لقد نعى القذافي نفسه يوم تحدى شعبه المناضل ووصف حفدة المجاهد عمر المختار بالجرذان والبراغيث المقملين والخونة الحشاشين والمهلوسين والكلاب الضالة، وقرر مصيره ساعة أعلنها حربا ضروس ضد المتظاهرين الثوار، ووقع صك هزيمته واندحاره لحظة تجنيده كل آلياته العسكرية وإمكانياته الحربية لقتل آلاف المدنيين الأبرياء العزل. نعم لقد حدد نهاية طغيانه يوم استصغر عقول الليبيين في الكثير من خطبه المتخشبة المثيرة للقيء، وكتاباته الساذجة (التي كتبت له بلا شك أو ريب) بموضوعاتها السخيفة، ومضامينها الغبية التي تحرم أحدا، وعباراتها غير اللائقة لعقلية القرن الواحد والعشرين، وغير المتناسبة لجلال الأحداث، بما تحويه من أفكار بالية، وأحكام عفا عليها الزمن، وكأنها آراء من يعيشون في كوكب آخر وليس في العالم العربي المعاصر الذي شرع مع بداية سنة 2011 في إعادة كتابة تاريخه بعرق ودماء ضحايا القمع الوحشي، الذي كان وقودا للهيب نيران الثورة الشعبية العارمة التي حاصرته وأمثاله في آخر معقل له والذي ستكون فيه نهاية تسلطه وطغيانه المقيت. وضع جعل الكثير من المراقبين والمحللين السياسيين والناس أجمعين، يجمعون على حقيقة مفادها أن الرئيس الليبي، عفوا الزعيم معمر القذافي، يُعد وبامتياز من أكثر الرؤساء والقادة العرب غرابة وإثارة للجدل والتساؤل، وأن جنونه المطبق أخطر من كل أسلحة الدمار الشامل، حيث أنه في الوقت الذي اصطف فيه جميع أحرار العالم إلى صف الثورات العربية، وهللت فيه كل أصوات حركات التحرر والانعتاق - سواء بالتعبير الصريح أو بالتلميح أو بالسكوت الحذر- بالانتصار التاريخي الخالد للثورة التونسية، وما عرفته وغيرها من الشعوب مع بزوغ سنة 2011 التي تعتبر بحق سنة انتصار ثورات مسحوقي الشارع العربي، ونقطة تحول جدري في حياة الشعوب العربية، والتي لقيت وبعفوية رضا نفوس الوطنيين الصادقين وذوي السريرة الطاهرة والضمائر والنوايا الخالصة الخالية من الضغينة والنفاق السياسي والاجتماعي... في هذا التوقيت بالذات، خرج علينا القذافي يسير في الاتجاه المعاكس لجميع القوى الحية، ويخالف كل الأصوات الحرة العربية وغير العربية. وذهب عكس الثورة والثورية والثوريين، يقلل من قيمتها الجماهيرية وقيمها الإنسانية، يستهين بدماء شهدائها التي أريقت في سبيل استرجاع كرامة الإنسان العربي المنهوكة، ويطلق العنان لخطبه السخيفة، وأقواله الغبية، وكتاباته السادجة المقيتة التي يعيدها في كل نادٍي، ويكررها في كل محفل، مهددا بها شعبه الأبي الذي يريد أن يحكمه بها مدى حياته، ويحرم عليه وعلى بقية الشعوب العربية الثائرة، رفع أصواتها بالتظاهر والمطالبة بالحقوق السياسية والإنسانية والاقتصادية، وذلك في مسرحيات هزلية بهلوانية لا تحمل فكرا صائبا ولا معنى واضحا ولا مضمونا بينا غير ما تجلب عليه وعلى أبنائه من خزي ولعنات، وتجعل منه محطة سخرية في كل القمم العربية وجل المحافل الدولية، ومؤتمراته الشعبية الجماهرية،-كما يحلو له أن يسميها- وتصيب كل من يسمعها بهستيريا من الضحك والسخرية والاستهزاء، حتى أصبح الكثير من الناس يدمنون مشاهدة القنوات الليبية الليلية ليستطيعوا النوم بعمق بعد الضحك على ما تعرضه من خطبه المضحكة، كتلك التي يبين فيها موقفه من التظاهر وضرورة منعه، والتي يصعب على المرء