لا يعتبر الانقلاب في تركيا الذي لم تنته فصوله بعد، ولا أحد يتوقع ما قد يسفرعنه خلال الأيام المقبلة، وإن أجمعت القنوات والمهتمين بالشأن التركي على فشله، الأول في تاريخ البلاد غير أن فشله خلال ساعات قليلة يجعله أكثر الانقلابات غرابة في تاريخ المؤسسة العسكرية التركية، بل وفي التاريخ التركي الحديث، وإذ نكتب هذه الأسطر فإننا نحاول المشاركة وفق ما نراه -ولا نلزم أحد به- في تحليل الأسباب التي ساهمت بشكل كبير في فشل الانقلاب خلال فترة زمنة قصيرة، إذا كانت اهم الفصول قد انتهت، فإنه يحق لنا ان نتساءل لماذا لم ينجح الانقلاب؟ لعبت عدة عوامل دورا أساسيا في افشال الانقلاب نذكر -حسب الأهمية- منها ما يلي: 1-دور الشعب التركي: لا أحد يمكنه انكار دور الشعب التركي في افشال الانقلاب، فخروج الاتراك الى الشوارع ومواجهتهم للعسكر وتصديهم للدبابات وتجمهرهم في مطار اتاتورك أربك حسابات الانقلابين وجعل بعض الجنود ينسحبون من أماكنهم، ويرجع هذا الموقف الشعبي بالأساس الى ما عاناه الاتراك تحت حكم العسكر خاصة بعد انقلاب 1997 الذي قاده الأميرال سالم درفيسوجلو الى جانب الجنرال إسماعيل حقي قرضاي ومجموعة أخرى، وانتهى بحظر الحجاب واغلاق المؤسسات ذات الطابع الديني والتضيق على الحريات الدينية بعد اسقاط حكومة الراحل نجم الدين أربكان. 2- دور المخابرات: لعبت المخابرات دورا أساسيا في تقويض مشروع الانقلاب، فقد نزلت بكامل قوتها وفي مواجهات عسكرية وحملات تطهيرية ومفاوضات وعمليات خاصة تكللت بتحرير رئيس الأركان خلوصي آكار كما عملت المخابرات على الاشتباك مع جنود الانقلاب في البرلمان ورئاسة الوزراء، وقد أكد - حسب تقارير صحفية - هاكان فيدان رئيس جهاز المخابرات عن تصميم عناصره على القتال إلى آخر لحظة. 3- خطاب اردوغان: خلال ثواني معدودات ومن خلال مكالمة رديئة الجودة استطاع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ان يتواصل مع المواطنين الذين دعاهم الى النزول الى الشارع لمقاومة الانقلاب والتصدي له وهي الدعوة التي استجابت لها جموع من المواطنين. كما يجب ان نؤكد على أهمية تحركات اردوغان خاصة تحركه صوب إسطنبول رغم الخطر الذي شكله ذلك على سلامته كرئيس للدولة. 4-موقف رئاسة الأركان: رفض الجنرال خلوصي اكار ومعه مجموعة من القيادات العسكرية المشاركة في الانقلاب جعل الاجماع داخل المؤسسة العسكرية امرا مستحيلا، كما ساهم رفض قائد البحرية وقائد القوات الخاصة وقائد الجيش الاول المشاركة في الانقلاب في زعزعة قدرات الانقلابين، بل وصل موقف الرفض الى تحركت طائرات F16 لقصف دبابات الانقلاب واسقاط مروحية داعمة للفصيل الانقلابي. 5- موقف الشرطة: لم يختلف موقف الشرطة التركية في عمومها عن موقف المخابرات ورئاسة الأركان، فقد تصدى رجالها للفصائل المتمردة واشتبكوا معهم في غير موقع، كما لعبت الشرطة فيما بعد دورا رئيسيا في حملات الاعتقال والضبط. 6- موقف المعارضة التركية: رغم الاختلاف الإيديولوجي والسياسي بين فرق المعارضة العلمانية والحكومة ذات التوجه الإسلامي، فإن ممثلي الأحزاب السياسية في البرلمان التركي عبروا عن رفضهم للانقلاب ودعمهم للخيار الديمقراطي وهو ما أكده رئيس البرلمان التركي إسماعيل كهرمان، ولعل أبرز معارضي الانقلاب من المعارضة التركية هو زعيم حزب الشعب الجمهوري كمالقليجداراوغلو الذي يعد أقوى معارضي سياسة اردوغان. 7- القنوات الإخبارية: لم يتمكن الانقلابيون من السيطرة على القنوات الإخبارية، إذ توجهوا صوب قناة TRT الرسمية والتي اذاعت البيان الأول للانقلاب غير انهم عجزوا عن البقاء داخل القناة التي تم تخليصها في سويعات، في حين رفضت باقي القنوات والاذاعات خاصة "بي بي سي تركيا" ان تكون بوقا للانقلاب وساهمت بشكل كبير في تمرير رسائل الحكومة خاصة رسائل رئيس الوزراء بن علي يلدرم. 8- الانترنت: لعبت شبكة الانترنت دورا مهما في الانقلاب اذ اعتمد قادة الانقلاب على تطبيق "واتساب" للتواصل فيما بينهم كما كشفت قنوات إخبارية، كما اعتمد اردوغان على "فيس تايم" للتواصل مع القنوات الإخبارية وعبرها مع الشعب التركي، كما اعتمد الاتراك على الانترنت للنزول الى الشارع وحث اصدقائهم ورفاقهم على النزول. 