شخصية عالمية ، ثورية واجرامية في آن واحد، يلفها الغموض والكاريزما ، يتقمص شخصية تشي جيفارا بجاكيتته الجلدية وقبعته الشهيرة ، مع عينين غائرتين صغيرتان تشعان بالخبث والذكاء ،حيث يقوم بالدور ويتقمص الشخصية ببراعة نادرة الممثل الفنزويلي الشهير ادجار راميرز . هذا الفيلم الطويل للغاية في نسخته الأصلية والتي تزيد مدة عرضه عن الخمس ساعات ، والتي سمحت برصد تفاصيل هذه الشخصية الغامضة والمثيرة للجدل ، والتي اتسمت بالمغامرة وحب الحياة والطموح الذي لا حدود له ، والذي أعطى بعدا عالميا للنمط الثوري- الانتهازي الذي لا وطن له . اسمه الأصلي راميرز سانشيز ، الابن الأكير لمحامي فنزويلي ماركسي النزعة ، معجب لأقصى الحدود بشخصية لينين ، مما استدعاه لكي يسمي ابنيه الآخرين فلاديمير ولينين ، ليكتمل الاسم الثلاثي لمؤسس الثورة البلشفية (فلاديمير اليش لينين ) . هذه الدراما السينمائية المثيرة والمتقنة التنفيذ والتمثيل والاخراج ، والتي عرضت في احدى صالات عمان مؤخرا ، ولم تلقى الحد الأدنى من الاقبال ، تتحدث ببلاغة عن سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وتحديدا من خلال عرض مغامرات شخصية كارلوس ، وحيث في العام 1974 وبعد محاولة اغتيال فاشلة ، ينغمس كارلوس في مهنته الثورية الجديدة التي تتخللها المغامرات في بلدان الشرق الأوسط ، وتتسم بطابع دموي –انقلابي ، حيث الجثث والانفجارات والمؤامرات ، وحيث الاعلام المكتوب والصحافة اليومية وبرامج التلفزة المحلية تقود الحدث اعلاميا ، بدلا من المحطات الفضائية والشبكة العنكبوتية والفيس بوك وأخبار السي ان ان والياهو والجوجول. **************************************************************************************************** بعد أن أنهى كارلوس تعليمه في الاتحاد السوفيتي ، وتدرب في مخيمات التدريب في مدن الشرق الأوسط في نهايات الستينات وبداية السبعينات ، يلتقي "أليش راميرز " بقادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، وحيث يتعمق المخرج الفرنسي اوليفر أساياس في اظهار التفاصيل المدهشة لتفاعلات هذه الشخصية الجدلية ، مدخلا رؤياه الشخصية ومسقطها ضمن الزوايا الغامضة لكارلوس الثوري المندفع والمتقد حماسا لتقديم خدماته ! الفيلم الذي تم تصويره في ستة بلدان مختلفة (فرنسا-ألمانيا-هنجاريا-النمسا-اللبنان- واليمن ) ، ومول انتاجه المكلف التلفزيون الفرنسي ، والمركب من مجموعة كبيرة من الأحداث والتفاصيل ، والذي أدخل عليه المخرج وجهة نظره الشخصية ، وكأنه أعاد صياغة هذه الشخصية العالمية بطريقة ابداعية جذابة وطاردة للملل الذي يصاحب ساعات العرض الطويلة لأفلام البيوغرافي ، اذا ما أخذنا بالاعتبار أن فترة العرض الأصلية كانت تزيد عن الخمس ساعات ، تم اختصاره ليصبح العرض التجاري ساعتين وخمس واربعين دقيقة . الفيلم يقودنا للحنين لأيام الثورة الفلسطينية الاولى ، عندما كان وميض الثورة مشتعلا ، ولم يستسلم الثوريون الأوائل بعد للاختراق والسلم الوهمي والاجندات الاقليمية ورغبات العيش الرغيد والفساد والاستكانة .يستعرض الشريط ببراعة تسجيلية حالات الاغتيال التي نفذتها الجبهة الشعبية في العام 1973 ، وحيث ينتقم الموساد الاسرائيلي حينئذ بتفجير سيارة فيها عشيقة كارلوس ، وذلك ضمن جملة ردود فعله العنيفة المتلاحقة على عملية اغتيال الرياضيين الاسرائيليين في ملعب ميونيخ الاولمبي . ثم تنتقل الكاميرا ببراعة للبنان لتصوير لقاء فريد بين كارلوس وقائد الجبهة الشعبية ( الممثل أحمد كابور )، عارضا عليه خدماته الثورية المجانية في لقطة بارعة لسيناريو مترابط (أساياس ودان فرانك ) ، وبعد التقاء كارلوس بالجبهة الشعبية ، يلتحق بمجموعات من القوى اليسارية المتطرفة ، والتي تمارس نشاطاتها في اوروبا والشرق الأوسط ، حاملا