فهمها تبين ماهيتها ومقاصده، ولو بمحاولة لتجميع عباراتها المتنافرة الدالة على السفاهة والحماقة حيث قال فيها: تظاهروا كما تشاؤون، عبروا عن حقيقة مشاعركم ومطالبكم كما تريدون في القاعات الرسمية لكن لا تخرجوا إلى الشوارع والميادين فإنه لا حاجة للمظاهرات في وجود المؤتمرات الشعبية.. فالمتابع أو المحلل لهذه الخطب والأقوال ويقرأ تلك الكتابات، يُدرك أنه يثق بصواب تصوراته وصحة توجهاته ثقة أعمته عن التفريق بينما يؤمن به ويعتقده، وبين ما يعلمه حقيقة، ما يدفعه به للاعتقاد أنه القائد الأوحد، بل الالاه الذي يمتلك وحده الحقيقة الكاملة، وأن كل الذين يرفضون اطروحاته، هم أعداء للحق والحقيقة، لأنهم إما جهلاء، أو أنهم يعلمون بأنه على حق، لكنهم يحسدونه ويحسدون الجماهير التي تحبه، بدليل قوله: "أنا المجد أنا الثورة أنا المقاومة أنا شخص غير عادي" وقوله أنا معي الملايين الملايين كل اللبيين يحبونني". ولا شك أن السبب الرئيس وراء تعقد سلوكه واضطراب شخصيته وإصابته بجنون العظمة والسادية الخارجة عن حدود سياقات العقل البشري، هو ما كان يلاقيه من مدح ومجاملة ورياء مستشاريه، وكذب ونفاق وطمع الكثير من حاشيته ومبالغة أكثرية مواطنيه في إيهامه بالدهاء والعظمة، ما جعله يستهتر بكل القيم ويستخف بكل الأخلاق، ويهاجم-بدون استثناء وبكل خسة ودناءة- كل الشعوب المتعطشة للحرية والتواقة للديمقراطية، ويجرح أحاسيس ثوار العالم وعواطفهم الجياشة، ونلمس ذلك في أفكاره "البايخة" التي يطمح أن يقود بها إفريقيا والعالم بقاراته التي يعتقد أنها قد ركعت لعظمته وخضعت لسطوته، كما فعل مع الشعب التونسي حين سفه تحرك شارعه وثورته ضد فساد رئيسه بن علي الذي سانده، بكل جرأة وصلف، مهاجما أهداف الثورة الشعبية، التي كانت بمثابة "جدار برلين العرب"، الذي أطلق سقوطه سلسلة من التظاهرات التي حرّرت الشعوب في أوروبا الوسطى والشرقية وروسيا من الأنظمة السلطوية، حيث قال رأيه الذي لا يقبل النقاش الرافض لأي شيء اسمه “التغيير”, ويحبذ الإبقاء على الراهن وترسيخه حيث قال: "إن الشعب التونسي لم يثر من أجل أي شيء يستحق الثورة. وأن الدماء التي سالت ذهبت مقابل لا شيء، وأنه لا توجد أزمة اقتصادية في تونس تستدعي كل هذا الغضب وكل هذه الثورة. ثم وصف المتظاهرين بأنهم عصابات غوغائية، وعناصر شغب همجية همها الحرق والتدمير... تجوب الشوراع وتحرق الأخضر واليابس بلا هدف حتى حولوا تونس الخضراء إلى تونس سوداء، وسخر منهم ومن الانترنيت وكل من تعامل منهم بها أو معها قائلا إنها وسيلة السفهاء والتافهين والعصابات والمراهقين الذين لا قيمة لها مثله.. ومن أغرب الغرائب أن هذا الذي يهاجم ويعادي الثورات قد سبق له أن أشاد بها –في تناقض سافر- في كتيب نشر له تحت عنوان "الفرار إلى جهنم" والذي تحدث في إحدى فقراته، بإعجاب وتوجس عن قدرة الثورات الجماعية على القضاء على الطغيان- الذي هو حسب رأيه، حالات نفسية تتكرر مع بعض النماذج البشرية غير السوية التي تعاني من أمراض عصية أحيانا حتى عن الفهم- وما توقعه بأقوى الطغاة من نهايات مفجعة قائلا عنها: "ما أقسى البشر عندما يطغون جماعيا، ياله من سيل عرم، لا يرحم من أمامه .. كم أحب حرية الجموع وانطلاقها بلا سيد وقد كسرت أصفادها وزغردت وغنت بعد التأوه