في محاولة لإعادة عقارب الساعة إلى زمن الجنازر العسكرية، نفذت طغمة عسكرية تركية محاولة انقلابية ليلة 15 يوليوز 2016، ولكنها باءت بالفشل بعد ساعات فقط من بدايتها. ورغم سرعة الردّ وفعاليته إلاّ أن الضحايا بلغوا حوالي 161 شهيداً و1440 جريحاً، وتم اعتقال حوالي 2840 ضابطاً وجندياً انقلابياً حسب المعطيات الأولية التي قدمها رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم صبيحة يوم 16 يوليوز. كما قدّر قائد أركان الجيش بالنيابة الجنرال أوميد دوندار عدد القتلى في صفوف الانقلابيين بحوالي 104 عسكرياً كحصيلة غير نهائية في نفس اليوم. ستُكتب مئات إن لم نقل الآلاف من الصفحات حول ما جرى وتفسير مسبباته وتحليل غاياته، وما إن كان فتح الله غولن المقيم في بنسلفانيا، وما يسمى الكيان الموازي أو الدولة العميقة، هو من يقف وحده وراء الانقلاب أم أنّ هناك طابوراً خامساً وأيادً أجنبية؟ أم أن هذه العوامل كلها تضافرت ولاقت تأييداً من القوى الكبرى والإقليمية المتربصة بالديمقراطية التركية الفتية، والتي أصبحت تزعج الكثير من مراكز القرار الدولي؟ ستتضارب الآراء أو تتقاطع، ولكن لن يختلف اثنان في كون الديمقراطية هي أكبر المنتصرين في هذا البلد الصاعد الذي أعطى درساً للعالم أنه فعلاً بلد ديمقراطي ودولة مؤسسات، ولا يمكن أن يتمكن جزء من الجيش رغم امتلاكه السلاح من خرق القانون وإبطال الدستور وقهر إرادة الشعب. ما لبثت حشود شعبية أن استجابت لنداء الشرعية بعد ظهور الرئيس أردوغان على وسائل التواصل الاجتماعي، وندائه لمواجهة الانقلاب والنزول إلى الشوارع والساحات ومحاصرة الانقلابيين في المواقع الإستراتجية. ثم جاء الدعم من مؤسسة البرلمان الذي استجاب ليلاً لرئيس الدولة والتحق نواب الشعب بمقر البرلمان الذي لم يتورع الانقلابيون في قصفه أربع مرات، في خطوة لا تقبل أي تفسير آخر غير احتقار العسكر للمؤسسة الأولى التي تُعبّر عن إرادة الشعب الذي هو مصدر كل السلطات. وكانت الأحزاب التركية بكل أطيافها في مستوى اللحظة التاريخية حين أعلنت وقوفها إلى جانب الشرعية. وكان مشرفاً فعلاً أن يُعلن أكبر غريمين لأردوغان حزب الشعب الجمهوري والحركة القومية رفضهما للانقلاب في ساعاته الأولى ليلاً قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود. وكانت أجهزة الأمن بكل فروعها في الموعد، حيث أعلنت قياداتها ولاءها للحكومة يتقدمهم رئيس المخابرات العامة، ورئيس الشرطة، وقائد القوات الخاصة وفرق مواجهة الشغب. وقد دعت هذه الأجهزة عناصرها إلى الاشتباك مع الانقلابيين ومواجهتهم وعدم الاستسلام. هذا الموقف أكد نجاح تركيا خلال اثنتي عشرة سنة من حكم العدالة والتنمية من بناء دولة المؤسسات، لأنّ آخر انقلاب عرفته تركيا ضد الزعيم الراحل نجم الدين أربكان سنة 1997، لم يجد الشعب قوات تؤازره لمواجهة دبابات العسكر الانقلابي. لقد نجحت تركيا في إحداث تغيير حتى داخل المؤسسة العسكرية، حيث عبر قائد الجيش الأول وقائد القوات البحرية رفضهما للانقلاب، مما يعني تحولاً جذريا في عقلية الجيش التركي الذي أصبحت قطاعات واسعة منه تؤمن بالديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات، وترفض الانقلابات ودولة الدبابات. وإذا كانت تركيا قد انتصرت للديمقراطية بوحدة شعبها وقوة مؤسساتها، فإن المثير للشفقة هو موقف بعض أشباه المثقفين في بلادنا والبلاد العربية، الذين سارعوا إلى التطبيل والتهليل للانقلاب على حساباتهم في المواقع الإلكترونية و"قنوات الصرف الصحي" الفضائية. وهو ما فعلوه مع انقلاب السيسي في مصر دون أنْ تَحْمرّ لهم وجنة خجلاً أو يرف لهم رمش وجلاً. والمؤسف أكثر هو صمت الديمقراطيات الأوربية والأمريكية إلى أن بدأت كفه الشرعية ترجح. فقد استمر الرئيس الأمريكي باراك أوباما ينشر على موقعه "أنه يتابع بقلق ما يجري في تركيا" دون أن يندد بالانقلاب. ولم يعلن دعمه للحكومة المنتخبة إلاّ بعد أن مرت ثلاث ساعات على الانقلاب، أي بعد تصريحات قادة الشرطة والقوات الخاصة وبعد تصريح قائد الجيش الأول أنهم ضد الانقلاب. وحتى أوربا انتظرت ما سيقوله "الأخ الأكبر" أوباما، قبل أن تصرح المستشارة الألمانية بدعمها الديمقراطية. وبقيت معظم العواصم الأوربية تلتزم الصمت إلى أن تم إعلان فشل الانقلاب في اليوم الموالي، لتنطلق الألسنة والبيانات من عقالها! إنه موقف أقل ما يقال عنه أنه انتهازي. ولَإنْ كان مُضحكا أن يُعلن الانقلابيون في البيان رقم واحد "أن الجيش سيطر على السلطة دفاعاً عن العلمانية والديمقراطية"، فإن المثير للسّخرية حدّ الاشمئزاز هو ترحيب بعض أدعياء الديمقراطية في المغرب والبلاد العربية بهذا الانقلاب العسكري. لقد خسروا وخابوا، ولا شك أن الانقلاب الفاشل سيسجّله التاريخ كنهاية لسلسة الانقلابات التي عرفها هذا البلد في سنوات 1960 و1971 و1980 ثم 1997. وقد يصبح 15 يوليوز عيداً للديمقراطية في تركيا ونكبة لأعداء الديمقراطية في العالم العربي.