بامتياز راية الثورة اليسارية العالمية ، تاركا وراءه الضحايا ، ومستفزا جهاز الموساد الاسرائيلي ، الذي مارس بتبجح وسادية كافة صنوف القتل والاغتيال بحق قادة المنظمات الفلسطينية في المدن والعواصم الاوروبية ، و بالتعاون السري مع اجهزة الاستخبارات الغربية . يلعب المخرج الشهير أساياس في هذه التحفة السينمائية دور الساحر ، الذي يستمتع بعرض المشاهد ، بعد ان يقطعها بالمونتاج المتقن ، في لقطات سريعة ، متنقلا من بلد لآخر ، مستنطقا التاريخ بنفس واقعي -تسجيلي ، وبسلاسة وبلا ادعاء ولا عنف مجا ني (كما نلاحظ في الافلام الامريكية ) . كارلوس : الشخصية الاستعراضية ، يبدو وكانه يمارس أدواره كهواية وباستمتاع ، فهو متنوع وملون كألوان الطيف الثوري ، ويبدو احيانا "كأيدولوجي" عتيق ، متمرس في صنعته ، فهوعندما بستعرض قدراته امام بعض الرهائن يقول بادعاء وتبجح طفولي : لقد سمعتم عني ! لكنه يمارس أيضا قسوته بشغف نادر وسادية استعراضية في أحيان اخرى ، وحيث تبدو "ماركسيته " كعادة وممارسة يومية أكثر منها كقناعة فكرية ! تكمن روعة هذا الفيلم في جمعه المتقن "لكبسولة الزمن " مع البعد الملحمي للأحداث السياسية التي هيمنت على المنطقة حينئذ ، وحيث يبدو كارلوس وكأنه شاهد من التاريخ ، بقوم بتعيير ساعته الزمنية الشخصية مع نبض الأحداث التاريخي بطريقة متزامنة ومدهشة ، تكاد تجعلنا نؤمن بصيرورة التاريخ المكتوب سلفا ، خالقا حماسا والهاما ثوريا ، حاثا المتفرج العادي ومحرضا له لأن يحمل البندقية ليتفاعل مع الأحداث ويغير العالم ! وفي المحصلة أليست الثورية نوعا من العدوى الاجتماعية التي تنتقل بروح الحماس الشعبي والجماهيري من شعب الى شعب ومن بلد لآخر ؟! أليس ما يحدث الآن في البلدان العربية – الواحد تلو الآخر – مثالا عمليا نموذجيا لانتقال العدوى الثورية العربية ولانهيار حواجز الخوف و الرعب ، من أجل تنفس هواء الحرية والديموقراطية التي حرمت منه الشعوب العربية طويلا ! عندما يلتقي في البدايات بعشيقته "جوانا أكوستا" في لندن ، وتلومه لعدم تظاهره ضد طاغية تشيلي "اوغستو بينوشيه "، يجيبها حينئذ بتلقائية ديماغوجية وباستعراض : "الكلمات لا تقودنا لمكان " !ّ ،متباهيا أنه رجل أفعال . وقبل ذلك يجلسان في مطعم لندني أنيق ، يغطي مائدته شرشف أبيض بينما جدران المطعم تضيء بلون أحمر فاقع كالدم ، في دلالة مجازية معبرة . واقتداء بالثوار الفيتناميين ( اللذين لمع نجمهم في تلك الحقبة )، يدعي بتبجح بأنه شكل مجموعة ثورية سيقودها للمجد !، وعندما تجيب صديفته قائلة (وكأنها كشفت خفايا شخصيته ) : ادعاء برجوازي مخبأ وراء تبجح ثوري ! يصرخ بعصبية لافتة : كارلوس ! وتبدو ديماغوجيته وفوضويته صارخة عندما يطلب من أنصاره الاخلاص المطلق ، كما يتجلى ابداع أساياس في غرضه للقطات حوارية مستفيضة ، طارحا بمجازية رؤياه الخاصة ، ومقدما كارلوس متناقضا بشخصية مركبة تجمع ما بين " الوحشية والبرودة المافيوزية " ، خالطا هذه الخصائص مع النمط اليساري الذي كان سائدا في سبعينات القرن الماضي ، وبالتأكيد فالمخرج هنا يسعى لاستنطاق التاريخ بنمط تسجيلي لافت ، وبطريقة ديناميكية أكثر من اهتمامه بالطرح التاريخي المتتابع للوقائع ، وهو كما قلت ربما يسعى لطرح رؤياه الشخصية واستفزاز المشاهد العربي تحديدا ، ولكن هذا المشاهد تحديدا كان غائبا نظرا لغياب الاهتمام بتلك الحقبة و لضعف الترويج النقدي لهذا النمط من الأفلام ، ولانشغا ل معظم النقاد العرب بالأفلام التجارية الأمريكية تحديدا وبأفلام المهرجانات السينمائية لأتها تدر عليهم المكاسب والسفر والمياومات ! تبدو الثورية المزيفة جلية في سلوكيات كارلوس وأقواله عندما يقول في مشهد المطعم :اننا نسعى لأن نكون أخيارا !