والعناء، ولكن كم أخشاها وأتوجس منها" ثم قال: "كم هي عطوفة في لحظة السرور، فتحمل أبناءها على أكتافها. فقد حملت هانبيبال وباركليز وسافونا رولا ودانتون وروبسبير وموسيلينى ونيكسون، وكم هي قاسية في لحظة الغضب فتآمرت على هانيبال وجرعته السم، وأحرقت سافونا رولا على السفود وقدمت بطلها دانتون للمقصلة وحطمت فكي روبسبير خطيبها المحبوب وجرجرت جثة موسلينى فى الشوارع وتفت على وجه نكسون وهو يغادر البيت الأبيض بعد أن أدخلته فيه وهي تصفق. إن التحول المفاجئ والتدحرج غير المتوقع، والذي يسميه ماركس ب"مكر التاريخ". والذي عرفته شخصية الطاغية الليبي، الذي كان يستقبله نظراؤه، وهو يتبختر في لباسه الفريد الغريب ويلوح بصولجانه البدائي صارخا في وجه قادة ورؤساء الدول، متبجحا بحب الملايين له، وبالديموقراطية التي يدعي أنه رسولها وصائن حرمتها- من عقيد، ثم قائد للثورة الليبية، وقائد القيادة الشعبية الإسلامية، وزعيم عالمي، وأمين القومية العربية، وبعدها عميد الحكام العرب، و قائد الطوارق، ورئيس الاتحاد الإفريقي، ورئيس تجمع دول الساحل والصحراء، إلى توج ملكا لملوك أفريقيا، وإماما للمسلمين. والواد المجنون بتاع ليبيا.. كما كان يحلو للرئيس أنور السادات أن يسميه". إلى حقير مكروه تزحف جماهير شعبه المحبوب من كل أنحاء البلاد، لا مطلب لها إلا وضع نهاية لفسوقه وطغيانه وهي تحرق وتدوس بالأقدام صوره الحاضرة في كل مكان. علينا أن نتصور- كما يقول خوان غويتسولو- حالة الطاغية وأحواله وما يدور في ذهنه في اللحظات الأخيرة التي تسبق سقوطه؟ وكيف يعي المشهد الواقعي وغير المتوقع في آن لشعبه المحبوب الثائر عليه وهو يقترب بسرعة من ساعات النصر، متمتعا بقوة معنوية وأخلاقية تفوق بدرجات عالية ما لديه ولدى مرتزقته الذين هم في حال انهيار متواصل. هذا الانهيار الخطير الذي زاد من وحشيته الكاسرة وطغيانه الهائج، بعد أن ضاقت عليه الحلقات وانهارت معنوياته، فرفع قبضته بحنق من فوق حائط خرب، يهدد شعبه وباقي الشعوب والأمم بالويل والثبور والسحق والقصف والدمار، وهو يحث آخر زبانيته ومرتزقته وما تبقى من قواته الأمنية، على القضاء على "الجرذان" في جحورها بكل زنكة من ليبيا، جزاءا على ثورتهم عليه ورفضه قائدا ملهما أبديا عليهم، بل وربا معبودا لا يُسأل عما يفعل، وهو الذي يريدُ لنفسِه موقعاً يماثلُ مواقع الأنبياء . الأمر الذي جعل، بلا شك، المد الثوري التغيري يتعاظم، ومكاسبه السياسية تتزايد على المستوى العربى والدولى، بل وتبلغ مداها ومراحلها النهائية التي قربت مصير القذافي من مصير أمثاله من الطغاة الذين أغرقهم قبله التاريخ في مزابله، والذين أشاد بذكرهم في كتيباته وخطبه رغما عما سجَّله التاريخُ عليهم من طغيان وتجبر وفتك وتقتيل لشعوبهم التي انتقمت منهم بشتَّى أنواع المذلة والخُسران المُبين، حيث قال في واحد منهم وهو الدكتاتور الروماني تشاوشيسكو: إن الناس هناك في رومانيا الآن يتحسرون على يوم واحد من أيامه.. وكأن الناس في رومانيا بلا عقل أو غير قادرين على فهم أو إدراك حقيقة وبشاعة وفساد نظام ساوشيسكو الاستبدادي السابق.... إشكالية الطُّغاة ليست وليدةَ اللَّحظة، كما قد يتخيَّل البعض من خلال تَجْرِبة تونُس ومِصر، أو مع تجارب أقدم منهما كحكم "المُعزِّ لدين الله الفاطميِّ" الذي