يزخر التراث العربي بقصص وأخبار الأولين التي تم تدوينها، في كتب ومجلدات عديدة، متناولة حيوات أو أحداثا وقعت لهذا الشاعر أو هذا الأديب أو لذاك الوالي أو ذاك الحكيم أو هذا المجنون، أو هذا الطماع وذاك المحتال إلخ.. وهي قصص وأخبار انتمت في غالبها إلى الأدب العربي، الفصيح العالم منه، أو الشعبي، مما ظل الحكاة والرواة يرددونه في مجالس أنسهم، أويطالعه المهتمون بالأدب لإغناء قاموسهم اللغوي، لما تنطوي عليه بعض هذه القصص من مفردات مُفعمة بنداوتها الأولى وطراوتها البدئية، أو لما تشمله من عبر وحكم وأمثال أو لمجرد متعة القراءة والترفيه عن النفس. لذلك، اخترنا منتخبات من هذا التراث ليصاحبها القارئ الكريم، عله يجد فيها من البلاغة والفصاحة وحسن القول وسرعة البديهة، وخفة الظل والدم ومن مهارات الخطابة وأساليب المكر والحيل لبلوغ الغاية ومن الامتاع والمؤانسة، ما يملأ به وقته استفادة ومتعة. المنظوم والمنثور قال ابن الرشيق في العمدة: العرب أفضل الأمم، وحكمتها أشرف الحكم، كفضل اللسان على اليد، وكلام العرب نوعان: منظوم ومنثور، لكل نوع منهما ثلاث طبقات: جيدة ومتوسطة ورديئة، فإذا اتفقت الطبقتان في القدر، وتساوتا في القيمة، ولم يكن لإحداهما فضل على الأخرى كان الحكم للشعر ظاهرا في التسمية، لأن كل منظوم أحسن من منثور من جنسه في معترف العادة، ألا ترى أن الدُّرّ وهو أخو اللفظ ونسيبه، وإليه يقاس وبه يشبه إذا كان منظوما يكون أظهر لحسنه وأصون له. وكذلك اللفظ إذا كان منثورا تبدد في الأسماع وتدحرج في الطباع، ولم يستقر منه إلاّ المفرط في اللطف، وإن كان أجمله، والواحدة من الألف وعسى إلاَّ المفرط في اللطف، وإن كان أجمله، والواحدة من الألف وعسى ألاَّ تكون أفضله، فإن كانت هي اليتيمة المعروفة، والفريدة الموصوفة، فكم سقط في الشعر من أمثالها ونظرائها لا يعبأ به ولا ينظر إليه. فإذا أخذه سلك الوزن وعقد القافية تألفت أشتاته، وازدوجت فرائده وأمن السرقة والغصب. وكان الكلام كله منثورا، فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأنجاد، وسمحائها الأجواد، لتهز نفوسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم، فتوهموا أعاريض فعملوها موازين للكلام، فلما تمَّ لهم وزنُه، سمّوه شعرًا، لأنهم قد شعروا به، أي فطنوا له. * عن المزهر في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي.