لا يختلف اثنان,أن العرش المغربي كان الراعي الأول للحركة الوطنية التي قامت على إثر الاصطدامات التي أثارها تعنت المقيمين العامين الفرنسيين, ورميهم عرض الحائط لكل مطلب تقدمت به الحركة الوطنية من أجل التحرر من قيود الحجر والحماية. وهو الذي منح هذه الحركة القوة الوثابة وغداها بتوجيهاته وحماها من كيد المتآمرين. فبدأت أنظار الاستعمار الفرنسي تتجه إلى العرش المغربي وتفكر في تدبير المؤامرات ضده لما عبر عنه ملك البلاد من أفكار تحريرية, ولما سطره من منهج قويم ليسلكه شعبه الوثاب للحصول على السيادة والعزة والكرامة. وكانت هذه المؤامرات المبيثة تهدف إلى الحيلولة دون اتصال الملك بأفراد شعبه لاعتقاد مبديرها الواهي أن دوام اتصال الملك بشعبه هو ضمان لانتصار المبادئ التي يؤمن بها ويعمل من أجلها، ولذلك حاولت هذه المؤامرات دون جدوى أن تحد من هذا الاتصال. ولكن ذلك لم يزد الشعب المغربي إلا تعلقا بملكه ولم تزدد العلاقة بين الملك والشعب إلا متانة وقوة. كانت الأزمة سنة 1951، التي كاد فيها الجنرال جوان الشرس أن يهجم على القصر الملكي, ولكن خانته جرأته فارتد عن أعقابه منهزما مدحورا. وواصل جلالة الملك المغفور له سيدي محمد بن يوسف رحمه الله الكفاح المستميت ومواقفه البطولية في وجه العدوان والتحديات، وطالب بإلغاء نظام الحماية في خطاب العرش للعيد الفضي سنة 1952م وقال فيه كلمته المشهورة" »إن نظام الحماية كقميص وضع لطفل صغير وكبر الطفل وبذلك أصبح غير صالح لأن يلبسه هذ الرجل الراشد«، ويعني به المغرب" وقد تنبأ الشعب المغربي بما لا يحمد عقباه وقام بانتفاضاته ضد المحتل الغاصب في ربوع المملكة خلال شهر غشت من سنة 1953م. وما أن حل يوم 20 غشت من هذه السنة حتى حلت معه المأساة المغربية المتمثلة في نفي المغفور له محمد الخامس وأسرته الكريمة إلى المنفى السحيق، ذلك أن الجنرال كيوم المقيم العام الفرنسي وصل إلى القصر الملكي مرفوقا بالجنرال »"ديفال"« قائد القوات الفرنسية بالمغرب وقابل جلالة الملك محمد الخامس طيب الله ثراه بقاعة العرش وخاطبه قائلا: إن مصلحتك أن تكون مع فرنسا وإن لم تكن مع فرنسا, فإننا سنطلب منك أن تتنازل عن العرش المغربي، فأجابه سيدي محمد بن يوسف رحمة الله عليه قائلا: هذه أمانة في عنقي ائتمنني عليها الشعب المغربي فلن أخونها, وفرنسا قوية فلتفعل ما تريد وما تشاء.. وإذا كانت الحكومة الفرنسية تعتبر الدفاع عن الحرية وعن الشعب جريمة تستحق العقاب, فإني متمسك بهذا الدفاع الذي يستحق الشرف والمجد" وكان الاعتداء الغاشم على العرش المغربي والجالس عليه ليلة عيد الأضحى يوم الخميس 9 ذو الحجة 1352 ه. واعتقد مدبرو هذا العمل الشنيع بأن مبادرتهم الدنيئة كانت بمثابة الخطوة الحاسمة للقضاء على السيادة المغربية ,ولكن في الحقيقة كانت بمثابة أول بادرة للقضاء على نظام الاحتلال بالمغرب وكان رد الشعب المغربي قويا وعنيفا، وكانت العمليات الفدائية ومعارك جيش التحرير الضارية وسقط الشهداء الأبرار في ساحة التضحية والفداء. وأصبح جلالة الملك المغفور له محمد الخامس قائد ثورة التضحية والتحرر التي حقق رجالها المعجزات بالكفاح والصمود والثبات على المبدأ, وأطلق جلالته على هذه الثورة في ذكراها الثالثة لسنة 1956 م بعد عودة جلالته من المنفى ثورة الملك والشعب التي قال عنها وارث سره ورفيقه في الكفاح والنضال جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله مثواه في إحدى خطبه: "فلو لم تكن مسيرة الشعب والعرش مسيرة تاريخية عندنا لما تمكنا في القرن الذي نحن فيه من أن نقوم بثورة الملك والشعب". وكانت عودة جلالة الملك المجاهد سنة 1955م من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر .مكللة بالنصر والظفر، حاملا في يده الكريمة وثيقة الحرية والاستقلال ومعبرا بلسانه للشعب المغربي قوله "أيها الشعب الوفي قد أخلصت الوفاء,كما أخلصت وأديت الواجب كما أديت, وها أنا ذا بينكم كما تعهدوننا, حب البلاد رائدنا وخدمتها غايتنا". وجاهد جلالته رحمه الله لوضع أسس هذا الاستقلال إلى أن التحق بالرفيق الأعلى سنة 1961. فكلما حلت هذه الذكرى منذ بدء الاحتفال بها سنة 1956م إلا وجسدت التحام العرش بالشعب والشعب بالعرش وطموحاتهما وآمالهما في التنمية والنماء والرقي والازدهار، وفي تحقيق أعظم المكاسب وأغلى الأماني، وفي ربط الماضي الحافل بالأمجاد بالحاضر المشرق، وفي الحفاظ على وحدة المغرب الترابية والوطنية والدينية، وفي تقوية الروابط وتمتين الأواصر بين كافة المواطنين دون تمييز أو استثناء. وهكذا, وسيرا على نهج أسلافه الميامين, طبع خير خلف لخير سلف, جلالة الملك محمد السادس المغرب، في هذه الألفية الثالثة بطابع الحداثة والتطور والجدية في العمل المتواصل الدؤوب من أجل تحقيق جميع الطموحات والإنجازات والأولويات التي يكرس لها جلالته جميع الطاقات البشرية المغربية ذات الكفاءات العالية، والعمل على ترسيخ المقومات الوطنية والثوابت التاريخية طبقا لروح ثورة الملك والشعب التي لا تزيد مع مرور الأحقاب إلا رسوخا وخلودا.