اختزل مفهوم الحكم بصراحةٍ غيْر معهودة لَمَّا قال: "هذا حسَبِي" -مشيرًا إلى المال- "وهذا نسَبِي" مشيرًا إلى سيفه. فجُذور الطغيان موغِلَة في التاريخ على قِدَمه مند وقبل قارون وفرعون وهامان ، كما ورد ذكرها في كتاب الله تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} [العنكبوت: 39] صدق الله العظيم حيث أن قارون وفرعون وهامان لم يكونوا سباقين للطغيان ولا هم آخر الطغاة، فقد سبقوا في ذلك وما زال الطُّغاة يَطْفون على سطح العالَم الْمُعاصر، مادام أكثرية أصحاب السلطة يستكبرون -خاصة في النظام العربي- حيث لا يرون خطوطاً حمراء لسلطتهم، ولا يعترفون بحدود في تعاملهم مع مواطنيهم، وإظهارهم لقدراتهم وعضلاتهم على شعوبهم المستضعفة تطبيقا للمثل السائر"أسد علي وفي الغابة نعامة" كما أكد ذلك القذافي في إحدى مقولاته الغبية التي تعوزها الحكمة والكلمات الموافقة والمناسبة: " أنك إذا أردت أن تحكم بصورة علمانية فأحكم كما شئت" أي اطغ وتجبر كما تشاء، فأنت الواحد القهار، رغم تحذير الله -سبحانه- من الظلم والطغيان أشدَّ التحذير، لِخُطورته الشديدة على العباد والبلاد التي يعيث فيها الظالمون الفساد الذي يقول فيه عزَّ مِن قائلٍ: أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ " وقوله:{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: 227]؛ المنقلب الذي لن يكون حسن العواقب حتى لو ندم الطاغية الظَّالِمِ وتَحسّر، الشيء الذي لم يحدث مع القذافي، ولن يحدث أبدا لأنه يظن أنه محفوف بمن يحيط به من مشايخ وفقهاء السلاطين الذين يبيعون دينهم بعطايا وعروض الدنيا الزائلة، و يعتقد إنه محصن بفتاواهم المدفوعة الثمن التي تجبر الشعب الليبي على عدم الخروج عليه، وتفرض عليهم طاعته والخضوع المطلق له رغم فساده وطغيانه، ويجعلونها فرض من الدين، مع أن الدين براء منها. ناسين أو متناسين الأمثلة التي تؤيد الخروج على كل حاكم ظالم، وأي ولي أمر فاسد، والتي وقع بعضها في عهد الرسول، صلى الله عليه و سلم. أو في زمن قريب جدا من زمانه، وخير مثال على ذلك وأقدمه تاريخيا، وأقربه لعهد وحياة خاتم المرسلين، صلى الله عليه و سلم، ما قدمه أبو بكر الصديق رضي الله عنه من أروعَ نَماذج العدل، حيث أنه لم يُنَصِّب نفسه رضي الله عنه ملَكًا ولا نبيًّا مرسلاً، ولَم يُلْصِق بنفسه صفة العِصْمة وصِفَة القداسة، واعْتبر نفسه بشَرًا عُرْضة للخطأ، إذْ قال: "لقد وُلِّيتُ عليكم، ولَسْت بِخَيركم، فإنْ أحسَنْتُ فأعينوني، وإن أسَأْت فقَوِّموني، أطيعوني ما أطعْتُ الله فيكم ورسولَه، فإنْ عصيتُ الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم". وثاني مثال قصة ذاك الأعرابي الحر الذي واجه عمر بن الخطاب بقوله: والله لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا. ثم تعليق عمر عليه بمقولته الشهيرة: "الحمد لله الذي جعل في رعية عمر، من يقومه بحد السيف إذا أخطأ". فأين القذافي من عدالة الصديق وسعة صدر عمر؟ الذي انبسطت أساريره وهو يعرف أن التقويم الذي لوح به الأعرابي، و رحب به، كان بالسيف، وليس بالنضال السلمي كنضال ثورة الشعب الليبي التي تصدى لها القذافي بمدافعه ودباباته وطائراته وسفنه الحربية، وكل ما يملك من إمكانيات عسكرية.. [email protected]