9- موقف الشعوب العربية: بغض النظر عن بعض الأنظمة العربية التي كانت تتمنى سقوط اردوغان وأبرزها النظام المصري الذي أصيب بخيبة أمل كبيرة، فإن الشعوب العربية عبرت عن قلقها إزاء ما تعرفه تركيا، ووقوفها مع الشعب التركي ومع خياراته الديمقراطية، وقد كان "تويتر" ساحة لتبادل الآراء واخر الاخبار وقد عبر صحفيون ومثقفون وعلماء وسياسيون عن موقفهم الرافض للانقلاب. 10- موقف مثقفي تركيا: عبر فنانون ومثقفون وأساتذة جامعيون ومفكرون عن رفضهم المطلق للانقلاب على اختيار الشعب التركي، وهو ما نزع عن الانقلاب أي شرعية قد يكتسبها، فقد انتشرت صور لممثلين شاهدناهم في مسلسلات وافلام تركيا نزعوا عنهم حجاب التمثيل ونزلوا الى الشارع للدفاع عن حقوق شعبهم. 11- الانقلابيون: أحجم جنود الانقلاب عن استعمال القوة ضد المدنيين ورفضوا توجيه بنادقهم صوب المواطنين الذين احتجوا على الانقلاب وهو ما مكن الاتراك المدنيين من السيطرة على مناطق حساسة كان الانقلابيون قد سيطروا عليها بشكل كامل أهمها مطار اتاتورك وجسر البوسفور وبعض القنوات، وهو موقف يخالف ما كنا قد شاهدناه في مصر خلال انقلاب عبد الفتاح السيسي سواء في الحرس الجمهوري او النهضة او ميدان رابعة. كما تجدر الإشارة الى الارتباك الذي سيطر على القيادة فحسب ما تم تسريبه من محادثات فقد كان الانقلاب مقررا يوم السبت 16 يوليوز وليس يوم 15 يوليوز، كما ان مواقف المعارضة والشرطة ورئاسة الأركان قد أربكت الحسابات ودفعت ببعض قادة الانقلاب الى قصف مقر المخابرات والشرطة والبرلمان. 12- غموض الموقف الدولي: خلال الساعات الأولى لم يصدر عن الاتحاد الأوروبي او روسيا أي موقف معارض للانقلاب، بل وصفته سفارة الولاياتالمتحدةالامريكية ب "الانتفاضة التركية Turkish Uprising" وهو ما عبر عن وجود ارتباط بين قادة الانقلاب ودول خارجية، الشيء الذي يؤكده تورط قائد قاعدة أنجرليك الجوية في الجنوب التركي الجنرال بكير ارغان فانفي المحاولة الانقلابية، وتعتبر قاعدة أنجرليك نقطة انطلاق لقوات التحالف بقيادة الولاياتالمتحدةالامريكية لضرب داعش داخل الأراضي السورية. 13- الكيان الموازي: اتهم رافضو الانقلاب "الكيان الموازي" بقيادة المحاولة، وهو تنظيم يتبع للداعية فتح الله غولن المقيم بالولاياتالمتحدةالامريكية والذي يتهمه الاتراك سواء العدالة والتنمية او المعارضة العلمانية بمحاولة السيطرة على البلاد، وكان يكفي اتهام غولن بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية ليخرج معارضيه الى الشارع لصد الانقلاب وانهاءه في مهده وفي ساعاته الأولى. تجدر الإشارة الى ان وكالة الأناضول للأنباء اشارت الى توقيف خمسة جنرالات و29 عقيدامن الجيش لهم علاقة ب "جماعة الخدمة" التي تطلق عليها الحكومة اسم "الكيان الموازي الإرهابي". ان تعددت الأسباب والعوامل التي ساهمت بشكل كبير في افشال الانقلاب في تركيا، فإن موقف الشعب التركي الذي دافع عن مكتسباته الحقوقية والحريات يبقى اهم عامل الى جانب موقف الأحزاب السياسية التي لم تستغل الوضع القائم لتصفية حساباتها مع الحزب الحاكم، وهو موقف شاهدناه في مصر عقب الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي، ان هذا الوعي السياسي والتاريخي بخطورة حكم العسكر على بلاد كتركيا تتقدم وتنافس قوى أوروبية هو الذي عجل بنهاية الانقلاب العسكري خلال ساعات من انطلاقه في ليلة عصيبة على الاتراك وعلى العالم العربي المرتبط بتركيا. غير أننا نرى وانطلاقا من مؤشرات عديدة نشير الى ان خطر الانقلاب لم ينته بعد، وأن دوافعه قائمة، وأيا كان من يقف ورائه سواء كانت الولاياتالمتحدةالامريكية او فرنسا او روسيا او إسرائيل أو جماعة الخدمة، فإنها لن تعدم وسيلة للقضاء على اردوغان ومن وراءه حزب العدالة والتنمية الذي جعل تركيا بلدا ذا أهمية في المنطقة وفي معادلات الشرق الأوسط خاصة في سوريا والعراق وفي غزة المحاصرة.