، ثم يتبعة بمشهد وضعه للمتفجرات داخل بنك اسرائيلي في باريس ، حيث تتراشق فيه الدماء مع تكسر الزجاج وصراخ الضحايا ، ولكن بالمقابل أليست سياسة العربدة الاسرائيلية المدعومة دوما من امريكا والغرب ، والتي تجلت وما زالت بالعدوان والتصفيات والاحتلال والمستوطنات هي التي استدعت عنفا مكافئا دمويا فلا يفل الحديد الا الحديد ! كارلوس والقذافي وبن لادن ! ربما كانت الصدفة البحتة هي التي جعلت هذا الفيلم المدهش يعرض بالتزامن مع احداث " ربيع الثورات الشعبية العربية " ، ولكن بغض النظر عن طروحات كارلوس الثورية والتي يسميها الغرب "ارهابا " ، الا ان هذا الشريط يؤجج الحنين لنبض الثورة ورغبة الشعوب بالانتقام من جلاديها وطغاتها أيا كانوا ،وربما كان كارلوس شخصية استعراضية (تعاني من جنون العظمة ) ركبت الموج الثوري ووجدت نفسها فيه ، ولكن وبعد حوالي الأربعين عاما من أحداث الفيلم التاريخية تجد الشعوب العربية نفسها مضطرة لأن تقلع شوكها بيدها ، منتفضة من سباتها التاريخي ، ربما بعد ان فاض الكيل بها ويأست ، رافضة أدعياء الثورة والمزيفين والمتبجحين ، بعد ان رفعت بعض الشعوب بعضهم على الأكتاف ، لتكتشف لاحقا بأنهم ضحكوا على شعوبهم وسرقوا الثورة والثروة والمال والمقدرات ، ثم استبدوا وعاثوا طغيانا وفسادا وجبروتا ! لقد تصادف ربما عرض هذا الفيلم مع تداعيات مصير شخصية قيادية مثيرة للجدل والطرافة والغرابة ، وتتصف باحتقارها الشديد لشعبها ودمويتها ، وفي اعتقادي ان هناك أوجه شبه واضحة ما بين الشخصيتين تتراوح ما بين الاستعراض والانتهازية والشعور بالتميز وادعاء الثورية والنضال ، كما في خصائص الاستهتار بالآخرين وحياتهم ، بل حتى بالدموية والرغبة في ابادة الخصم ، ويتجلى كل ذلك في ظاهرة "حب العظمة " وتضخم الأنا والذات ، وربما لم تسنح الظروف التاريخية والشخصية لكارلوس لأن يقود بلدا أو ثورة ، كما كانت الظروف مواتية للقذافي ، الذي ساعدته الظروف السياسية السائدة للحالة العربية بعد هزيمة ال67 ، مع الظروف التي سادت بلده والتركيبة القبلية لشعبه ، فأدعى الثورية ومارس الفوضى والارهاب ، كما بدد ثروات بلاده وهدرها في مشاريع فاشلة ومغامرات عبثية ، ناهيك عن السرقة والفساد ، ثم حانت لحظة الحقيقة بعد ان ساق شعبه للمزيد من التخلف والتراجع والتهميش ، وحول ثروات بلاده الى نقمة بدلا من ان تكون نعمة ! وربما يفكر هذا المخرج الفذ ( والذي تم اختياره كعضو في لجنة تحكيم مهرجان كان لهذا العام ) في البدء ومنذ الآن بالتحضير لفيلم ملحمي (واقعي) عن شخصية بن لادن وذلك بعد عملية اغتياله "السينمائية الطابع "، والتي تبعها عملا "لا أخلاقيا " مقززا تجلى في القاء جثته بالبحر بلا وازع ديني أو أخلاقي ، قبل أن تتحفنا ماكينة السينما الامريكية بفيلم استعراضي (مفبرك) حافل بالمؤثرات والبطولات الوهمية ، طبعا لتضليل الرأي العام ، ولاعلان الانتصار على الارهاب ظاهريا بدون معالجة أهم أسبابه والتي تكمن في الدعم الأمريكي-الغربي المطلق لعربدة واحتلال اسرائيل ، وفي تشجيع بناء المستوطنات ، وفي تقويض بناء المسجد الأقصى بانشاء الممرات والأنفاق ، ثم في الكراهية المستمرة للاسلام وأتباعه وبلا مبرر وسبب ! وبالفعل فالعمل جاهز وينتظر مشهد النهاية ، فصاحبة فيلم " خزانة الألم " والتي حصدت عنه الاوسكار بلا وجه حق (كاتلين بيغلو ) كانت قد حضرت شريطا بعنوان "اقتل بن لادن " تؤرخ فيه لعملية اغتيال فاشلة ، والفيلم كان ينتظر مشاهد النهاية التي اكتملت الآن بعملية الاغتيال , وبانتظار ان يحصد هذا الفيلم الاوسكار في العرض القادم كما حدث مع خزانة الألم الذي زيف وقائع احتلال العراق وركز على البطولات الوهمية للجنود الأمريكان وهم يفككون العبوات الناسفة ! وربما تسعى القاعدة لافساد فرحة اوباما بعملية انتقامية كبيرة ، فلا أحد يعرف ما يخبىء القدر ! مهند النابلسي كاتب من الاردن