رغم اشتهار تزيغا فيرتوف باعتباره مخرجاَ تسجيليا، لكن قليلين هم الذين عرفوه مُنظّراً له أفكارٌ مهمةٌ في السينما. بحاجة إلى إعادة قراءة، خاصة في زمننا المعاصر، زمن انتشار الصورة، بل انتصارها الساحق على كلّ أشكال التعابير الفنية الأخرى، وذلك بفضل الكاميرات الرقمية وعدسات الهواتف المتحركة وسهولة نشر الصورة عبر الإنترنت في شبكات التواصل الاجتماعي. يُجسّدُ زمننا المعاصر عن حق انتصاراً لأفكار فيرتوف الذي قال: «ثمة تفوق لعين الكاميرا على العين البشرية»، وليس هذا فحسب، بل إنه يُعتبر الأب الروحي لبرامج الأخبار التلفزيونية، لكن أفكاره المهمة والمدافعة عن سينما الواقع لم تنل في عشرينيات القرن الماضي التقدير والاعتراف نفسيهما الذي حظيت به مثلا أفكار مواطنه المُخرج والمنظّر السوفييتي الرزين سيرغي أيزنشتاين عن السينم.ا كان دخول أيزنشتاين إلى عالم السينما مفاجئاً وسريعاً، فأصبح من أهم مخرجي ومنظري السينما في العالم. إن هذا المخرج ذا الرأس الضخم الذي يُشبه بشعره الكثيف رأس أسد خرجِ للتو من معركة شرسة، كانت له تجارب وآراء في السينما يَجلّها ويحترمها الجميع. أما فيرتوف فإنه قامة كبيرة في السينما السوفييتية والعالمية كذلك، وكانت له صداقة مع لينين، حتى أن الأخير أرسل له عند مرضه قنينة من الخمر الفرنسي الممتاز، ويُروى، أن لينين بعد مشاهدة فيلم «رجل الكاميرا» وهو فيلم وثائقي لفيرتوف عام 1929، قال جملته الشهيرة التي كثيراً ما كانت ترددها لاحقاً الماكنة الدعائية السوفييتية: "تعتبر السينما من أهم الفنون". لكن كانت لفيرتوف شخصية صعبة وأنانية، أدّت إلى ابتعاد أصدقائه ورفاقه عنه بمن فيهم أخوه بوريس كوفمن أصبح مصورا شهيراً، نال احتراماً كبيراً في هوليوود كما صور العديد من الأفلام الروائية في فرنسا وأمريكا في ما بعد. كانت لفيرتوف أفكار راديكالية بخصوص كينونة ومستقبل السينما السوفييتية وهو معروف بتصريحاته النارية ولسانه السليط كدفاعه العنيف عن سينما الواقع باعتبار أن هذا الواقع هو المجال الوحيد الذي يجب الاحتفاء به وما عداه، فهو مصطنع «إلى القُمامة»، و«لتحيا الحركة الهندسية» هكذا صرح في بيانه «المستقبلي»، وقد قاده هوسه بالحركة تلك إلى العمل على تجارب كثيرة في كلّ أفلامه، إلى درجة أنه كان مولعا بها كطفل بلعبة يكتشفها للتو. يقول: «الدراما السينمائية – أفيون الشعوب»!. فقد رفض فيرتوف سينما الممثل والمسرح واعتبرهما فناً برجوازياً، وهكذا، اعتبر أيزنشتاين يملك صفات برجوازية بسبب من تحمس الأخير للسينما الروائية، ما دفع أيزنشتاين ليصرخ بوجهه ذات مرّة: «إنك لا تفهم بالديالكتيك، أنا أكثر ديالكتيكية منك»! ومع ذلك، جاءت هذيانات فيرتوف السينمائية بأفكار مهمة للغاية. كانت بين هذين المخرجين خلافات جوهرية حول مفهوم السينما، ولمن يجب أن تكون الغلبة؛ هل ستكون من نصيب أفلام الواقع، كما كان يؤكد فيرتوف أم ستذهب لأفلام الخيال بحسب أيزنشتاين؟ وهنا يكمن صراع سينمائي وجوهري لم يحسم أمره لغاية الآن، رغم السجالات المهمة على صفحات النقد السينمائي العالمي. كما زاد دخول عنصر الصوت في ثلاثينيات القرن الماضي إلى التقنية السينمائية من مساحة الخلاف بين الرجلين. واظب أيزنشتاين الذي يصغر فيرتوف بسنتين في مطلع القرن الماضي قبل أن يترك عمله في المسرح على مشاهدة عروض أفلام فيرتوف التسجيلية، بل إنه درس السينما على يد فيرتوف نفسه واستمع إلى آراء معلمه النارية ضد المسرح، حيث كان أيزنشتاين يعمل مصمما للديكور في مسرح «ميرخولد» حينذاك. في اللقاءات السينمائية المنظمة في موسكو، كان فيرتوف يعبر عن مواقف عدائية ضد السينما الروائية معتبراً السينما الروائية ملهاة ساذجة وأداة برجوازية لتزييف الواقع، أي أنه عارض أي شكل من أفلام الدراما لأنها بحسبه ثقافة برجوازية تُلهي الجماهير عن واقعهم ونضالهم الطبقي. يقول: «يمكن أن نتحمل الدراما السينمائية ومن يبدعها- كهنة الفن- ولكن لا يجوز لدقيقة ولا للحظة أن نجعلها، أي الدراما هدفاً أساسيا للإنتاج السينمائي السوفييتي والطريف في الأمر أن أيزنشتاين نفسه كان من الأشخاص الذين تأثروا في البداية بأفكار فيرتوف، ونجد صدى ذلك في أفلامه الأولى التي كانت تحاكي الواقع كفيلم «الأضراب» و«المدرعة بوتيومكين» وكذلك فيلم «أكتوبر»، حيث تتصدر القصة الحقيقية هذه الأفلام ونجد الاتجاه التسجيلي الواقعي قوياً في إخراج أغلب مشاهدها. لكن حماس فيرتوف للسينما دفعه إلى مواقف راديكالية بخصوص الكيفية التي يجب أن تكون عليها السينما السوفييتية. أيزنشتاين نفسه كانت له مواقف لا تقل تطرفا خاصة في بداية نظرياته السينمائية، حيث أن العصر الذي عاش فيه المخرجان كان ثوريا بامتياز، والثورة أينما حلت تجلب معها التطرف أيضا فهنالك وصف طريف لأيزنشتاين أثناء حديثه عن «المونتاج التشويقي» وهو مونتاج يعتمد على الإثارة واستخدام العواطف للتأثير على الجمهور يقول : «إن الملاكم لا يستخدم الضربة من جهة واحدة فإذا ضُرب الخصم على خده الأيمن فستكون الضربة التالية على الخد الأيسر». هذا الحديث نابع من موقف ثوري ضد جمهور المسرح حيث كان يعتقد في الأيام الأخيرة من عمله فيه، بأن الجمهور الذي اعتاد على ارتياد المسارح برجوازي التوجه وله أهواء وأمزجة طفيلية. لكي نفهم حقا هذين المخرجين الكبيرين، فنحن بحاجة ليس إلى إعادة مشاهدة أفلامهما وقراءة نظرياتهما السينمائية فحسب، بل العودة إلى ذلك الزمن من بداية القرن الماضي، الزمن الثوري بامتياز. وهما كانا مخرجيَن ثوريين أيضاً، ويا للمفارقة، فإن ثورة أكتوبر/تشرين الأول التي دافعا عنها باستماتة، أزاحتهما جانباً لاحقا وكادا أن يفقدا حياتيهما! وهنا سؤال لابدّ من طرحة وهو: ماذا يعني الزمن الثوري؟ فهذا سؤال فيرتوفي (عن فيرتوف) وهو في الدرجة نفسها سؤال أيزنشتايني، وتحت هذا السقف الثوري التقى الاثنان رغم كلّ خلافاتهما. أما نحن عشاق السينما فنستطيع التمتع اليوم أكثر بمشاهدة أفلام هذين المخرجين وفهم نظرياتهما بشكل أدق لو توصلنا لحل لغز السؤال الثوري. لاسيما وأن المسافة التي تفصلنا اليوم عن ذلك الزمن، حوالي قرن بكامله، حيث أننا نعيش اليوم عصراً ثورياً لا يقل ثورية ولا تطرفا من سابقه وإن جاء بحلة جديدة. (*) مخرج وأكاديمي عراقي