذه الاستدارة، أو قل هذا الإيحاء بالاستدارة، ها هو أردوغان يكشف بتدخله المباشر في شمال سوريا عن دوره الحقيقي كرأس حربة في المخطط الأمريكي الذي يستعمل كل الأدوات الإقليمية المتاحة (تركيا، السعودية، قطر، التنظيمات الإرهابية، الأكراد) للاستمرار في توجيه وضبط الصراع الدولي الذي يجري في سوريا؛ لا يهم أمريكا أن تتعارض مصالح هذه الأدوات التي من حين لآخر تراها تتقاتل في ما بينها، فكل ذلك يصب في الأخير في تحقيق المصالح الأمريكية الإستراتيجية. أردوغان بتدخله في سوريا يحاول تحقيق أمرين: أولهما إرضاء الطلبات الأمريكية الملحة ب»محاربة الإرهاب»، وهذا الأمر ليس محققا كما ترغب في ذلك أمريكا بسبب من وجود تناقضات ثانوية بين المشروعين الأمريكي المركزي والتركي التبعي، وكذلك لوجود علاقات تجمع المخابرات التركية بداعش؛ ذلك أن تورط أردوغان في دعم داعش صار أكثر وضوحا بعد تدخله في شمال سوريا، حيث كل التطورات تؤشر على وجود تفاهم تركي-داعشي حول إخلاء داعش لمواقعها في جرابلس. انكشفت اللعبة حينما أخلت داعش مواقعها دون الدفاع عن نفسها، وهي التي لم تفعل ذلك من قبل، وقد عملت تركيا بعد انسحاب داعش من مواقعها على الإتيان بتنظيمات تركمانية لا تقل إرهابا ودموية عن داعش (لواء نورا لدين الزنكي، لواء السلطان مراد الرابع و و....) لإحلالها محل داعش تحت يافطة «الجيش الحر» الذي لم تعد له أخبار على الساحة السورية منذ مدة قبل أن تنفخ فيه تركيا الروح من جديد في محاولة لفرض تنظيمات إرهابية في ثوب تنظيمات «معتدلة» في أي مفاوضات تهم تسوية الأزمة السورية بعد أن انكشفت علاقات تركيا بداعش والنصرة غير المقبولتين دوليا. ثانيهما هو تفكيك المشروع الكردي في إقامة كيان انفصالي في شمال سوريا ليس لأن شغل تركيا الشاغل هو الحفاظ على وحدة الأراضي السورية كما يقول أردوغان ومن معه، بل لأن من شأن قيام دولة كردية في شمال سوريا أن يفتح باب جهنم على تركيا نظرا للمطالب التاريخية لأكراد تركيا في وجوب تحقيق كيانهم الخاص على الأقل في شكل حكم ذاتي؛ هذا نموذج من الإشكالات العرقية والمذهبية التي لم تحسم ديمقراطيا في تركيا، إنها إشكالات كانت ولازالت تحل في تركيا بلغة الحديد والنار والتفجيرات، وهذا ما يهدد تركيا استراتيجيا باحتمال صيرورتها دولة فاشلة... تؤكد التجارب أنه متى بدأت العمليات التفجيرية في بلد ما صارت الدولة في ذلك البلد في عداد الدول الفاشلة، وهذا ما تعيشه تركيا منذ اندلاع الأزمة السورية التي ارتدت في الداخل التركي كنتيجة مباشرة لسياسات أردوغان التدميرية في سوريا وتورطه في دعم الإرهاب بكل فصائله. إن المشروع الأمريكي الماسك بعقد الصراع الإقليمي والدولي والموجه له كان قد خول تركيا تنفيذ مشروعه في إيصال قوى الإسلام السياسي للسلطة في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في محاولة من أمريكا للتفرغ لصراعات استراتيجية ناشئة في أماكن أخرى خاصة مع الصين القوة الاقتصادية، لكن فشل هذا المشروع على يد الأدوات الأمريكية، أرغم أمريكا على العودة -وبشكل مباشر- إلى مشاكل الشرق الأوسط، وهي في عودتها لم تجد سوى «التفاهم» مع روسيا كقوة دولية عظمى باتت اللاعب الأكثر تحديدا لما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا أولا والشرق الأوسط ثانيا. غير أن التفاهم الأمريكي-الروسي لا يعني أن أمريكا تخلت عن مشروعها المركزي في نشر الفوضى ولو كان ذلك على حساب تفاهمها مع روسيا أو على حساب أدواتها الإقليمية، لا يهمها في ذلك سوى تحقيق طموحاتها في البقاء مسيطرة على العالم خاصة في ظل سعي روسيا بوتين لإعادة رسم المعادلة الدولية بما يسمح بوجود قطبين رئيسين بدل القطب الأمريكي المهيمن إلى حدود المرحلة الراهنة. أستاذ باحث