لقد أخطأْنا. والعِلْم (وأكاد أقول والعالَم، أيضاً) مبنيّ على الخطأ وتصحيحه. الاعتراف بالخطأ أساس الوجود، وليس «فضيلة» أخلاقية. وهو ( الخطأ) أهمّ عوامل التطوّر، والبقاء. لكنه يغدو مميتاً حينما يَتكدّس، ويغدو عسيراً على الاحتمال. تلك هي حالنا، اليوم، في سورية. مع ذلك، علينا أن نواجه أخطاءنا التي غدا تصحيحها مستحيلاً، أو يكاد، بشجاعةِ مَنْ يريد أن يتجاوز سَقْطته، وبمنطقِه، أيضاً، إنْ كان لازال ثمّة مجال لفعل ذلك، وإمكانية. لا أحد منا لم يخطيء! السياسيّ والمثقف، المتكلّم والصامت، المناضل واللامنتمي، الكبير والصغير، السجين والسجّان، المقيم والراحل، مَنْ تعذّب ومَنْ «نَفَذ بجلده»، الحاكم والمحكوم، المعارِض والمفاوض، العميل والنبيل، الشريف والفاسد، مع التحفّظ الشديد على كل هذه الاعتبارات التي لم تعد تعني شيئاً كبيراً، إزاء المَحْو المنهجي لتاريخنا وتراثنا ولنا أيضاً. ففي حالة الدمار المعمّم التي وصلت إليه سوريا، ليس هناك مذنب، وبريء. كلنا مذنبون، وإن اختلفت الأسباب والدرجات، بعد أن صارت الكارثة أكبر من كل القِيَم والمعايير. كلنا أخطأنا. التقدميون والرجعيون، المتدينون واللامتدينون، الصالحون والطالحون، المتزمِّتون والمتَفلِّتون، أهل العقل، وأهل النقْل، المتأدْلِجون والمتحذْلِقون، و...و... ولا فرق بين خطأ وآخر إلاّ بالمظاهر. والمظاهر خدّاعة. أخطأنا كثيراً وبعمق. دمار بلدنا يؤكِّد ذلك. الجهل العميق، جهلنا الذي لا مثيل له: «جَهل الكائن الذي فُرِّغ من جوهره» منذ أكثر من خمسين عاماً، هو سبب المأساة السورية العملاقة. وعلينا الآن أن نكابد وضعاً لم يعرف التاريخ مثله، وأن نتدبّره، ونتوَخّى المنفذ الذي يمكن أن ينقذنا منه ، قبل أن نذوب مثل حبة ملح في زَنْبيل العالَم المترع بالنفايات. الخطأُ خَطّاءٌ. أحياناً، يأخذ شكل الأُكذوبة. وأحياناً هو الحقيقة بعينها. وأحياناً أخرى هو التراث. وقد يأخذ شكل الاديولوجيا، أو الدين، أو كلَيْهما مجتمعَيْن. لكنه «عندنا» غالباً ما كان، ولا زال، يَعْجن كل هذه المفهومات، والاعتقادات، معاً. ويُحيل إليها. حتى بدا وكأنه، في عالَمنا الذي «نُعانيه» سياسياً ومعرفيّاً، محَصّن ضد الشكّ. «فالخطأ العربيّ» يكاد ألاّ يقبل التجزئة. إنه الحقيقة المطلقة أيا كانت الزاوية التي منها يُنْظَر إلى الوجود. وأكثر من ذلك، قد تجتمع الشذرات المعرفية، والأنشطة الأخلاقية والسلوكية غير المتعلِّقة به، ولكن التي تدور في فلكه، قد تجتمع بقوة في فضائه، وتختلط معه بلا فواصل نقدية، أو منطقية، حتى أن عَزْلها عنه يغدو مستحيلاً، كما هي الحال، اليوم، في بلادنا التي بدأت تحتضر أمامنا، ونحن عنها ذاهلون. في خضمّ مأساة كونية مثل مأساتنا، معرفة السبب لا تُبطل العجب! لا قيمة الآن للبحث ( مع أن ذلك يبدو ضرورياً) عن تبرير أو تعليل، أو إدانة، أو...الآن، علينا أن نبحث عن «وَضْع آخر» غير «وضع الضحية المُسْتبْسِل، والطاغية الخائن»، ينقذنا من هذا الصراع الرهيب الذي أصبح غير مجد! «الوضع» المأساويّ القاتم الذي وصلنا إليه بسبب التطاحن المفرِط، محلياً، واللامبالاة عالمياً، أخذ يُدَمَّر كل أسس الكيان السوري، ويفرض علينا، في النهاية، تصوّراً جديداً للوجود، إذا ما أردنا ألاّ تذهب سوريا مع الريح. ففي الصراعات العُظمى، مثلما هو حاصل الآن في سوريا، لا يوجد لا هزيمة ولا نصر. حتى «المنتصِر» مهزوم. وأي معنى لنصر أو هزيمة بعد تدمير «بلد الذات»، وتَقويض أسس الحياة العامة، ومَحْو عناصر الوجود؟ فلنتَوَقَّفْ عن تدمير بلادنا، أياً كانت الأسباب والنوازع الأولية التي دفعَتْنا من قبل إلى التَّحارُب والتَّقاتُل و«الإفْتِناء». بالحيلة والمهارة تتقدّم الكائنات، وليس بالاقتتال والموت. والآن، بعد أن تبيّن لنا مدى الخطأ والخطر والعدمية التي تتحكّم بمصائرنا، واللامبالاة العالمية بشأننا، بل، وحَثّ الكثيرين لنا، من المنتفعين من اقتتالنا، على الاستمرار في التدمير والتهجير والتفتُّت، أيّ هَول، يجب أن نصل إليه لنعرف عمق الخطأ الذي نُغرق أنفسنا فيه، وخطورته؟ هل فَكَّر أحد منا، أو منهم، بذلك؟ أم أن « العَماء الثوري» يسدّ منافذ البصَر، ويقتل البصيرة، عند مَنْ يدّعون «الثورة»؟ أما «الطاغية» فلا يهمّه مصير البلاد. فهي أصلاً ليست «بلاده». إنها «مَرْبع » له ولطغمته، أوهي «مَرْتَع» إذا أحببتم. وهو، لذلك، ليس مُطالَباً «بالهزيمة»، وإنما بالنصر، حتى ولو كان على أشلاء الكون. أمّا أنتم الثوريون، إلاّ إذا كنتم أنتم، أيضاً، «ثوريين طُغاة»، فإنكم مطالَبون «بالهزيمة الثورية»، من أجل الحفاظ على ما تبقّى من البشر والحجر. «الهزيمة فَنّ أساسيّ في الحياة، علينا، إذن، أن نتعلَّم كيف ننْهَزِم»! ففي ظرف جهنميّ مريع مثل ظرف سوريا، «لا يكفي أن يكون لك عينان لترى ما يحدث»، إذْ لا بد من التحديق إلى «الوضْع» بعين إضافية، لنُقَدِّر وخامَة العاقبة، ولكي نسلك أفضل الطُرُق للخلاص مِمّا نحن فيه. وفي النهاية، «لا يُصْلِح الخطأَ إلاّ خطأٌ أكبر منه»! ولكن، في خضمّ هذا الدمار الشامل والعميق، أين نَعْثر على «الخطأ المُصْلِح» إن لم يكن في « فَنّ الهزيمة»؟ افعلوا ما تشاؤون، ولكن لا تُمَزِّقوا سوريا.